التفاسير

< >
عرض

وَٱلضُّحَىٰ
١
وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ
٢
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ
٣
وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ
٤
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ
٥
-الضحى

محاسن التأويل

{ وَالضُّحَى } تقدم في سورة { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } تفسير الضحى بالضوء وارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً.
{ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } أي: اشتد ظلامه. وأصله من التسجية وهي التغطية، لستره بظلمته. كما في آية:
{ { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً } [النبأ: 10] , { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } جواب القسم، أي: ما تركك وما قطعك قطع المودّع.
قال الشهاب في "العناية": فالتوديع مستعار استعارة تبعية للترك هنا، وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعزُّ مفارقته، كما قال المتنبي:

حشاشة نفس ودَّعت يوم وَدَّعوا فلم أَدْر أي: الظاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ

وقال في "شرح الشفاء": الوداع له معنيان في اللغة: الترك وتشييع المسافر، فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركهُ أصلاً، فإنه معهُ أينما كان. وإنما الترك لو تصور في جانبه، ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع؛ فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عودهُ، وإليه أشار الأرجاني بقوله:

إذا رأيت الودَاعَ فاصبرْ ولا يُهمنَّك البعادُ
وانتظر العَوْدَ عن قريبٍ فإن قلب الوداع عادُوا

فقوله: { وَمَا قَلَى } مؤكد له. قال: وهذا لم أر مَن ذكره مع غاية لطفه، وكلهم فسروه بالمعنى الأول. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه، فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفيّ فتركه لحكم عليه، لا لضرره بهجره، أو لنفي القيد والمقيد. وقرئ: { مَا وَدَعَكَ } بالتخفيف. وورد في الحديث "شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه" . وورد في الشعر، كقوله:

فَكَانَ مَا قدَّموا لأنْفُسِهمْ أَعْظَمَ نفعاً من الذي وَدَعُوا

ولهذا قال في "المصباح" بهذا: اعلم أن قولهم في علم التصريف: أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ، وجعله استعارة من الوديعة تعسّف. انتهى.
وكذا قال في "المستوفى": إنه كله ورد في كلام العرب، ولا عبرة بكلام النحاة فيه، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإن كان نادرا. انتهى
وقوله تعالى: { وَمَا قَلَى } أي: وما أبغضك. والقالي: المبغض. يعني ما هجرك عن بغض.
قال الشهاب: وحذف مفعول { قَلَى } اختصاراً للعلم به، وليجري على نهج الفواصل التي بعده، أو لئلا يخاطبهُ بما يدل على البغض.
تنبيه:
روى ابن جرير: عن ابن عباس:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً، فعُيِّر بذلك؛ فقال المشركون: ودعهُ ربُّهُ وقلاهُ؛ فأنزل اللهُ هذه الآية" ، وفي رواية: أن قائل ذلك امرأة أبي لهب، وفي أخرى أنها خديجة رضي الله عنها. ولا تنافي، لاحتمال صدوره من الجميع، إلا أن قول المشركين وقول خديجة - أن صح توجع وتحزن - وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: "فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه. فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني. فجاء جبريل بسورة { والضحى }" .
{ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى } قال ابن جرير: أي: وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها. وقال القاضي: أو: لنهاية أمرك خير من بدايته. فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } أي: يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عِدةٌ كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالجملة فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين، حيث أجملهُ ووكلهُ إلى رضاهُ وهذا غاية الإحسان والإكرام.
تنبيه:
قال في "المواهب اللدنية": وأما ما يغترُّ به الجهال من أنه
"لا يرضى واحداً من أمته في النار" ، أو لا يَرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم، ولعبه بهم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يُدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريراً للجهال وتزييناً لموارد الضلال. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ.... }.