التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣٤
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٥
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٣٦
-يونس

تفسير المنار

{ قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } لم يعطف هذا الأمر ولا ما بعده على ما قبله من تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتجاج على المشركين؛ لأن حكم البلاغة فيه الفصل كأمثاله مما يسرد سردا من جنس واحد من المفردات والجمل. أي قل لهم أيها الرسول: هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله من له هذا الشأن في الكون، وهو بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر سواء كان من الأصنام المنصوبة، أو من الأرواح التي تزعمون أنها حالة فيها، أو من الكواكب السماوية أو غيرها من الأحياء كالجن والملائكة ولما كان هذا السؤال مما لا يجيبون عنه كما أجابوا عن أسئلة الخطاب الأول، لإنكارهم البعث والمعاد - لا لاعتقادهم أن شركاءهم تفعل ذلك - لقن الله رسوله الجواب.
{ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده } فأدمج إثبات البعث في توحيد الربوبية لأنه يقتضيه ويستلزمه، فإن الرب القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى، على أن الذي ينكرونه هو إعادته تعالى للأحياء الحيوانية دون ما دونها من الأحياء النباتية، فهم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض عندما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء، وموته بجفافها في فصل الصيف والخريف ثم إعادته بمثل ما بدأه به مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل هذا البدء والإعادة؛ لأنهم يشاهدون كلا منهما، فهم أسرى الحس والعيان، ثم ينكرون قدرته على إعادة خلق الناس؛ لأنهم لم يشاهدوا أحدا منهم حيي بعد موته، وقد فقدوا العلم ببرهان القياس، وإننا لا نزال نرى أمثالا لهم في جاهليتهم ممن تعلموا المنطق وطرق الاستدلال. وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون من سلطان الأرواح في عالم الأجسام، وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم بأنفسهم، وينبههم للتفكير في أمرهم بقوله: { فأنى تؤفكون } أي فكيف تصرفون عن ذلك وهو من دواعي الفطرة وخاصة العقل في التفكير، للعلم بالحقائق والبحث عن المصير؟.
{ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق }؟ هذا سؤال عن شأن آخر من شئون الربوبية، المقتضية لاستحقاق الألوهية، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية، وهو الهداية التي تتم بها حكمة الخلق كما يدل عليه ذكرها عقبه في آيات أخرى كقوله تعالى:
{ { الذي خلقني فهو يهدين } [الشعراء: 78] { { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، { { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } [الأعلى: 2، 3] وهي أنواع هداية الفطرة والغريزة، وهداية الحواس، وهداية العقل، وهداية التفكر والاستدلال بكل ذلك، وهداية الدين، وهو للنوع البشري في جملته كالعقل لأفراده، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبيله ومنع الصوارف عنه. ولما كان لا يمكنهم أن يدعوا أن أحدا من أولئك الذين أشركوهم في عبادة الله تعالى، بادعاء التقريب إليه والشفاعة عنده، يهدي إلى الحق من ناحية الخلق والتكوين، ولا من ناحية التشريع، لقن الله رسوله الجواب بقوله
{ قل الله يهدي للحق } فعل الهدى يتعدى بنفسه كقوله تعالى:
{ { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6]، { ويهديك صراطا مستقيما } [الفتح: 2] { { لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت: 69] ويتعدى بإلى كقوله: { { وهديناهم إلى صراط مستقيم } [الأنعام: 87]، { { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [يونس: 25] { { يهدي إلى الرشد } [الجن: 2]، { { واهدنا إلى سواء الصراط } [ص: 22] وباللام كقوله { { الحمد لله الذي هدانا لهذا } [الأعراف: 43] { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [الاسراء: 9]، { { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17] فتعديته بنفسه تفيد اتصال الهداية بمتعلقها مباشرة، وتعديته بـ ((اللام)) تفيد التقوية أو العلة والسببية، وبـ ((إلى)) للغاية التي تنتهي إليها الهداية، فهي تشمل مقدماتها وأسبابها من حيث كونها موصلة إلى المنتهى المقصود للهادي السائق إليها، وقد يكون قصده مجهولا لمطيعه كقوله تعالى في الشيطان: { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } [الحج: 4] وكل من هذه الثلاث مستعمل في التنزيل في موضعه اللائق به، يعلم ذلك من له ذوق سليم في هذه اللغة الدقيقة العالية. وقد جمع في هذه الآية بين التعدية بالحرفين، وبين ترك التعدية وهو حذف المتعلق الدال على العموم، وكل منها وقع في موقعه الذي تقتضيه البلاغة فهاكه فلم نر أحدا بينه.
