التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٦٣
لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٤
-يونس

تفسير المنار

لما بين تعالى لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاءه أعمالهم عليهم، وجزاءهم عليها، وذكرهم بفضله، وما يجب عليهم من شكره، بين لهم في هذه الآيات الثلاث حال الشاكرين المتقين، الذين لهم أحسن الجزاء في يوم الدين فقال: { ألا إن أولياء الله } افتتحت هذه الجملة بكلمة (ألا) للتنبيه وتوجيه الفكر لها، والأولياء: جمع ولي وهو وصف من الولاء والتوالي، ومن الولاية والتولي، فيطلق على القريب بالنسب وبالمكانة والصداقة، وعلى النصير، والمتولي للأمر والحكم أو على اليتيم والقاصر المدبر لشئونه، ويوصف به العبد والرب تعالى كما تقدم في قوله تعالى: { { الله ولي الذين آمنوا } [البقرة: 257] وفصلنا الكلام في تفسيره بما بينا به ولاية الله العامة والخاصة لعباده، وولايتهم له، أو للشيطان والطاغوت، وولاية بعضهم لبعض وضلال بعضهم بجعل ولاية الله الخاصة به لبعض عباده، وهم الذين يسمونهم أولياء الله بما يسلبهم استحقاق هذا اللقب، وذكرنا في شواهد ذلك التفسير هذه الآية.
أولياء الله أضداد أعدائه المشركين به، والكافرين بنعمه، فهم المؤمنون المتقون كما نطقت به الآية، وهم درجات أعلاهم درجة هم الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده، والتوكل عليه، وحبه والحب فيه، والولاية له، فلا يتخذون له أندادا يحبونهم من نوع حبه، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى، ولا وكيلا ولا نصيرا فيما يخرج عن توفيقهم لإقامة سننه في الأسباب والمسببات، ويتولون رسوله والمؤمنين بما أمرهم به، قال تعالى:
{ { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون } [الأنعام: 51] وقال: { { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } [السجدة: 4] وقال: { { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } [الأحزاب: 17] وقال في آيتين أخريين منها: { { وكفى بالله وكيلا } [النساء،81] والآيات كثيرة في توليهم له بالطاعة، وتوليه لهم بالهداية والعناية والإعانة والنصر والتوفيق.
وحسبنا هنا ما نفاه عنهم وما وصفهم به ثم ما زفه إليهم من البشارة، فأما ما نفاه مخبرا به عنهم فقوله: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وهو ما نفاه عن جميع المؤمنين الصالحين والمصلحين والمتقين في الآيات الكثيرة (راجع 2: 62، 5: 69 و6: 48، 7: 35، 49 وقد تقدم تفسيرها) فأما في الآخرة حيث يتحقق هذا على أتم وجه وهو المقصود بالذات فلا خوف يقع عليهم ويرهقون به مما يخاف الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة، كما قال تعالى بعد ذكر إبعادهم عن جهنم:
{ { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [البقرة: 103] الآية.
ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم، وأما في الدنيا فلا يخافون مما يخاف غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كلقاء العدو، قال:
{ { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175] أو بخس في الحقوق أو رهق يغشاهم بالظلم والذل، قال: { { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } [الجن: 13].
ولا هم يحزنون من مكروه أو ذهاب محبوب وقع بالفعل كما قال:
{ لكي لا تأسوا على ما فاتكم } [الحديد: 23] والمراد أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار ولا يحزنون كحزنهم، وسنذكر نفي الخوف والحزن عنهم عند الموت وأما أصل الخوف والحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا، وإنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس وأرضاهم بسنن الله، اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشيء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة.
وأما ما وصفهم وعرفهم به فقوله: { الذين آمنوا وكانوا يتقون } فهذا استئناف لبيان حال هؤلاء الأولياء النفسية العلمية والعملية. أي هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وملكة التقوى له عز وجل، وما تقتضيه من عمل. وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضي لبيان أنه كان كاملا باليقين، لم يزلزله شك ولم يحصل بالتدريج، وعن تقواهم بالفعل الذي يدل على الحال والاستقبال لأن التقوى تتجدد دائما بحسب متعلقاتها: من كسب وحرب، وشهوة وغضب، والمعنى الجامع فيها أنها اتقاء كل ما لا يرضي الله تعالى من ترك واجب ومندوب، وفعل محرم ومكروه، واتقاء مخالفة سنن الله تعالى في خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة. وقد فصلنا هذا في مواضع من أهمها تفسير قوله تعالى:
{ { ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم } [الأنفال: 29].
وأما البشرى التي زفها إليهم فهي قوله: { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } البشرى: الخبر السار الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتهلل وتبرق أساريره. وهذه البشرى مبينة في مواضع من كتاب الله تعالى، وقد يراد بها متعلقها الذي يبشرون به، ولم يذكر هنا ليشمل كل ما بشروا به في كتاب الله تعالى وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأما البشرى في الحياة الدنيا فأهمها البشارة بالنصر، وبحسن العاقبة في كل أمر، وباستخلافهم في الأرض ما أقاموا شرع الله وسننه، ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وأما في الآخرة فمن أكملها وأجمعها لمعاني الآية لأكملهم قوله:
{ { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم } [فصلت: 30-32].
المشهور في تنزل الملائكة عليهم أنه يكون عند البعث، وكذا عند الموت، ولا مانع من شموله لما في الملائكة الذين أمد بهم أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر:
{ { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم } [آل عمران: 126] الآية. ثم قال: { { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } [8: 12] وقد يكون منه إلهام الحق والخير كما ورد في حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فيتعوذ بالله من الشيطان" .
{ لا تبديل لكلمات الله } أي لا تغيير ولا خلف في مواعيد الله عز وجل، ومنها هذه البشارات وما في معناها من الآيات { ذلك هو الفوز العظيم } أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز العظيم الذي لا يعلوه فوز وإنما هو ثمرة الإيمان الحق، والتقوى العامة في حقوق الله وحقوق الخلق.
ما ورد من الأخبار والآثار في الأولياء:
ذكر بعض المفسرين في تفسير الآية بعض الأخبار النبوية، ولا يصح منها حديث مرفوع متصل الإسناد، وأقرب ما رووه في تفسيرها إلى اصطلاحهم في الأولياء حديث أبي هريرة المرفوع:
"إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل: من هم يا رسول الله؟ قال هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ: { { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [يونس: 62] أخرجه ابن جرير من طريق شيخه أبي هشام الرفاعي وهو محمد بن يزيد بن كثير العجلي الكوفي، قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه، ورواه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب بمثل سند ابن جرير عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمرو، وقال بعضهم: وأخرجه الحاكم وصححه ولم أره في تفسير السورة من المستدرك وما كل ما صححه الحاكم بصحيح.
ومتن هذا الحديث مشكل لأنه يدل على تفضيل الأولياء على الأنبياء وهو مخالف لإجماع علماء المسلمين، موافق لقول بعض أولياء الشياطين: إن الولي أفضل من النبي، من حيث إن ولاية النبي أفضل من نبوته، وهو تأويل شيطاني.
ومثله حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا
"يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" والحديث مطول أخرجه الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب، وفيه مقال لهم أهونه ما اكتفى به الحافظ في التقريب وهو أنه صدوق كثير الإرسال والأوهام، وذكر في تهذيب التهذيب: أنه مما قيل فيه إنه يروي المنكرات عن الثقات، وقال ابن حزم هو ساقط، وقال ابن عدي: ضعيف جدا.
وورد عدة روايات مرفوعة وآثار في تفسير البشرى في الدنيا بالرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو المؤمن أو ترى له. وعليه ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس من الصحابة، ومجاهد وعروة بن الزبير ويحيى بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء ابن أبي رباح من التابعين وغيرهم وفسرها بعضهم بآية ((حم)) السجدة التي أوردناها آنفا مع تفسيرها. وروي عن ابن عباس وغيره أن الأولياء هم الذين إذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم ورواه بعضهم مرفوعا وهو ضعيف، وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنهما قالا: إذا لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله تعالى ولي، قال النووي والمراد بهم العلماء العاملون. فهذه خلاصة الروايات في الآية.
وإننا لم نر في الأحاديث الصحيحة في الأولياء ما هو أقرب إلى كلام الصوفية منه إلى كلام الله عز وجل إلا حديث:
"من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب" إلخ. وقد انفرد به البخاري وفي سنده غرابة كمتنه. قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد - إلى أن قال - وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد وليس في مسند أحمد مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا له مناكير.
(ثم قال) وقد روي من وجوه أخر لا تخلو كلها من مقال. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب اختلافا في أئمة الجرح والتعديل في خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير ومنه: في (الميزان) للذهبي قال: أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الأزدي: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق، ومنه قول ابن سعد: كان منكر الحديث متشيعا مفرطا في التشيع وكتبوا عنه للضرورة، وذكر بعض هذا الجرح وغيره في مقدمة (فتح الباري) وأجاب عنه بما حاصله أن التشيع لا يضر مثله، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري (قال) بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبي هريرة:
"من عادى لي وليا" الحديث ا ه.
(أقول) وأما الغرابة في متن هذا الحديث فهو قوله تعالى:
"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به" إلى آخر الذي استدلوا به على الحلول والاتحاد، وقد أوله العلماء وبينت أمثلة تأويل له عندي في الكلام على حب الله تعالى من تفسير (9: 24 ص 214 ج 10 ط الهيئة) فراجعه يغنك عن ذكره كله هنا.
