التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا
٣
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا
٤
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا
٥
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
٦
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
٧
وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ
٨
-الزلزلة

محاسن التأويل

{ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا } أي: قال مَن يكون مِن الْإِنْسَاْن شاهداً لهذا الزلزال الذي فاجأه ودهشه ولم يعهد مثله: ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة ؟ !
{ يَوْمَئِذٍ } بدل من إذا، أي: في ذلك الوقت { تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } أي: تبين الأرض بلسان حالها، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها. فتدل دلالة ظاهرة على ذلك، وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى. فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة.
قال أبو مسلم: أي: يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله، فكأنها حدثت بذلك كقولك: الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدّث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
{ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } الباء سببية متعلق بـ { تُحَدِّثُ } أي: تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه، وهو إحداث ما تدل به على خرابها.
وقال القاشانيّ: أي: أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال، يعني الأمر التكوينيّ، وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها.
{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً } أي: ينصرفون عن مراقدهم إلى موطن حسابهم وجزائهم، متفرقين سعداء وأشقياء { لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } أي: ليريهم الله جزاء أعمالهم.
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه هنالك. والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر. وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة.
{ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر، يرى جزاءه ثمة.
تنبيهات:
الأول: دل لفظ { مَن } على شمول الجزاء بقسميه للمؤمن وغيره.
قال الإمام: أي: ومن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره، فإنه يراه ويجد جزاءه، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر. غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر، فهم به خالدون في الشقاء. والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار، وأنها لا تنفعهم، معناها هو ما ذكرنا، أي: أن عملاً من أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم، على بقية السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء، كيف لا، والله جل شأنه يقول:
{ { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47].
فقوله: { فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء، وإن كلاً يوفى يوم القيامة جزاءه. وقد ورد أن "حاتماً يخفف عنه لكرمه"، وأن "أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم" وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما، لا أصل له. فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم. على أن كلمة الإجماع، كثيراً ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدِّين، وحجَراً يلقمونه أفواه المتكلمين. وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى، فبئس ما يصنعون. انتهى.
وقد سبقه الشهاب في "حواشيه" على القاضي، حيث ناقش صاحب"المقاصد" في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة. وعبارته: كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية، وهو مخالف لما صرح به في الآية ؟ والذي يلوح للخاطر، بعد استكشاف سرائر الدفاتر، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه. فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل، ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهي. انتهى.
الثاني: قال في "الإكليل": في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن. وفي لفظ: أجمع.
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:
"الجامعة الفاذة" ، حين سئل عن زكاة الحمير فقال: "ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة" : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } إلخ. قال: حسبي. لا أبالي أن لا أسمع غيرها" . ورواه النسائي في تفسيره.