أما الأول: فقد عداه بإلى في حيز الاستفهام الإنكاري؛ للإيذان بأنه لا أحد من هؤلاء الشركاء المتخذين بالباطل يدل الناس على الطريق الذي ينتهي سالكه إلى الحق من علم وعمل وهو التشريع، فهو ينفي المقدمات ونتائجها، والأسباب ومسبباتها، ولو عداه بنفسه لما أفاد إلا إنكار هداية الإيصال إلى الحق بالفعل، دون هداية التشريع الموصلة إليه، ولو عداه باللام لكان بمعنى تعديته بنفسه إن كانت اللام للتقوية أو لإنكار هداية يقصد بها الحق إن كانت للتعليل، والأول أعم وأبلغ كما هو ظاهر.
وأما الثاني: وهو تعديته باللام فهو يستلزم الأول، وإذا جرينا على جواز استعمال اللام بمعنييها على مذهبنا الذي اتبعنا فيه الإمامين الشافعي وابن جرير، يكون معناه: قل الله يهدي لما هو الحق لأجل أن يكون المهتدون به على الحق.
وأما الثالث: أي حذف المتعلق فهو في الشق الثاني من قوله: { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } قرأ (يهدي) يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله يهتدي كما سيأتي في بحث لغة الكلمة، وقرأها حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمي، ومعنى القراءتين مع ما قبلهما نصا واقتضاء: أفمن يهدي إلى الحق ويهدي له ويهديه - وهو الله تعالى - أحق أن يتبع فيما يشرعه، أم من لا يهدي غيره ولا هو يهتدي بنفسه ممن عبد من دونه إلا أن يهديه غيره، أي الله تعالى إذ لا هادي غيره؟ وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى ابن مريم وعزيرا والملائكة عليهم السلام، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم:
{ { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [الأنبياء: 73] وقال النحاس: الاستثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع، فمعنى (إلا أن يهدى) لكنه يحتاج أن يهدى انتهى. فيا لله العجب من هذه البلاغة التي يظهر للمدققين في تعبير القرآن من بدائعها في كل عصر ما فات أساطين بلغاء المفسرين فيما قبله.
{ فما لكم كيف تحكمون } هذا تعجيب من حالهم في جعلهم من هذه حالهم من العجز المطلق شركاء مع القادر على كل شيء، أورده باستفهامين تقريعيين متواليين، والمعنى: أي شيء أصابكم، وماذا حل بكم حتى اتخذتم شركاء هذه حالهم وصفتهم، فجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا هادي لكم ولا لأحد منهم سواه؟ كيف تحكمون بجواز عبادتهم، وبما زعمتم من وساطتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه؟.
ومن القراءات اللفظية التي لا يختلف بها المعنى، قراءة ((يهدي)) المشددة الدال بفتح الياء والهاء بنقل حركة التاء في أصلها (يهتدي) إلى الهاء وإدغامها فيها، وقراءتها بكسرهما معا فالهاء لالتقاء الساكنين والياء لمناسبتها لها، وقراءتها بفتح الياء وكسر الهاء لمناسبة الدال، وهي قراءة حفص التي عليها أهل بلادنا.
{ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا } هذا بيان لحال المشركين الاعتقادية، في إثر إقامة أنواع الحجج على توحيد الربوبية والإلهية، بأسلوب الأسئلة والأجوبة المفيدة للعلم، والهادية إلى الحق، ومنها أنه ليس في شركائهم من يهدي إلى الحق المطلوب في العقائد الدال على ارتقاء العقل وعلو النفس، وهو أن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير ربهم، ولا في إنكارهم للبعث، وتكذيبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ضربا من ضروب الظن، قد يكون ضعيفا كما يشير إليه تنكيره، وذلك كاستبعاد غير المألوف، وقياس الغائب والمجهول على الحاضر والمعروف، وتقليد الآباء ثقة بهم وتعظيما لشأنهم أن يكونوا على باطل في اعتقادهم، وضلال في أعمالهم.
وأما غير الأكثر فكانوا يعلمون أن ما جاءهم به الرسول هو الحق والهدى، وأن أصنامهم وغيرها مما عبدوا لا تنفع ولا تشفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسوله عنادا واستكبارا في الأرض، وضنا برياستهم وزعامتهم أن يهبطوا منها إلى اتباع من دونهم ثروة وقوة ومكانة في قومهم، ويجوز أن يكون التعبير بالأكثر جاء على سنة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب بالحق والعدل. فإنه تارة يحكم على أكثرهم، وتارة يستثني من الاستغراق والإطلاق القليل منهم، كما تقدم نظائره من قبل. فيكون الحكم على الأكثر للإشارة إلى أنه يقل فيهم ذو العلم، فإن قيل: وما حكم الله في الظن؟ فالجواب:
{ إن الظن لا يغني من الحق شيئا } من الإغناء ولو قليلا، أي لا يجعل صاحبه غنيا بعلم اليقين في الحق، فيكون أي الظن بدلا من اليقين في شيء مما يطلب فيه اليقين كالدين؛ فإن الحق هو الأمر الثابت المتحقق الذي لا ريب في ثبوته وتحققه، والمظنون وإن كان راجحا عند صاحبه عرضة للشك، يتزلزل ويزول إذا عصفت به أي عاصفة من الشبهات، والإغناء يتعدى بـ ((عن)) كقوله:
{ { ما أغنى عنكم جمعكم } [الأعراف: 48] { ما أغنى عني ماليه } [الحاقة: 28] { { فما أغنت عنهم آلهتهم } [هود: 101].
وقد عدي هنا بـ ((من)) وفي مثله من سورة النجم، وفي قوله في ظل دخان النار
{ { لا ظليل ولا يغني من اللهب } [المرسلات: 31] وقوله في الضريع من طعام أهلها: { { لا يسمن ولا يغني من جوع } [الغاشية: 7] فعدي بـ ((من)) لإفادة القلة أو لتضمنه معنى البدل أي إن ظل دخان النار لا وارف يمنع الحر ولا يغني من اللهب بأن يقلله أو يزيله ويكون بدلا منه، وإن الضريع الذي هو طعام أهل النار لا يسمن البدن بالتغذية الكافية، ولا يقلل الجوع أو يزيله فيكون بدلا من الطعام الرديء التغذية.
واستدل العلماء بهذه الآية هنا وفي سورة النجم على أن العلم اليقيني واجب في الاعتقاديات، وأن الإيمان المقلد غير صحيح، ويدخل في الاعتقاديات الإيمان بوجوب أركان الإسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية، والإيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك، وقد بينا من قبل أن اليقين المشروط في صحة الإيمان شرعا هو اليقين اللغوي، وهو الاعتقاد الصحيح الذي لا شك معه - لا المصطلح عليه عند نظار الفلسفة والمنطق المؤلف من علمين: (أحدهما) أن الشيء كذا (والثاني) أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا. وأما قولهم: إن الأحكام العملية يكفي فيها الدليل الظني، ففيه أن الدليل الظني لا يثبت به الإيمان بالمظنون، بل التصديق بالمظنون لا يسمى إيمانا. وإنما يعمل في الاجتهاديات خروجا من الحيرة والترجيح بهوى النفس.
{ إن الله عليم بما يفعلون } هذه قضية ثانية مستأنفة خاصة بالعمل، شأنها أن يسأل عنها بعد القضية التي قبلها في الاعتقاد، فهو يقول: إن الله عليم بما كانوا يفعلون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها بحسبه، فالجزاء على مخالفة الاعتقاد القطعي بصدق الرسول من تكذيب وجحود أشد أنواع الجزاء. ويليه التكذيب باتباع الظن كالتقليد. ومن تلك الأفعال الصد عن الإيمان وإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأنواعه، ومنها سائر الشرور والمعاصي الشخصية والاجتماعية كالقتل والفاحشة والسكر والربا إلخ.
والعبرة للمؤمنين بالقرآن في هذه الآية والتي قبلها، وهما من آياته المحكمات في أصول الإيمان والإسلام، أن يكون غرضه من حياته تزكية نفسه وتكميلها باتباع الحق في كل اعتقاد، والهدى وهو الصلاح في كل عمل، وبناؤهما على أساس العلم دون الظن وما دونه من الخرص والوهم، فالعلم المفيد للحق والمبين للهدى في الدين هو ما كان قطعي الرواية والدلالة من الكتاب والسنة الذي قامت به الجماعة الأولى، وهو الشرع العام الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه، فهو مناط وحدتهم، ورابطة جامعتهم، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به في الاعتقاد، وهو متروك للاجتهاد في الأعمال، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية، واجتهاد أولي الأمر في القضاء والإدارة والسياسة، مع تقييدهم فيه بالشورى في استبانة العدل والمساواة والمصالح العامة، كما فصلناه من قبل في مواضعه.
وقد غفل عن هذه القواعد بعض أئمة الفقه، فحكم بتحريم بعض العادات المباحة في الأصل كلعب الشطرنج، وكذا المستحبة كملاعبة الرجل لزوجه، وسماع الغناء، بشبهة أنها من الباطل أو من الضلال، ولا يثبت تحريم شيء من ذلك بدليل ظني فضلا عن قطعي وفاقا للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي المخالف فيه للرواية عن إمامه، وأما المقلدون من المنتمين في الفقه إلى كل مذهب، فقد حرموا على الناس ما لا يحصى بالرأي والأقيسة الوهمية، التي هي دون الأدلة الظنية، وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشبهات الاحتياط كما صرح به في حديث:
"الحلال بين والحرام بين" المتفق عليه، واستفتاء (الوجدان) لحديث: " { استفت نفسك } " رواه البخاري في التاريخ.
وإنما الباطل من الأعمال ما ثبت بطلانه بدليل شرعي قطعي، كما أن الحق فيها ما ثبتت حقيته بدليل قطعي، وبينهما واسطة هي ما لا دليل فيه بخلاف الاعتقاد، فإنه ليس فيه واسطة بين الحق والباطل، ومن الأشياء العملية ما الأصل فيه الإباحة وهو النافع، ومنه ما سكت الشارع عن فرضه وعن تحريمه وعن قواعد حدوده كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" كما في حديث أبي ثعلبة في الأربعين النووية وقد حققنا هذا البحث في تفسير: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } [المائدة: 101] من جزء التفسير السادس.
والذي أريد أن أذكر به كل مسلم هنا أنه لا يوجد الآن في الأرض دين متبع. ولا قانون دولي منفذ، ولا نظام حزبي ولا جماعي ملتزم يفرض على الناس الحق والهدى فرضا دينيا، والاعتماد في استبانتهما على العلم الصحيح، وحصر الاجتهاد والترجيح فيما سواهما. والاعتماد فيه على الوجدان في الشخصيات، والشورى في المصالح العامة. ولن يصلح حال البشر الفردي ولا الاجتماعي والدولي إلا بهذه الأصول التي فرضها الإسلام، وجعلها دينا يدان الله به ليس لأحد تجاوزه، وقد عجزت علوم البشر على اتساعها، وعقولهم على ارتقائها عن الاستغناء عنها بغيرها، فهم كلما ازدادوا علما يزدادون باطلا وضلالا وبغيا، خلافا لدعاة حضارتهم الكاذبين. قال شيخ فلاسفة الأخلاق وعلم الاجتماع في هذا القرن (وهو هربرت سبنسر الإنكليزي) لحكيم الإسلام شيخنا الأستاذ الإمام؟ إن فكرة الحق قد زالت من عقول أمم أوربة ألبتة، فلا يعرفون حقا إلا للقوة، وإن الأفكار المادية قد أفسدت أخلاقهم، وإنه لا يرى من سبيل إلى علاجهم، وإنه لا يزال بعضهم يختبط ببعض - ولعله ذكر الحرب - ليتبين أيهم الأقوى ليسود العالم.
وقد وقع ما توقعه هذا الحكيم في سنة 1903 بالحرب الكبرى مدة أربع سنين (من 1914 - 1918) فازدادت الأمم والدول شقاء وفسادا وطغيانا وإباحة، حتى جزم كثير من عقلائهم بأنه لا علاج لهذا الفساد في البشر إلا الهداية الروحية الدينية، وسيعقدون لذلك مؤتمرا عاما في الولايات المتحدة الأميركانية، ولن يجدوا العلاج المطلوب إلا في هذه الأصول من القرآن وما فصلناها به في مباحث (الوحي المحمدي) من هذا التفسير، ثم جمعناه في كتاب مستقل مع زيادة في تفصيله، فعسى أن يسبقهم المسلمون إلى العمل به ونشره.