(أولياء الخيال وأولياء الطاغوت والشيطان)
ذلك ما فسرنا به الآيتين بشواهد مما في معناهما من الآيات، والقرآن خير ما يفسر به القرآن وأصحه، وكل ما خالفه وخرج عنه فهو باطل، وعزرناه بأمثل ما روي من الأخبار والآثار فيهما، فأولياء الله الذين يشهد لهم كتابه بالولاية له هم المؤمنون الصالحون المتقون، ولكن اشتهر بين المسلمين بعد عصر السلف ما يدل على أن الأولياء عالم خيالي غير معقول، لهم من الخصائص في عالم الغيب، والتصرف في ملكوت السماوات والأرض، فوق كل ما ورد في كتاب الله وأخبار رسوله الصادقة في أنبياء الله المرسلين، بل فوق كل ما وصف به جميع الوثنيين آلهتهم وأربابهم التي اتخذوها من دون الله، وينقلون مثل هذه الدعاوى عن بعض من اشتهروا بالولاية ممن لهم ذكر في التاريخ، ومن لا ذكر لهم إلا في كتب الأدعياء الذين فتنوا المسلمين والمسلمات بهم، ممن يسمون بالمتصوفة وأهل الطريق، ينقلون عنهم ما يؤيدون به مزاعمهم الخرافية الشركية كما ترى فيما ننقله من الشواهد الآتية:
ولئن أنكر عليهم منكر، واحتج عليهم بكتاب ربهم وحديث نبيهم مفسر أو محدث ليقولن هذا ضال مضل منكر للكرامات مخالف للقرآن وقرءوا عليه
{ { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [يونس: 62] وهل هذه الآية إلا كقوله تعالى: { { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 62] وغيره مما أوردنا من الشواهد آنفا، نعم إن هؤلاء المؤمنين الصالحين درجات أشرنا آنفا إلى أدناها وأعلاها، وفصلنا القول فيهم في الكلام على حب الله ورسوله من تفسير (يونس: 24).
هذه الولاية الخيالية المبتدعة من محدثات الصوفية ألبسوها أولا ثوب الشريعة وجعلوا للشريعة مقابلا سموه الحقيقة، ثم صاروا يلبسونها عليها لبسا، ويبعدون بها عنها معنى وحسا بقدر ما يبعدون عن الاتباع، ويوغلون في الابتداع، واعتبر في ذلك بسيرة سلفهم الأولين كالحارث المحاسبي والسري السقطي ومنصور بن عمار والجنيد والشبلي وجمهور رجال رسالة القشيري، ومثل أبي إسماعيل الهروي وسيرة من بعدهم، فإن أكثر أولئك قد رووا الحديث وتفقهوا في الدين، وكانوا يتحرون الاعتصام بالكتاب والسنة، ويحذرون ويحذرون أتباعهم من البدع، ويحثون على اتباع السلف، من الصحابة والتابعين وأئمة آل البيت وحفاظ السنة وعلماء الأمصار كالأربعة وطبقتهم، ولولا هذا لكان بينهم وبين غلاة متصوفة القرون الوسطى ومن بعدهم من المبتدعة والدجالين أصحاب الدعاوى العريضة والخرافات الشنيعة مثل ما بين صوفية البرهمية والإسلام، وكتابهم (الفيدا) وكتابه القرآن.
أمرر ببصرك على طبقات الشعراني الكبرى، فإنك لا ترى فيها فرقا كبيرا بين سيرة أئمة الحديث والفقه وأئمة التصوف في العبادة والتقوى والعلم والحكمة ثم انظر في سيرة من بعدهم من صوفية القرون الوسطى ثم قرن المؤلف وهو العاشر وتأمل ووازن تر في أولياء الشعراني المجانين والمجان والقذرين الذين تتناثر الحشرات من رءوسهم ولحاهم وثيابهم التي لا يغسلونها حتى تبلى أو في السنة مرة واحدة تجد ذلك البون الشاسع فيهم، وهم مع ذلك يفضلون أنفسهم على الأنبياء، ومنهم من يدعي الاتحاد بالله أو الألوهية.
تأمل ما كتبه في ترجمة الذين يسمونهم الأقطاب الأربعة، فإنك لا تجد فيه لأحد منهم أنه كان ينفع الناس بعلوم الشرع إلا الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتجد أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يوبخه علماء عصره، ويخاطبونه بلقب الدجال ويرمونه بالجمع بين النساء والرجال وأما الدسوقي فكتب عنه أنه كان يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحوش، ونقل عنه كتابا من هذه اللغات أرسله إلى أحد مريديه، وهو خلط مخترع ليس منها في شيء وسلاما مثله أرسله مع أحد الحجاج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه قوله: ((موز الرموز، عموز النهوز، سلاحات أفق، فردنانية امق، شوامق اليرامق حيد وفرقيد وفرغاط الأسباط، إلخ، فما معنى هذا وأي فائدة للناس فيه؟.
ونقل عنه كلاما من المعهود من أمثاله الصوفية منه النافع والضار، فمن الحق النافع ما معناه أنه لو لم تغلب عليهم الأحوال لما قالوا في التفسير إلا صحيح المأثور، ومن الضار الذي أفسد على المصدقين بولاية هؤلاء الناس دينهم وهو مما نحن فيه قوله: وكان - رضي الله عنه - يقول:"أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي - رضي الله عنه - في حملاته أنا كل ولي في الأرض خلقته بيدي، ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي وعلى الكرسي خاطبته أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس... إلخ"، وقوله وهو في تفسير الآية: (واعلم يا ولدي أن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون متصلون بالله، وما كان ولي متصل بالله إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه، وما من ولي إلا وهو يحمل على الكفار كما كان علي - رضي الله عنه - يحمل، وقد كنت أنا وأولياء الله أشياخا في الأزل، بين يدي قديم الأزل، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي فخلعت عليهم بيدي، وقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا إبراهيم أنت نقيب عليهم فكنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخي عبد القادر خلفي وابن الرفاعي خلف عبد القادر ثم التفت إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لي: ((يا إبراهيم سر إلى مالك وقل له يغلق النيران، وسر إلى رضوان وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أمر به، ورضوان ما أمر به)) إلخ وله ما هو أغرب منه.
وذكر الشعراني أنه أطال في هذا الكلام وهو من مقام الاستطالة، تعطي الرتبة صاحبها أن ينطق بما ينطق به، وقد سبقه إلى نحو ذلك الشيخ عبد القادر الجيلي - رضي الله عنه - وغيره فلا ينبغي مخالفته إلا بنص صريح ا ه.
ونقول: إن مثبت هذه الدعاوى المنكرة في عالم الغيب من شئون رب العالمين وملائكته وأكرم رسله وجنته وناره، هو الذي يحتاج في إثباته إلى النص الصريح دون منكره فإنه يتبع الأصل، والإجماع على أن شيئا من ذلك لا يثبت إلا بنص قطعي، وسنذكر ما انتهت إليه هذه الدعاوى في إفساد الدين، وإضلال الملايين من المسلمين.
جاء في كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي مس بيده سمكة، فأرادوا شيها بالنار فلم تؤثر فيها النار. فذكروا له ذلك فقال: وعدني العزيز أن كل ما لمسته يد هذا اللاش حميد لا تحرقه النار في الدنيا ولا في الآخرة، وجاء فيها أن سيدي أحمد الرفاعي كان يميت ويحيي ويسعد ويشقي، ويفقر ويغني، وأنه وصل إلى مقام صارت السماوات السبع في رجله كالخلخال وفي البهجة الرفاعية أن سيدهم أحمد الرفاعي باع بستانا في الجنة لبعض الناس وذكر له حدودا أربعة. وقد نقلت هذا وما قبله في كتابي (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية).
وجاء في بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي أنه مات بعض مريديه، فشكت إليه أمه وبكت فرق لها فطار وراء ملك الموت في المساء وهو صاعد إلى السماء يحمل في زنبيل ما قبض من الأرواح في ذلك اليوم، فطلب منه أن يعطيه روح مريده أو أن يردها إليه فامتنع، فجذب الزنبيل منه فأفلت فسقط جميع ما كان فيه من الأرواح فذهبت كل روح إلى جسدها، فصعد ملك الموت إلى ربه وشكا له ما فعله عبد القادر فأجابه الرب سبحانه بما امتنعنا من نقله، إذ نقلنا هذه الخرافة في الجزء الأول من المجلد التاسع من المنار تنزيها وأدبا مع ربنا عز وجل.
ونقلنا ثم أن خطيبا خطب المسلمين في الهند ذاكرا مناقب الشيخ عبد القادر فقال إن حدأة خطفت قطعة لحم مما ذبح للشيخ عبد القادر في مولده - كما كانوا يذبحون للأصنام - فوقعت عظمتها في مقبرة فغفر الله تعالى لجميع من دفن فيها كرامة للشيخ عبد القادر، ويا ويل من ينكر أمثال هذه الخرافات فيستهدف لرميه بمخالفة قوله تعالى
{ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [يونس: 62] وإنكار الكرامات وقول اللقاني:

وأثبتن للأوليا الكرامه ومن نفاها فانبذن كلامه

ومن هذه الكرامات بزعمهم ادعاء الوحي ولا ينافيها عندهم معارضة القرآن وعبادة الشيطان وعلم الغيب، وملك النفع والضر، وتدبير الأمر، وترك الفرائض وارتكاب الفواحش ; لأنها لا تكون من أوليائهم إلا صورية لمصلحة وكذا الكفر الصريح كما ترى في الشواهد الآتية:
(الشاهد الأول كرامات ولي شيطاني موحد ألوهية إبليس).
قال الشعراني في ترجمة الشيخ محمد الحضري: ((كان من أصحاب جدي - رضي الله عنهما -، وكان يتكلم بالغرائب والعجائب من دقائق العلوم والمعارف ما دام صاحيا، فإذا قوي عليه الحال تكلم بألفاظ لا يطيق أحد سماعها في حق الأنبياء وغيرهم، وكان يرى في كذا كذا بلدا في وقت واحد، وأخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة فقال: بسم الله فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجده ثم قال وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس - عليه الصلاة والسلام -. فقال الناس: كفر، فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس عند المنبر إلى أذان العصر، وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع، ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة فأخبر أهل كل بلد أنه خطب عندهم وصلى بهم، قال فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالسا عندنا في بلدنا.
