التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
١
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
٢
ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ
٣
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
٤
-الشرح

محاسن التأويل

{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسرهُ ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، وتأييده وعصمته، حتى علم ما لم يعلم، وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء. والهمزة لإنكار النفي، ونفي النفي إثبات؛ ولذا عطف المثبت عليه.
وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه. استعمل في القلب الشرح والسعة، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده؛ فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه، شرحاً وتوسيعاً؛ وذلك لأنه بالإلهام ونحوه مما ينفس كربه ويزيل همهُ، بظهور ما كان غائباً عنهُ وخفياً عليه، مما فيه مسرتهُ، كما يقال: شرح الكتاب، إذا وضحه. ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه؛ ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً، ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً، وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط، هذا ما حققه الشهاب. { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك َ *الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } قال الشهاب: الوزر الحِمل الثقيل. ووضعه: إزالته عنه. لأنه إذا تعدى بـ: على كان بمعنى التحميل، وإذا تعدى بـ: من كان بمعنى الإزالة. والإنقاض: حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحْل أو المركوب إذا ثقل عليه. فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أو صوت، كما قاله الأزهريّ. وقال ابن عرفة: هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضاً، أي: مهزولاً ضعيفاً. وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها. ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعدُ، ودخولهم في دين الله أفواجاً، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذلُّ أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإباء. وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله:
{ { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2].
والوجه الأول أقوى، وفي الآية - على كلٍّ - استعارة تمثيلية، والوضع ترشيح لها.
{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } أي: بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطاً في قبول الإيمان وصحته. وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
وعن مجاهد: أي: لا أذْكَر إلا ذكرتَ معي. قال الشهاب وهذا - أي: المأثور عن مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع؛ فإنه كم ذكر الله وحده ! وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده ! وإن عيِّن موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن جعلت القضية مهملة، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.
قال: وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر، ويردّ السائل غير صفر، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذِّكر في مجامع العبادة ومشاهدها؛ فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها، فتتجه الكلية. فإن قلت: من أين لك هذا التقييد، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟ قلت: المقام ناطق بهذا القيد؛ فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره الدال على ُقربه صلى الله عليه وسلم من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد، وأيُّ إشاعة أقوى من الآذان؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.
ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قالهُ الإمام الشافعيّ في أول"رسالته الجديدة"وبينهُ السبكيّ في تعليقه على الرسالة فقالرحمه الله تعالى: قال الإمام رضي الله تعالى عنه، عن مجاهد في تفسير الآية: لا أذْكر إلا ذكِرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. قال الشافعي: يعني ذكره عند الإيمان بالله والأذان، ويحتمل ذكرهُ عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
قال السبكيّ: هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جداً، وهو مبني على أن المراد بالذكر، الذكر بالقلب، وهو صحيح، فعلى هذا يعم؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به، ذاكراً للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه؛ لأنه المبلغ لها عن الله، هذا أعم من الذكر باللسان، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها. قال الشافعيّ: فلم تُمْسِ بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظاً في دِين أو دنيا، أو رُفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها؛ فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله، تذكر من دل على معرفته وهداهُ إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل:

فأنت باب الله أي: امرئ أتاهُ من غيرك لا يدخل؟

ولك أن تقول: المراد برفع ذكره تشريفه صلى الله عليه وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأولها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدِّين ثم الأذان والصلاة والخطب، فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب.