التفاسير

< >
عرض

ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ
١
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
٢
ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ
٣
ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ
٤
عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
٥
-العلق

محاسن التأويل

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } أي: اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبساً باسمه تعالى، أي: مبتدئاً به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء. قال أبو السعود: والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام، وللإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية، بإنزال الوحي المتواتر.
ووصف الرب بقوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ } لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى الله عليه وسلم منه تعالى. والتنبيه على أن من قدر على خلق الْإِنْسَاْن على ما هو عليه من الحياة، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلاً عن سائر الكمالات، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم، أي: الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء.
وقال الإمام: ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى: كن قارئاً باسم الله من قبيل الأمر التكويني. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً ولا كاتباً؛ ولذلك كرر القول مراراً:
"ما أنا بقارئ" . وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئاً وإن لم يكن كاتباً، فإنهُ سينزل عليه كتاب يقرؤه وإن كان لا يكتبه. ولذلك وصف الرب بالذي خلق، أي: الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها؛ لأنك لم تكن تدري ما الكتاب. فكأن الله يقول: كن قارئاً بقدرتي وبإرادتي. وإنما عبر بالاسم، لأنه كما سبق في سورة سبّح، دال على ما تعرف به الذات، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعاً، لأن القراءة علم في نفس حية؛ فهي تخط ببالك من الله وجودهُ وعلمه وقدرته وإرادته.
أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا: إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله - وهو خلاف المتبادر - فيكون معنى ذلك: إذا قرأت فاقرأ دائماً على أن تكون قراءتك عملاً تنفذه لله لا لغيره، فلو فرض أنهُ قرأ وجعل قراءتهُ لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم، فهو قارئ باسم الله، وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل. ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه. انتهى. وهو جيد.
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } أي: دم جامد، وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه، وتخصيص خلق الْإِنْسَاْن بالذكر من بين سائر المخلوقات، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيماً لشأنه؛ إذ هو أشرفها وإليه التنزيل. وهو المأمور بالقراءة وإنما قال: { عَلَّقَ } دون علقة كما في الآية الأخرى، لرعاية الفواصل، ولأن { الْإِنْسَاْن } مراد به الجنس.
فهو في معنى الجمع؛ فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه. وخص العلق دون غيره من التارات، لأنه أدل على كمال القدر، من المضغة، مع استلزامه لما تقدمهُ، ومع رعاية الفواصل.
قال الإمام: أي: ومن كان قادراً على أن يخلق من الدم الجامد إنساناً، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية، ويسخرها لخدمته، يقدر أن يجعل من الْإِنْسَاْن الكامل مثل النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً، وإن لم يسبق له تعلم القراءة. وجاء بهذه الآية بعد سابقتها، ليزيد المعنى تأكيداً، كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ: أيقن أنك قد صرت قارئاًً بإذن ربك الذي أوجد الكائنات، وما القراءة إلا واحدة منها. والذي أنشأ الْإِنْسَاْن خلقاً كاملاً من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة. وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الْإِنْسَاْن الكامل، فهي أولى بسهولة الإيجاد، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء، في تصييرها ملكة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا كرر الأمر بقوله: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } وجملة { وَرَبُّكُ } إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء، فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك هذه النعمة، نعمة القراءة من بحر كرمه. ثم أراد أن يزيده اطمئناناً بهذه الموهبة الجديدة، فوصف مانحها بأنه { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } أي: أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام؛ فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، ألا يجعل منك قارئاً مبيّناً وتالياً معلماً وأنت إنسان كامل ؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئاً، فقال: { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } أي: أن الذي صدر أمرهُ بأن تكون قارئاً، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة، وسيبلغك فيها مبلغاً لم يبلغهُ سواك، هو الذي علم الْإِنْسَاْن جميع ما هو متمتع به من العلم، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئاً، فهل يستغرب من هذا المعلِّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها ؟ انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" في مباحث عجائب الْإِنْسَاْن وما خلقه من الحكم: ثم تأمل نعمة الله على الْإِنْسَاْن بالبيانين: البيان النطقي والبيان الخطي، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق ٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه، فذكر أولاً عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي، ثم ذكر ثانياً خصوص خلق الْإِنْسَاْن لأنه موضع العبرة. والآية فيه عظيمة، ومن شهوده عما فيه محض تعداد النعم. وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة. وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها. أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار، أو مادة الفرع وهو الماء المهين، وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة؛ فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة، ثم ذكر ثالثاً التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده؛ إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم؛ فجعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان؛ فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم، والتعليم به - وإن كان مما يخلص إليه الْإِنْسَاْن بالفطنة والحيلة - فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله. فهو الذي علمه الكتابة، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم، فإنه علمه فتعلّم كما أنه علمه الكلام فتكلم، هذا ومن أعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخطّ به، ومن هيأ ذهنهُ لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه، ومن الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد؛ فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم؛ فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل. فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك، ورسمها في ذهنك، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشاً عجيباً، معناهُ أعجب من صورته، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسلهُ إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة، فيقوم مقامك، ويترجم عنك، ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسلهُ، سوى من علم بالقلم عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة: مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي، فقد دل التعليم بالقلم أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب.
ودل قوله: { خَلَقَ } على أنه يعطي الوجود العيني. فدلت هذه الآيات - مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها - على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقاً وتعليماً. وذكر من صفاته ها هنا اسم { الْأَكْرَمُ } الذي هو فيه كل خير وكل كمال، فله كل كمال وصفاً، ومنه كل خير فعلاً. فهو { الْأَكْرَمُ } في ذاته وأوصافه وأفعاله، وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه، لا من حاجة دعتهُ إلى ذلك، وهو الغني الحميد.
الثاني: قال الإمام: لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع، فلا أرشدهم الله ابداً.
الثالث: قال الرازي: في قوله: { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة. وفي قوله: { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل على معرفتها إلا بالسمع، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية. والثاني إلى النبوّة. وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية. وقوله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ... }.