((وأخبرني الشيخ أحمد القلعي أن السلطان قايتباي كان إذا رآه قاصدا له تحول ودخل البيت خوفا أن يبطش به بحضرة الناس، وكان إذا أمسك أحدا يمسكه من لحيته ويصير يبصق على وجهه ويصفعه حتى يبدو له إطلاقه، وكان لا يستطيع أكبر الناس أن يذهب حتى يفرغ من ضربه، وكان يقول: لا يكمل الرجل حتى يكون مقامه تحت العرش على الدوام، وكان يقول الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم، توفي - رضي الله عنه - سنة سبع وتسعين وثمانمائة - رضي الله عنه - ا ه. ص 94 ج 2 طبقات.
(أقول) لولا أن سلطان هؤلاء القوم مجنون بالخرافات مثلهم، لما كان لمثل هذا المجنون مأوى إلا البيمارستان يكف كفره وشره عنهم.
(الشاهد الثاني كرامة ولي العاهرات والزناة الفاعل بالأتان)
قال في ترجمة من سماه (سيدي علي وحيش من مجاذيب النحارية) كان (رضي الله عنه) من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال، وكان يأتي مصر والمحلة وغيرهما من البلاد وله كرامات وخوارق، واجتمعت به يوما في خط بين القصرين فقال لي: وديني للزلباني فوديته له فدعا لي وقال: الله يصبرك على ما بين يديك من البلوى. وأخبرني الشيخ محمد الطنيخيرحمه الله تعالى قال: كان الشيخ وحيش (رضي الله عنه) يقيم عندنا في المحلة في خان بنات الخطأ (أي العاهرات) وكان كل من خرج يقول له قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج، فيشفع فيه، وكان يحبس بعضهم اليوم واليومين ولا يمكنه أن يخرج حتى يجاب في شفاعته، وقال يوما لبنات الخطأ: اخرجوا فإن الخان رائح يطبق عليكم فما سمع منهن إلا واحدة فخرجت ووقع على الباقي فمتن كلهن، وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له امسك رأسها حتى أفعل فيها: فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمح حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة، وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عثمان - رضي الله عنه - فقال: هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة)) ا ه. (ص 129 منه) وولاية هذا المجنون أنه قواد للعاهرات بضمانه المغفرة لمن يفجر بهن بشفاعته، وأضل منه علماء الخرافات المدعون لكرامته.
(الشاهد الثالث ولاية مجنون معارض للقرآن بالكفر والهذيان)
قال في ترجمة الشيخ شعبان المجذوب أنه كان من أهل التصريف بمصر المحروسة ونقل عن شيخه علي الخواص أن الله تعالى كان يطلعه على جميع ما يقع في السنة عند رؤية هلالها وأنه كان يسأله عما يشكل عليه (ثم قال) وكان يقرأ سورا غير السور التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد وكان العامي يظن أنها من القرآن لشبهها بالآيات في الفواصل.
((وقد سمعته مرة يقرأ على باب دار على طريقة الفقهاء الذين يقرءون في البيوت فصغيت إلى ما يقول فسمعته يقول: وما أنتم في تصديق هود بصادقين، ولقد أرسل الله لنا قوما بالمؤتفكات يضربوننا، ويأخذون أموالنا وما لنا من ناصرين، ثم قال: اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان - إلى آخر ما قال)).
ثم ذكر أنه كان عريانا دائما إلا أنه يستر سوأتيه بقطعة جلد أو بساط أو حصير لأنه كان يحرم كل ما عدا ذلك من زينة الدنيا قال: ((وكانت الخلائق تعتقده اعتقادا زائدا لم أسمع قط أن أحدا ينكر عليه شيئا من حاله، بل يعدون رؤيته عيدا عندهم تحنينا عليه من الله تعالى مات سنة نيف وتسعمائة)) ا ه ص 160 منه.
(أقول) إذا كان الشعراني من أكبر علماء الأزهر ومؤلفيه يعد هذا المجنون من أولياء الله، ويترضى عنه كلما ذكره وإن تكرر ذكره في سطر واحد، وكان شيخه علي الخواص يتلقى عنه حل مشكلات المعارف الإلهية ويعتمد على كشفه، فهل نكون مخطئين إذا قلنا إن جميع من شهد لهم بالولاية والكرامة كانوا خرافيين مجانين مثله، وأي قيمة كانت في عصره للعقل والعلم والدين؟ وهل يوجد دليل على أن ذلك الجنون كان تخبطا شيطانيا لا جذبا إلهيا أقوى من معارضة صاحبه للقرآن بمثل ما نقله الشعراني مما سمعه ورآه منه ورواه عنه من الهذيان؟.
(شواهد أخرى عن المعروف بالتجاني تابعة لما قبلها)
كان من فساد هذا التصوف الذي بثه الشعراني وأمثاله في المسلمين، أن وجد في المغرب الأقصى في القرن الثالث عشر للهجرة شيخ اسمه الشيخ أبو العباس أحمد التجاني، صار له طريقة من أشهر الطرق امتدت من المغرب الأقصى إلى السودان الفرنسي والجزائر فتونس فمصر، وصار لها مئات الألوف من الأتباع لما فيها من الغلو في الدعاوى والخرافات والابتداع وتفضيل شيخها نفسه على جميع من سبقه من أقطاب الأولياء وكذا الأنبياء بأمور منها ضمان النبي - صلى الله عليه وسلم - له ولأصوله وفروعه وأتباعه ولكل من يكرمه ويحسن إليه ولو بالطعام أعلى منازل الجنة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير حساب ولا عقاب ; لأن جميع معاصيهم وتبعاتهم تغفر لهم لأجله إلخ، كان الغرض من طريقته أكل أموال الناس وطعامهم والجاه عندهم خلافا لجميع صوفية العالم، وقد ألف أحد أتباعه كتابا كبيرا في مناقبه وكراماته وأوراده تلقاها من لسانه وقلمه، هدم بها هدي كتاب الله وسنة رسوله مدعيا أنه تلقاها منه - صلى الله عليه وسلم - وسماه (جواهر المعاني) وهاك بعض الشواهد منه:
(الشاهد الرابع ضمان دخول الجنة لكل من له علاقة بالتجاني بلا حساب ولا عقاب).
قال المؤلف في الفصل الثاني من الباب الأول.
قال (رضي الله عنه) أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناما قال لي: أنت من الآمنين وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها، وكل من أطعمك (!) يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب.
(ثم قال) فلما رأيت ما صدر لي منه - صلى الله عليه وسلم - من المحبة وصرح لي بها تذكرت الأحباب ومن وصلني إحسانهم، ومن تعلق بي بخدمة، وأنا أسمع أكثرهم يقولون لي نحاسبك بين يدي الله إن دخلنا النار وأنت ترى، فأقول لهم: لا أقدر على شيء، فلما رأيت منه - صلى الله عليه وسلم - هذه المحبة سألته لكل من أحبني ولم يعادني بعدها، ولكل من أحسن إلي بشيء من مثقال ذرة فأكثر ولم يعادني (؟) بعدها، وآكد ذلك من أطعمني طعامه (!!) قال: كلهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب)).
((قال: وسألته - صلى الله عليه وسلم - لكل من أخذ عني ذكرا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، وأن تؤدى عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يرفع الله عنهم محاسبته على كل شيء، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة، وأن يدخلوا الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا كلهم معي في عليين في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي - صلى الله عليه وسلم -: ضمنت لهم هذا كله ضمانة لا تنقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين.
(قال المؤلف) ثم اعلم أني بعد ما كتبت هذا من سماعه وإملائه علينا (رضي الله عنه) من حفظه ولفظه اطلعت على ما أرسمه، من خطه، ونصه:
((أسأل من فضل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب أنا وكل أب وأم ولدني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، وجميع ما ولد آبائي وأمهاتي من أبوي إلى الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة (؟) من جهة أبي ومن جهة أمي من كل ما تناسل منهم (؟) من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث، والصغار والكبار، وكل من أحسن إلي بإحسان من مثقال ذرة فأكثر، من خروجي من بطن أمي إلى موتي.
وكل من له علي مشيخة في علم أو ذكر أو سر من كل من لم يعادني من جميع هؤلاء. وأما من عاداني أو أبغضني فلا، وكل من أحبني ولم يعادني (؟) وكل من والاني واتخذني شيخا أو أخذ عني ذكرا، وكل من زارني وكل من خدمني أو قضى لي حاجة أو دعا لي، كل هؤلاء من خروجي من بطن أمي إلى موتي وآبائهم (؟) وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم ووالدي أزواجهم يضمن لي سيدنا رسول الله ولكل واحد من هؤلاء أن أموت أنا وكل حي منهم على الإيمان والإسلام، وأن يؤمننا الله وجميعهم من جميع عذابه، وعقابه وتهويله وتخويفه ورعبه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة وأن تغفر لي ولجميعهم جميع الذنوب ما تقدم منها وما تأخر وأن تؤدي عني وعنهم جميع تبعاتنا وتبعاتهم، وجميع مظالمنا ومظالمهم من خزائن فضل الله لا من حسناتنا، وأن يؤمنني الله وجميعهم من جميع محاسبته ومناقشة سؤاله عن القليل والكثير يوم القيامة، وأن يظلني الله وجميعهم في ظل عرشه يوم القيامة، وأن يجيزني ربي أنا وكل واحد من المذكورين على الصراط أسرع من طرفة العين على كواهل الملائكة، وأن يسقيني الله وجميعهم من حوض سيدنا محمد يوم القيامة، وأن يدخلني ربي وجميعهم جنته بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى وأن يجعلني ربي وجميعهم مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس ومن جنة عدن.
أسأل سيدنا رسول الله بالله أن يضمن لي ولجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب كل ما طلبته من الله لي ولهم في هذا الكتاب بكماله كله، ضمانا يوصلني وجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب إلى كل ما طلبته من الله لي ولهم (كذا بهذا التكرار).
فأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله الشريف: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبدا إلى أن تكون أنت وجميع ما ذكرت في جواري في أعلى عليين، وضمنت لك جميع ما طلبت منا ضمانة لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام، انتهى بحروفه ولحنه وتكراره من ص 91 و92 ج1 - قال المؤلف:
ثم قال (رضي الله عنه) وكل هذا وقع يقظة لا مناما. ثم قال: وأنتم وجميع الأحباب لا تحتاجون إلى رؤيتي إنما يحتاج إلى رؤيتي من لم يكن حبيبا يعني تابعا ولا آخذا عني ذكرا ولا أكلت طعامه، وأما هؤلاء فقد ضمنهم لي بلا شرط رؤية مع زيادة أنهم معي في عليين)) ولو روي هذا عنه في حياته لأجمع العلماء على أنه مفترى عليه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال التجاني: وأما من رآني فقط غايته يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، ولا مطمع له في عليين إلا أن يكون ممن ذكرتهم وهم أحبابنا ومن أحسن إلينا ومن أخذ عنا ذكرا فإنه يستقر في عليين معنا. وقد ضمن لنا هذا بوعد صادق لا خلف فيه إلا أني استثنيت من عاداني بعد المحبة والإحسان فلا مطمع له في ذلك، فإن كنتم متمسكين بمحبتنا فأبشروا بما أخبرتكم به فإنه واقع لجميع الأحباب قطعا ا ه.
وهاهنا ذكر مؤلف الكتاب أن هذه الكرامة العظيمة المقدار، وهي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب لمن ذكرهم، لم تقع لأحد من الأولياء قبله إلخ، ويزيد عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضمن مثل هذا في حياته لأحد من أهل بيته ولا خواص أصحابه من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - حتى العدد القليل الذين بشرهم بالجنة كالعشرة لم يضمن لهم ما زعم التجاني أنه ضمنه لمن لا يحصى عددا من أصوله وفروعه وأتباعه، ولا يوجد في شريعته ما يدل على أن الله تعالى أذن له بمثل هذا، بل قاعدة دينه وشريعته أن الغرم بالغنم، فمن تضاعف حسناتهم تضاعف سيئاتهم كما صرح به الكتاب العزيز في خطاب نسائه - صلى الله عليه وسلم - من سورة الأحزاب.
وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لما نزل عليه:
{ { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214] جمعهم وكان مما قاله لهم: "اعملوا لا أغني عنكم من الله شيئا" قال هذا لعمه وعمته - رضي الله عنهما - ولبنته السيدة فاطمة سيدة النساء عليها السلام، فكلام التجاني صريح في أن جميع أتباعه وأقاربه ومحبيه والمحسنين إليه يكونون في عليين فوق أتباع جميع الأنبياء ومحبيهم، وإلا لما بقي للجنات السبع أحد يسكنهن وهو افتراء لم يتجرأ عليه أحد من المجازفين قبله.
(الشاهد الخامس عنه تفضيل أوراده المبتدعة على جميع العبادات المأثورة).
ذكر مؤلف هذا الكتاب صلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - يسمونها صلاة الفاتح، وغلا فيما زعمه من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له يقظة بها والغلو في ثوابها وهذا نصها:
((اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم)) وذكر أن شيخه التجاني كان يقرؤها ثم تركها لصلاة أخرى المرة الواحدة منها بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إليها وقال في ص 96 من الجزء الأول ما نصه:
((فلما أمرني عليه السلام بقراءتها سألته عن فضلها فأخبرني أولا بأن المرة الواحدة تعدل من القرآن ست مرات ثم أخبرني ثانيا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء صغير أو كبير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار)).
(قال) ((ومن جملة الأدعياء (كذا) دعاء السيفي، ففي المرة الواحدة منه ثواب صوم رمضان وقيام ليلة القدر وعبادة سنة كما أخبرني به سيدنا عن سيد الوجود.
((وأعظم من دعاء السيفي دعاء: يا من أظهر الجميل إلخ. وأنه هدية من جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أنه لو اجتمعت ملائكة سبع سماوات على أن يصفوه لما وصفوه إلى يوم القيامة. وكل واحد يصف ما لا يصفه الآخر فلا يقدرون عليه. ومن جملة ذلك أن الله يقول فيه: ((أعطيه من الثواب بقدر ما خلقت في سبع سماوات وفي الجنة والنار، وفي العرش والكرسي وعدد القطر والمطر والبحار، وعدد الحصى والرمل،)) ومن جملتها أيضا أن الله يعطيه ثواب جميع الخلائق، ومن جملتها أن الله يعطيه ثواب سبعين نبيا كلهم بلغوا الرسالة إلى غير ذلك. (قال) وهذا حديث صحيح ثابت في صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصححه الحاكم إلخ.
وصرح المؤلف بأن هذا الكذب أملاه شيخه التجاني. ثم قال عن شيخه: ((وأما صلاة الفاتح لما أغلق فإني سألته - صلى الله عليه وسلم - عنها فأخبرني أولا أنها بستمائة ألف صلاة، فقلت له هل في جميع تلك الصلوات أجر من صلى صلاة مفردة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: نعم يحصل في كل مرة منها أجر من صلى بستمائة ألف صلاة مفردة. وسألته: هل يقوم منها طائر الذي له سبعون ألف جناح إلخ. الحديث. أم يقوم منها في كل مرة ستمائة ألف طائر على تلك الصفة وثواب تسبيحهم لقارئها؟ فقال: بل يقوم منها في كل مرة ستمائة ألف طائر على تلك الصفة في كل مرة.
وقال في ص 97 فسألته - صلى الله عليه وسلم - عن حديث أن الصلاة عليه تعدل أربعمائة غزوة كل غزوة تعدل أربعمائة حجة صحيح أم لا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل صحيح فسألته - صلى الله عليه وسلم - عن عدد هذه الغزوات هل يقوم من صلاة الفاتح لما أغلق إلخ مرة أربعمائة غزوة أم يقوم أربعمائة غزوة صلاة من الستمائة ألف صلاة وكل صلاة على انفرادها أربعمائة ألف غزوة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: إن صلاة الفاتح لما أغلق بستمائة ألف صلاة وكل صلاة من الستمائة ألف بأربعمائة غزوة ثم قال بعده - صلى الله عليه وسلم -: أن من صلى بها، أي بالفاتح لما أغلق إلخ مرة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها، أي كأنه صلى بكل صلاة ستمائة ألف صلاة من جميع صلاة المصلين عموما: ملكا وجنا وإنسا وكل صلاة من ذلك بأربعمائة غزوة وكل صلاة من ذلك بزوجة من الحور ومحو عشر سيئات وثبوت عشر حسنات ورفع عشر درجات، وأن الله وملائكته يصلون على صاحبها عشر مرات (قال الشيخ رضي الله عنه) فإذا تأملت هذا بقلبك علمت أن هذه الصلاة لا تقوم لها عبادة في مرة واحدة فكيف من صلى بها مرات ماذا لها من الفضل عند الله وهذا حاصل في كل مرة منها ا ه.
ثم إنه ذكر ما هو فوق ذلك من المبالغات الجنونية التي لا يعقلها دماغه، وصرح بأنه لا مدخل فيها للعقول، ومنها ما عده من ثواب ملايين الأمم والملائكة، ولم يفضل عليها إلا الدعاء بالاسم الأعظم وهو هذا بزعمهم (اهم سقك حلع يص).
قال المؤلف في ص 102 ما نصه: (فائدة) قال الشيخ (رضي الله عنه) عدد ألسنة الطائر الذي يخلقه الله من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي له سبعون ألف جناح إلخ الحديث ألف ألف ألف ألف ألف ألف ألف ألف إلى أن تعد ثماني مراتب وستمائة وثمانون ألف ألف ألف ألف ألف ألف ألف إلى أن تعد سبع مراتب وسبعمائة ألف ألف ألف ألف ألف إلى أن تعد خمس مراتب فهذا مجموع عدد ألسنته، وكل لسان يسبح الله تعالى بسبعين ألف لغة في كل لحظة، وكل ثوابها للمصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل مرة، هذا في غير الياقوتة الفريدة وهي الفاتح لما أغلق إلخ، وأما فيها فإنه يخلق في كل مرة ستمائة ألف طائر على الصفة المذكورة كما تقدم. فسبحان المتفضل على من يشاء من عباده من غير منة ولا علة ا ه. من خط سيدنا وحبيبنا وخازن سر سيدنا أبي عبد الله سيدي محمد بن المشري حفظه الله ا ه.
(الشاهد السادس عن التجاني دعواه موت من يكرهه كافرا)
وفي هذا الكتاب من العقائد الزائغة المخالفة لعقائد جميع السلف وحفاظ السنن وأئمة الفقه والمفسرين وعلماء الكلام، ما نعهد مثله عن الباطنية وأهل الوحدة والاتحاد وسائر غلاة الصوفية ولعلم التجاني وأمثاله أن كل من له إلمام بالضروريات من عقائد الإسلام ينكر عليهم أنهم جعلوا من أصول طريقتهم التسليم لهم ظاهرا وباطنا.
وقد بالغ التجاني فيما يلقنه لأتباعه من النهي عن الاعتراض والإنكار عليه، حتى زعم أن من أنكر عليه وكره عمله أو طعن فيه أو أبغضه يموت كافرا قطعا ; وهذه الدعوى باطلة كدعوى دخول أتباعه وأصوله وفروعه الجنة قطعا، لأن كلا منهما من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وقد اتفق العلماء على عدم جواز القطع لشخص معين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا بنص من الشارع. وإنما القطعي أن من مات على الإيمان الصحيح فهو من أهل الجنة ومن مات على الشرك والكفر فهو من أهل النار، وأن الخواتيم لا يعلمها إلا الله تعالى.
ولولا أن له أتباعا في مصر وبلاد المغرب لما سودنا صحائف هذا التفسير بذكر خرافاته وضلالاته، وقد استفتاني بعض المنكرين لدعواهم تلقي شيخهم لأوراده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، وحضوره - صلى الله عليه وسلم - لمجالس حضرتهم، عن دعوى رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والتلقي عنه، فأفتيت في المنار ببطلانها، فلجأ بعضهم إلى مجلة مشيخة الأزهر (نور الإسلام) فاستفتوها في ذلك فأفتاهم مفتيها الدجوي الدجال بما يتخذونه حجة على كل ما افتراه على النبي - صلى الله عليه وسلم - محتجا بأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام، وأنهم أحياء في قبورهم يردون السلام على من سلم عليهم، والحق أن كل ما ورد في حياة الشهداء، والأنبياء بعد الموت فهو من أخبار الغيب التي لا يقاس عليها ولا يتعدى فيها ما صح منها عن المعصوم بإجماع علماء المسلمين.
هذا وإني لا أجهل أن للتجانية في المغرب والسودان الفرنسي، حسنات في مقاومة التنصير والاستعمار المعادي للإسلام كالقادرية والسنوسية، ولكن كتابهم (جواهر المعاني) قد فضحهم فضائح لا يقبلها مسلم يعرف ضروريات الإسلام، وستعلم قيمة حسناتهم وغيرها مما سننقله في كرامات أمثالهم عن شيخ الإسلام.
(تقليد الباب والبهاء والقادياني لغلاة الصوفية)
(في دعوى الوحي والنبوة والألوهية)
قد جرأ هؤلاء الغلاة من الصوفية إخوانهم في الابتداع على دعوى الوحي والتلقي عن الله تعالى كالأنبياء حتى ادعى بعضهم النبوة نفسها، بل ادعى بعضهم الألوهية، وإنك لتجد من كلام الباب مؤسس فرقة البابية، والبهاء مؤسس ديانة البهائية على أنقاض، البابية، وغلام أحمد القادياني - مسيح الهند الدجال - أنهم كلهم قد ادعوا الوحي من الله لهم، وتجد كلامهم في الغلو في أنفسهم ممزوجا باصطلاحات الصوفية، فلم يفسد الإسلام على أهله بدعة ولا فلسفة ولا رواية ولا رأي، كما أفسد أدعياء الولاية والكشف، فإن أصل هذا الدين كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإجماع أهله، وببداهة العقل أيضا، فأما البابية فقد انحصروا في البهائية، وهؤلاء كان لهم رجل من أكبر الدهاة يسوسهم فمات فانحط شأنهم، ووقع الشقاق بينهم على الزعامة وظهر للمسلمين تلبيسهم الباطني فقلما ينخدع بدعوتهم أحد بعده، وزعيمهم الوارث له قد تربى تربية إنكليزية مفضوحة، فهو عاجز عن تأويلات عباس أفندي الصوفية الفلسفية الباطنية.
وأما القاديانية فقد نشطوا للدعاية وهم يؤملون أن يوجدوا في بقية المسلمين ما أوجدت المسيحية في اليهود، أعني إحداث ملة جديدة تسمى المسيحية الأحمدية، وسيفتضحون ; لأن زعيمهم ومسيحهم رجل مجنون، والعصر يطلب تجديدا للإسلام لا تقديس فيه إلا لله، وجميع كتب مسيحهم غلام أحمد تدور على تقديس نفسه كالبهاء، ولكنه لم يخلفه رجل داهية كعباس عبد البهاء، يخفي كتبه عن العقلاء ويتصرف في التأويل لدعوته بمثل ذلك الدهاء وكيف يتسنى لهم إخفاء كتبه، وقد طبعها ونشرها في عصره، وفيها أقوى الحجج على ضلاله وإضلاله، وخزيه ونكاله؟.
وجملة القول أن الصوفية ثلاث فرق: صوفية الأخلاق المهتدين بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وهم من خيار أولياء هذه الأمة، وصوفية الفلسفة الهندية الذين يسمون أنفسهم صوفية الحقائق، وغلاتهم كغلاة الشيعة الباطنية شر المبتدعة الهادمين للدين، وصوفية التقليد وهم أهل الطرائق والزوايا الكسالى، وإن هم إلا صوفية أكل واحتفالات، وبدع وخرافات إلا قليلا منهم، وهاك ما وعدنا به من رأي شيخ الإسلام، في أولياء الله وأولياء الشيطان، ونقفي عليه بشواهد في هذا الزمان.
(كتاب الفرقان لشيخ الإسلام)
(استمتاع البشر والجن والشياطين بعضهم ببعض، وتمثلهم بصور الأولياء والقديسين)
هذا الكتاب لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيميةرحمه الله تعالى، بين فيه تحقيق الحق في أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومن أهم مباحثه ملابسة الجن والشياطين للناس وتلبيسهم عليهم، واستمتاع كل منهما بالآخر، وظهور بعضهم لبعض الناس في صور مشايخهم وغيرهم من الأولياء والخضر والأنبياء عليهم السلام والإيحاء إلى بعضهم فيما يضلهم ويغويهم، وظهور بعض المؤمنين منهم فيما هو نافع، ومن ذلك ما وقع له هو نفسه.
وفي هذا الكتاب من مباحث التفسير وهدي السنة والتفرقة بين المعجزات والكرامات وبين السحر والكهانة واستخدام الجن والتأويل الباطل ووجوب الاتباع ما لا يوجد في غيره، وحكايات استخدام الجن كثيرة في قديم الأمم كلها وحديثها، وأكثر الذين يدعونها أو كلهم دجالون محتالون على أكل أموال الناس بالباطل، وأكثر من يتمثلون لهم لا يعلمون أنهم منهم، وشيخ الإسلام محقق وصديق لا يرمي القول على عواهنه.
ومما قاله في هذا الكتاب أنه قد تواتر عن كثير من المسلمين واليهود والنصارى رؤية من يقول لهم إنه الخضر وإنهم صادقون في قولهم، ولكن الذي يتراءى لهم ويقول هذا القول شيطان لا الخضر الذي ثبت عند المحدثين أنه قد مات ومثل ذلك ظهور المسيح عليه السلام لكثير من النصارى عقب رفعه وبعده إلى الآن ثم قال:
((وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول أنا الحلاج فيرونه في صورته، وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة، وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن - وقد رأيت خط الجن غير مرة - وفيه كلام من الجن، وذاك المعتقد يعتقد أن الشيخ حي، وكان يقول انتقل ثم مات، وكذلك شيخ آخر كان بالمشرق وكان له خوارق من الجن، وقيل: كان بعد هذا يأتي خواص أصحابه في صورته فيعتقدون أنه هو. والذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن خليفة قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جني في صورته، وهكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم أحيانا ويكون المرئي جنيا.
((فهذا باب واسع واقع كثيرا، وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر، ففي المشركين أكثر مما في النصارى، وهو في النصارى كما هو في الداخلين في الإسلام، وهذه الأمور يسلم بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كانوا عليه، كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرا مما كانوا وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم" وهذا كان كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، ويقوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه.
((وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين، وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير، وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبا.
وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرا، فانتقل إلى خير مما كان عليه وخف الشر الذي كان فيه، ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه.
والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتعليلها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان،
{ { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون } [الأحقاف: 19] وأكثر المتكلمين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلما مبتدعا، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة وقد ذكرنا فيما تقدم أصناف البدع، انتهى المراد منه.
(أقول) كل المشاهدات التي نقل خبرها شيخ الإسلام هنا مشهورة عن أهل عصره وأهل عصرنا، وقد نقل عن الشيعة أنهم يستفتون المهدي المنتظر في بعض المشكلات، فيضعون ورقة الاستفتاء في كل شجرة ثم يجدون الفتوى مكتوبة عليها وأنها عندهم من أقوى الحجج أو أقواها، وقد بينا هذا في المنار، ومن هذا ما يكون من حيل شياطين الناس وتزويرهم، ومنهم من هم شر من شياطين الجن.
(بعض حكايات النصارى المعاصرين في رؤية المسيح ومريم عليهما السلام).
إن الذين يتراءى لهم المسيح أو أمه عليهما السلام أو غيرهما من القديسين عندهم كثيرون، ومن الرجال المشهورين بهذا في هذا الزمان رشيد بك مطران وهو وجيه سوري من بعلبك مشهور يقيم في أوربة ويكون غالبا في (باريس) فهو يرى أو يتراءى له مثال السيدة مريم العذراء في اليقظة كثيرا ويسألها عن كثير مما يشكل عليه فتجيبه. وحدثني الأمير شكيب أرسلان عنه أنه سألها مرة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - فأجابته مثنية عليه - صلى الله عليه وسلم - ثناء عظيما لم أحفظه.
وقرأت في جريدة مرآة الغرب الغربية التي صدرت في (نيويورك) في مارس سنة 1933 رسالة من عمان عاصمة إمارة شرق الأردن كتبت في 26 من كانون الثاني (يناير) سنة 1923 (الموافق 29 رمضان سنة 1351) ملخصها أن امرأة نصرانية في عمان اسمها حنة بنت إلياس غابي الملقب صهر الله متزوجة ولها أولاد وأخ، فقيرة مشهورة بالتقوى عرض لها منذ سنة ونصف نزيف دموي عقب الولادة وأريد عمل عملية جراحية لها فأرشدت إلى التوجه أولا إلى الطبيب السماوي، فدعت يسوع ليلا ثم ذهبت إلى الكنيسة بعد منتصف الليل لتصلي وهي في حال غيبوبة أو عقب رؤيا، فرأت الكنيسة خالية وشاهدت في الهيكل شخصا يحيط به نور عظيم فاشتد خوفها ورعبها، فدعاها وقال لها: لا تخافي أنا المسيح، فركعت على قدميه وقالت له اشفني يا سيد، فقال لها: حسب إيمانك يكون لك، فبرئت وقرر الأطباء بعد فحصها أنه لم تبق حاجة إلى العملية الجراحية فازدادت عبادة وتقوى.
((ولما كان اليوم الرابع من هذا الشهر ك2 من ((يناير)) شعرت في منتصف الساعة الثالثة بعد نصف الليل بيد تهزها من الكتف، ففتحت عينيها فإذا نور عظيم في الغرفة وفي وسط النور شخص الملاك يقول لها: سيحدث ضيق عظيم في العالم، ولكن لا تخافوا وستكون لكم هذه العلامة - وكان بيده كأس فغمس اليد الأخرى في الكأس وبأصابعه الثلاث وضع على جبينها علامة ثم تركها وقال: اعطوا مجد الله فقامت وصارت تمجد الله بصوت عال فهب أهلها وقالوا لها: ماذا جرى لك؟ فقالت: ألم تروا النور وتسمعوا الصوت؟ قالوا لا، قالت: جيئوني بالضوء، فلما أحضروا القنديل رأوا في جبينها علامة طائر يشبه النسر صافا جناحيه ممتدا على طول جبينها وعرضه (أي جبهتها) وليس ماسا للحاجبين ولا شعر الرأس، ولونه عنابي كالدم ورسمه متقن كأنه رسم فنان عظيم)).
وقالت كاتبة الرسالة: إن أهل عمان لما علموا بهذه الحادثة أقبل الناس من وطنيين وأجانب على اختلاف أديانهم فشاهدوا هذا الرسم وعني الأطباء بإزالته فعجزوا، وإن الذين شاهدوها يعدون بالمئات، ثم نقلت عن قسيس معروف جاء من نابلس وكتب عنها ما يأتي ملخصا:
(قالت إنه ظهر لها الملاك مرة ثانية في ليلة السبت السابعة من الشهر نفسه (يناير) ووضع يده على جبينها فزالت العلامة، فقالت له يارب ارفع الضيق عن العالم، فقال: ((سيرون)) أعمال الله)) قالت: ارحمنا يا رب، قال: ((تكفيكم نعمتي)) وفي ثاني ليلة أفاق أهلها فوجدوها واقفة تتكلم بالعبراني فكتبوا ما قالته وترجموه بالنهار فإذا هو تسبيح وتمجيد لله ثم تكرر ذلك منها في الليالي التالية باللغات الألمانية والفرنسية والطليانية وفي الخامسة وثلث بالعربي واليوناني، وكانت ترتيلة العربي من نظمها وقولها ((اصفح عن ذنبي يا ربي، خذني يا ربي، خذني إلى أورشليم)) ثم لم يحدث شيء. إلا أن الملاك ظهر لها ليلة 17 من الشهر ووضع عليها العلامة وقال: ((لتكن هذه العلامة مباركة ثم اختفى، ثم ظهر بعد يومين ومحا العلامة. انتهى باختصار وبلفظه إلا تصحيح كليمات قليلة.
(أقول) سئل بعض أدباء المسلمين في عمان كتابة عن هذه الحكاية، وعما روي في بعض الجرائد من رؤية موتى من الصحابة لم تبل أجسادهم ولا لفائفهم فأنكرها. وقد سبق لي تحقيق لأمثال هذه الحكايات ملخصه أن منها ما هو كذب محض، ومنها ما هو تخيل ولدته الأوهام يشبه الرؤى والأحلام، ومنها ما هو رؤية لشيء موجود في الخارج من عالم الأرواح التي تتمثل بأجسام لطيفة جدا لا يدركها إلا بعض الناس في أحوال خاصة قريبة من التجرد من كثافة الحس، ومنها ما يتمثل بصورة مادية كثيفة كما صح من رؤية بعض الصحابة - رضي الله عنهم - للملك وللجن، والمشتغلون من الإفرنج بمعالجة رؤية الأرواح يسمون صاحب الاستعداد الخاص لرؤية الأرواح بالوسيط، والراجح عندنا أن أكثر المدعين لذلك أولو كذب وحيل وتلبيس، وأن أقلهم يرون بعض الشياطين من جند إبليس، ولا سيما شياطين الموتى وقرنائهم العارفين بأحوالهم، وشيخ الإسلام يقول ما قرأت آنفا، وهذا الذي يقوله لا ينكر أحد من الصوفية وقوعه لكبار شيوخهم، بل أثبتوا أن الشيطان يتراءى لهم ويلقنهم كلاما مدعيا أنه ربهم، كما حكاه الشعراني وغيره عن الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي اتفقوا على أنه كان القطب الغوث الأكبر.
وملخصه أنه رأى نورا عظيما ملأ الأفق وسمع منه صوتا يخاطبه بأنه ربه وقد أحل له المحرمات، فقال له: اخسأ يا لعين، فتحول النور ظلاما ودخانا، وقال له قد نجوت مني بفقهك إلخ. وأنه فتن بهذا كثيرين من كبار الشيوخ، ومن المعلوم أن جميع غلاة الصوفية قد ادعوا أن الله خاطبهم بالحقائق وكشف لهم منها ما لم يكشفه لغيرهم كما تقدم، وهم يتعارضون في دعاويهم الشيطانية كما تقدم.
وللشيخ عبد الوهاب الشعراني كتاب صغير سماه (الأنوار المقدسة، في بيان آداب العبودية) مطبوع مع كتابه الطبقات، ذكر في أوله أنه سمع وهو في حالة بين النائم واليقظان هاتفا يسمع صوته ولا يرى شخصه يقول له على لسان الحق سبحانه وتعالى كلاما ذكره قال: ((فما استتم هذا الكلام وبقي عندي شهوة نفس لمقام من مقام الأولياء لا في الدنيا ولا في الآخرة ثم بسط الكلام على مرادهم بالهاتف وعلله بقوله: ((خوفا أن يتوهم أحد من القاصرين الذين لا معرفة عندهم بمراتب الوحي أن ذلك وحي كوحي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فأقول:
((اعلم أن الهاتف المذكور لا يخلو إما أن يكون ملكا أو وليا أو من صالحي الجن أو هو الخضر عليه السلام أو غير ذلك ; لأن الخضر عليه السلام حي باق لم يمت، وقد اجتمعنا بمن اجتمع به وبالمهدي وأخذ عنهما طريق القوم إلخ.
ثم إنه جعل الوحي أقساما وضروبا كثيرة وذكر منها الكهانة والزجر - أي وهو أسفلها - ووحي التشريع الديني الخاص بالأنبياء عليهم السلام وما بينهما.
ثم ذكر أن بعض الفقراء من الإخوان سأله أن يملي علي إلقاء الهاتف الذي سمعه جملة مما فهمه من آداب العبودية وآداب طلب العلم وآداب الفقراء عموما وخصوصا ((وما يدخل على كل طائفة من الدسائس في مقاصدهم لأن الشيطان لهم بالمرصاد ولا ينجو منه إلا القليل من عباد الله)) وهذا محل الشاهد.
وأقول: إن هاتفه الذي جعله الأصل لهذا التأليف هو من دسائس الشيطان أيضا ; لأنه غير موافق للشرع المعصوم، بل في هذا الكتاب كثير من المخالفة له وكذا كتابه الطبقات فهي من أشد الكتب إفسادا للدين أصوله وفروعه وآدابه بما فيها من وحي الشياطين، فقد أصبح الملايين من المسلمين مشركين بالله تعالى بعبادة هؤلاء الذين يسمونهم الأولياء وقبول ما نقل عنهم من وحي الشياطين، وهم يتبعون الدجالين ومدعي علم الغيب وقضاء الحوائج بالكرامات أو استخدام الجن، وهؤلاء الدجالون يسلبون أموالهم، ويهتكون أعراضهم، وفي نص كتاب الله تعالى أن الجن يعلمون الغيب، وأصبح فريق آخر من المسلمين الذين تلقوا العلوم العصرية وتربوا تربية استقلالية، يعتقدون أن الإسلام دين خرافي كغيره من الأديان.
على أن من دعاة الأديان والنحل الجديدة المتولدة من التصوف من ألبسوا دعايتهم ثوب المدنية العصرية، وهم يبثونها في بلاد الإفرنج كالبهائية والقاديانية الأحمدية، وكل خلابتهم مستمدة من تأويلات الصوفية الذين ادعوا الوحي وادعوا الألوهية من طريق وحدة الوجود وغيره كما تقدم آنفا.
والأمة الإسلامية قد جعلها الله وسطا بين الغالين والمقصرين، من المعطلين والمشركين، فهي لا تعبد إلا الله، ولا تؤمن بوحي ولا نبوة لأحد بعد محمد خاتم النبيين، ولا بتشريع ديني إلا ما جاء به عن الله، ولا بولاية إلا ما تقدم بيانه في كتاب الله، وقد صار المعتصمون بهذا في أمثال هذه البلاد، التي انتشر فيها ذلك الفساد، جماعات قليلة الأفراد، فإن لم ينصرها الله ضاع فيها الإسلام.
(استطراد، في أصل الإسلام، وما طرأ عليه من الفساد)
(من طريق السياسة والفلسفة والتصوف)
أيها القارئ لهذا التفسير، قد آن أن أصارحك بمسائل مختصرة هي ثمرة علم وعمل وعبادة ورياضة وتصوف وتعليم وتصنيف ومناظرات ومحاجة في مدة نصف قرن كامل، لم يشغلني عنها من حظوظ الدنيا شاغل، وإنها لكلمات في حقيقة دين الله وعلمائه وعباده صادرة عن بصيرة وتجربة، فتأملها بإخلاص واستقلال فكر، ولا يصدنك عن النظر فيها لذاتها والاعتماد في ثبوتها على مصادرها، حرمان المعاصرة، واحتقار الأحياء، وتقديس شهرة الأموات، واتهام قائلها بالغرور والدعوى، فإن عرض لك ريب أو شبهة في شيء منها فارجع إلى مصادرها ودلائلها، أو ارجع إلى كاتبها فاسأله عنها، بشرط أن يكون غرضك معرفة الحق لذاته، دون التعصب والجدل، أو التحرف لمذهب أو التحيز إلى فئة.
(المسألة الأولى) أن هذا الدين (الإسلام) وحي إلهي إلى نبي أمي ظهر في أمة أمية جاهلية ; ليعلمها الكتاب والحكمة، ويزكيها بالعلم والعدل والفضيلة، فيجعلها به معلمة وهادية لجميع شعوب التعطيل والأديان والفلسفة والحضارة، وأن الله تعالى قد شهد في كتابه بأنه أكمل هذا الدين لعباده في آخر عمر نبيه، ليس لأحد أن يزيد فيه بعده عقيدة ولا عبادة ولا تحريما دينيا مطلقا، ولا تشريعا مدنيا، إلا ما أذن به لأولي الأمر من الاجتهاد على أساس نصوصه وقواعده، فكان أعلم الناس وأفقههم به وأصحهم دعوة إليه بالعلم والعمل، والحكم بين الناس بالحق والعدل، أولئك الأميون الذين تلقوه عن ذلك النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه، وهم خلفاؤه وأصحابه - رضي الله عنهم - فهذه إحدى معجزاته إذ لو كان هذا الدين وضعا بشريا لكان كسائر العلوم والأعمال البشرية التي تظهر مبادئها الأولى ناقصة ثم تنمى (وفي لغة ضعيفة اشتهرت تنمو) وتتكامل بالتدريج، فهذه سنة من السنن المطردة في علوم البشر.
(المسألة الثانية) من البراهين العلمية الثابتة بالشواهد العملية، على أن هذا الدين من عند الله تعالى، أن المسلمين قد اهتدوا بإرشاده إلى البحث والنظر في جميع أمور العالم السماوي والأرضي، ولا سيما نوع الإنسان وعلومه وفلسفته وأديانه ونظمه وتشريعه وآداب شعوبه فازدادوا بكل من ذلك علما بحقية المسألة الأولى، وظهر للراسخين في علمه أن ما أجمع عليه أولئك الأميون الأولون أو أكثرهم هو الحق، وأن كل ما خالف نصوصه القطعية من العقائد والآراء والأفكار البشرية فهو باطل، ومنه جميع نظريات المتكلمين العقلية، وكشف فلسفة الصوفية والروحية، وأن المصلحة للمسلمين وللبشر كافة أن يقصروا هداية الدين على نصوص القرآن المنزلة، وما بينه من سنة الرسول المتبعة، وسيرة خلفائه وجمهور عترته وأصحابه قبل فشو الابتداع والتفرق في الملة، ثم ما أجمع عليه علماء الأمصار من مجتهدي الأمة، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما لا يخرج عن هذه الأصول من المسائل غير القطعية في الدين فلا يجعلوه سببا للتفرق والشقاق، بالتعصب للمذاهب والشيع والأحزاب ; لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى لرسوله فيهم:
{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } [الأنعام: 159] فاستحقوا وعيد قوله: { { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } [الأنعام: 65] وقوله: { { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } [آل عمران 3: 105]. (المسألة الثالثة) أن البدع التي فرقت الأمة في أصول دينها وجعلتها شيعا تؤثر كل شيعة أتباع زعمائها ومذاهبها على كتاب الله وسنة رسوله وهدي سلفه الصالح بالتأويل، من حيث تدعي أن أئمتها أعلم من مخالفيهم بتأويل الكتاب والحديث، وأن بعضهم مؤيد بالكشف وبعضهم بالعصمة، فهم أحق بأن يقلدوا ويتبعوا، ولكن الأعلم إنما يعلم بالدليل لا بالتقليد، وإنما تفهم النصوص بقواعد اللغة والسنة العملية لا بما اصطلحوا عليه من التأويل، ولهذه البدع المفرقة ثلاث مثارات من أركان حضارة الأمم الثلاثة وهي: السياسة والسلطان، والعلم العقلي والعرفان وفلسفة التعبد والوجدان، وما يتبعه من دعوى علم الغيب المسمى بالكشف، والكرامات الشاملة لدعوى التصرف في الكون، ونقول في كل منها كلمة:
(1) السياسة الدولية وكان مثارها الأول ما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم كان أشدها إفسادا ما كان بين أهل السنة والشيعة، وقد زالت الخلافة وضاعت سيادة الأمة من أكثر العالم، ومفاسدها لا تزال ماثلة، بما للزعماء المستغلين لها من المنافع الدنيوية الزائلة، وإنها لعصبية قضتها السياسة، وستقضي عليها السياسة، وقد زالت السلطة الدينية من بعض ممالك المسلمين وبقي لها بقية في بعض، وبعضها مذبذبة بين بين، ولا محل لبسط ذلك هنا ولا فائدة في هذا الوقت. إلا التذكير بأن المنتمين إلى مذاهب السنة قد غلبهم جهلة الأعاجم على خلافتهم بعد أن جعلوها عصبية وراثية، فلم يعملوا أي عمل لتقويتها بعد ضعفها، ولا لإحيائها بعد موتها ولم يضعوا نظاما للاستعداد لذلك عند سنوح الفرصة كما فعل الكاثوليك بنظام الفاتيكان البابوي، وكانت الزيدية من الشيعة المعتدلة أشد حزما واعتصاما منهم بنصب إمام بعد إمام لهم في جبال اليمن يتولونه ويقاتلون معه بيد أنهم قصروا في وضع نظام لتعميم الدعوة، والاستعداد له بالعلم والمال والقوة. ولكن غلاة الشيعة نقضوا أركان الإسلام من أساسه بدعاية عصمة الأئمة، وتأويل نصوص الكتاب والسنة، فكان هذا أصل كل ابتداع مخرج من الملة، إذ انتهى بأهله إلى ادعاء الوحي وادعاء الألوهية، فخرجوا من الملة سرا فعلانية.
(2) النظريات العقلية وتحكيمها في النصوص النقلية، وكان أضرها وشرها ذلك التنازع بين أئمة الاتباع وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، ودعاة الابتداع من متكلمي نظار المعتزلة والجهمية، ولولا تدخل سلطان العباسيين في نصر فريق على فريق، لما وصلت إلى ذلك الحد من الشقاق والتفريق، وقد ضعفت في هذا العصر في أكثر الأمصار الإسلامية لأنه ليس لها دول تنصر بعض أهلها على بعض، ومتى توطدت حرية العلم كان النصر والفلج لأهل الحق، وسيموت ما بقي من علم الكلام بموت الفلسفة اليونانية التي بني على قواعدها ونظرياتها، بل هي قد ماتت وصارت من مواريث التاريخ العلمية، ومات هو وإن بقيت له بقية تقليدية في بعض المدارس الإسلامية، وسيخلفه علم آخر في حراسة العقائد من شبهات العلم وفلسفة هذا العصر، مع إبقاء الخلط بينهما وبين عقائد الدين ومحاولة تحكيم كل منهما في الآخر، كما فعل نظارنا المتقدمون فجنوا على كل منهما بما أضعف سلطان الدين في أداء وظيفته وهي تزكية النفس، بما يوقفها عند حدود الحق والعدل، والفضيلة وعمل البر، وأضعف سلطان العلم في أداء وظيفته وهي إظهار سنن الله في العالم وتسخير قوى الطبيعة لمنافع الناس، وفاقا لما أرشدهم إليه القرآن، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
"أنتم أعلم بأمور دنياكم" رواه مسلم.
ولو بقينا على تأويل المتكلمين لهان الأمر ; لأنهم يجرون فيه على قواعد اللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث، ولكن نبتت نابتة ودعاية لتحكيم نظريات العلم العصري والنظريات العقلية في نصوص الكتاب والسنة، ولا بتأويل يوافق اللغة وأصول الشرع كما يقول المتكلمون بل يترك مدلولات الكتاب والسنة بأنها غير مرادة ولا يمكن العلم بالمراد منها، ولبعض الدعاة إلى هذا الإلحاد في مصر كتب تطبع ومقالات تنشر في الصحف مصرحة بهذا، ومشيخة الأزهر تقرها لأنها لا تفهمها.
(3) دعوى الكرامات والكشف، وتحكيمه في عقائد الدين وعباداته وآدابه وتفسير نصوصه، وفي أحكام المعاملات والحلال والحرام، وقد نجمت البدع من هذه الناحية صغيرة كقرون المعز ثم كبرت فصارت كقرون الوعول التي تناطح الصخور، هاجمها علماء المنقول والمعقول يؤيدهم الخلفاء والملوك فانهزمت أمامهم، حتى إذا ما ضعف العلم فصار تقليديا، وضعف الحكم فصار إرثا جهليا، وصار صوفية علماء الأزهر مثل الشعراني وسلاطين مصر مثل قايتباي، خضعت رقاب المسلمين لولاية مثل الشيخ محمد الحضري الذي يصعد المنبر في يوم الجمعة فيخطبهم فيقول: ((أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام)) ثم ينزل فيسل السيف فيهرب جميع المسلمين من المسجد فلم يتجرأ أحد على دخوله إلى وقت العصر ويزعم الشعراني أن هذا الولي الشيطاني نفسه قد خطب خطبة الجمعة يومئذ في ثلاثين مسجدا من مساجد القطر المصري، بناء على قاعدتهم أن الولي قد يتمثل بالصور الكثيرة في الأمكنة المختلفة، كالشياطين والملائكة، وهم لا يفرقون بينهما.
ومثله ذلك الولي الذي كان يعارض القرآن بالهذيان، والولي الذي كان يسكن في ماخور المومسات ; ليشفع لكل من يأتيهن عند الله ويمسكه عندهن إلى أن يخبره كشفه الشيطاني بقبول شفاعته فيه ومغفرة الله له. وكان من كراماته إتيان الأتان - فهذا الكفر والشرك والإلحاد ومعارضة القرآن، واجتراح كبائر الفسوق والعصيان، كله عنده وعند أمثاله من كرامات أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويطيع أمرهم رضوان خازن الجنان، ومالك خازن النار، كما نقله الشعراني عن الدسوقي، وجملة القول أنهم يتصرفون في أمور الدنيا والآخرة أحياء وأمواتا، وقد رسخت هذه الخرافات في قلوب الملايين من مسلمي مصر وأمثالها من الأقطار، فهم يعتمدون على هؤلاء الأولياء في أمور دنياهم وآخرتهم.
وإنك لتجد أكثرهم يحتج على ذلك بالآية الكريمة التي ذكرنا هذا البيان في صدد تفسيرها وبقوله تعالى:
{ { لهم ما يشاءون عند ربهم } [الزمر34] فهم يزعمون أنه لهؤلاء الأولياء الخياليين، وأن الله تعالى يعطيهم كل ما أرادوا لأنفسهم ولغيرهم في الدنيا والآخرة كما يزعم الذين يقولون إن منهم أقطابا متصرفين (أو مدركين) بالكون كله، وهذا افتراء على الله وتحريف لكتابه العزيز بما هو شرك به سبحانه، وإنما وردت هذه الجملة في عدة سور في جزاء أهل الجنة في الجنة، لا في أولياء الخيال الخرافي المزعوم، راجع سورة النحل (16: 30 - 32) وسورة الفرقان (25: 15، 16) وسورة الزمر (39: 33، 34) وسورة الشورى (42: 22) وسورة ق (50: 31 - 35).
وجملة القول أن جميع هذه الفتن المضلة لكثير من الناس عن الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله المبينة له على النهج الذي اهتدى به سلف هذه الأمة الصالح لا يقوم لشيء منها حجة عقلية ظاهرة ولا كشفية باطنة، ولو صح أنها من الإسلام لكان ما جاء الرسول ناقصا ثم كمل بها.
(بطلان تأويل النصوص للنظريات العقلية والعلمية، بله الباطنية)
أما النظريات العقلية التي يتأول النصوص لأجلها علماء الكلام، فقد ظهر بطلانها وبطلان الفلسفة التي بنيت عليها لعلماء هذا العصر وفلاسفته، وقد أجمع هؤلاء على أن جميع النظريات العقلية الفلسفية والعلمية المسلمة اليوم لأنها أرجح من غيرها في بابها، ليس فيها شيء يعد من الحقائق القطعية العلمية الثابتة التي لا يمكن نقضها، بل كلها قابلة للنقض والبطلان، كما ثبت بطلان مثلها من مسلمات القرون الماضية إلى السنين الأخيرة من هذا القرن العشرين الميلادي، التي ترجح فيها أن كل ما عرف في هذا الكون من مظاهر المادة والقوة هو مظهر لتركيب خاص مجهول لجزئي الكهرباء الإيجابي والسلبي، المعبر عنها بكلمتي (البروتون والإلكترون) فبطلت بهذا جميع النظريات العلمية في المادة والقوة، فكيف يجوز إذن تأويل نص ديني قطعي الرواية والدلالة في خبر عن عالم الغيب من الوحي الإلهي، لنظرية ظنية في عالم الشهادة من الرأي البشري؟.
وإذا بطل تأويل علماء الكلام المتقدمين المبني على قواعد النظر العقلي ومراعاة مدلولات اللغة، واشتراط عدم المخالفة لأصل من قواعد الشرع، وبطل تأويل المعاصرين لما يخالف العلوم العصرية، فأجدر بتأويلات الباطنية أن تكون أشد بطلانا لأنها تحكم في اللغة بما لا تدل عليه مفرداتها، ولا قواعد نحوها وبيانها، وناقضة لأصول الشرع وقواعده القطعية الثابتة بالإجماع المتواتر، والعمل الذي لا مجال للتأويل ولا للتحريف فيه، كتأويل الإسماعيلية القرامطة السابقين، والبهائية والقاديانية اللاحقين، البهائية الذين يدعون إلى ألوهية البهاء، والقاديانية الذين يدعون إلى نبوة ميرزا غلام أحمد، وكل منهما يستدل بتأويل القرآن والحديث مخالفا للغتهما على دينه الجديد الذي غايته أن يتبعه الناس ويقدسوه.
بطلان الأخذ بالكشف في الدين:
وأما الكشف فهو ضرب من إدراك النفس الناطقة غير ثابت ولا مطرد، فليس بدليل عقلي ولا شرعي، وإنما هو إدراكات ناقصة تخطئ وتصيب، وقد عرفت أسبابه الطبيعية وأن منها ما هو فطري، ومنها ما هو كسبي وصناعي، كالتنويم المغناطيسي المعروف في هذا العصر، وما يسمونه قراءة الأفكار ومراسلة الأفكار، ويشبهونه بنقل الأخبار بخطوط الأسلاك الكهربائية وبدونها، وهو يقع للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، ويعترف به صوفية المسلمين لصوفية الهندوس وغيرهم، كما يعترفون بتلبيس الشياطين عليهم فيه، وقلة من يميز بين الكشف الشيطاني والكشف الحقيقي منهم، ولا يصح أن يسمى حقيقيا إلا ما وافق نصا قطعيا.
ومن دلائل الخطأ والتلبيس والتخيلات في الكشف الذي يسمونه النوراني تعارض أهله وتناقضهم فيه، وما يذكرونه فيه من معلوماتهم المختلفة باختلاف معلوماتهم الفنية والخرافية والشرعية، فترى بعضهم يذكر في كشفه جبل قاف المحيط بالأرض والحية المحيطة به كما تراه في ترجمة الشعراني للشيخ أبي مدين وهو من الخرافات التي لا حقيقة لها، ومنهم من يذكر في كشفه الأفلاك وكواكبها على الطريقة اليونانية الباطلة أيضا.
وأكثرهم يذكرون في كشفهم الأحاديث الموضوعة، فإن اعترض عليهم أو على المفتونين بكشفهم علماء الحديث قالوا: إن الحديث قد صح في كشفنا وإن لم يصح في رواياتكم، وكشفنا أصح لأنه من علم اليقين وعلمكم ظني. والحاصل أن كشفا هذا شأنه وشأن أهله إن صح أن يصدق فيما لا يخالف نصوص الشرع وعقائده وأحكامه، فلا يصح لمن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله أن يصدق منه ما يخالفهما، وأن يثبت من أمر عالم الغيب ما لم يثبت بهما، وما أغنانا عن هذا كله، وفي جمع الجوامع أن الإلهام - وهو الكشف الصحيح عندهم، ((ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره خلافا لبعض الصوفية)) أي ولا يعتد بخلافهم لأنهم خالفوا به الأصول كما خالفوا النصوص.
الكرامات لا تدل على الولاية فضلا عن العصمة:
وأما الكرامات فهي نوع من خوارق العادات التي تروى عن جميع الأمم المختلفة الأديان والملل، وقد قال علماء الكلام إنها تقع للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي والساحر، ويختلف اسمها باختلاف من ظهرت على يديه، فتسمى معجزة للنبي المرسل إذا تحدى بها، وكرامة للرجل الصالح المتبع للرسول، ومعونة لمن دونه من المؤمنين واستدراجا للكافر والفاسق.
وصحت الأحاديث بأن الدجال يظهر على يديه من الخوارق الكبرى ما قلما كان مثله في المعجزات حتى إحياء الموتى. وقال أئمة الصوفية العارفون: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به (أو كلمة بهذا المعنى) حتى تروه عند الأمر والنهي الشرعيين، وقال مثل ذلك الخلاطون منهم، ففي الباب الثالث من كتاب (الأنوار القدسية) للشعراني ((وظهور الكرامات ليس بشرط في الولاية وإنما يشترط امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، فيكون أمره مضبوطا على الكتاب والسنة، فمن كان كذلك فالقرآن يشهد بولايته وإن لم يعتقد فيه أحد)) إلخ. وهذا عين ما حققناه في تفسير الآية.
ومن خلطه أن أكثر ما ذكره من كلامهم في طبقاتهم مخالف لشرطه، فهو يبطل ولاية أكثر رجال أهلها من العقلاء فضلا عن المجاذيب المجانين، فإنهم لا يعدون من الأولياء العارفين ; لأنهم غير مكلفين.
ومنه، وفي الباب الأول منه: ((فلو رأينا الصوفي يتربع في الهواء لا يعبأ به إلا إذا امتثل أمر الله واجتنب نهيه في المحرمات الواردة في الكتاب والسنة، مخاطبا بتركها كل الخلق المكلفين لا يخرج عن ذلك أحد منهم، ومن ادعى أن بينه وبين الله تعالى حالة أسقطت عنه التكاليف الشرعية من غير ظهور أمارة تصدقه على دعواه فهو كاذب، كمن يشطح من شهود في حضرة خيالية على الله وعلى أهل الله، ولا يرفع بالأحكام الشرعية رأسا، ولا يقف عند حدود الله تعالى مع وجود عقل التكليف عنده، فهذا مطرود عن باب الحق، مبعد عن مقعد صدق، وحرام على الفقيه وغيره أن يسلم لمثل هذا)) ا ه.
وهو يخالف هذا الحق في مواضع أخرى. ثم قال (في آخر ص 8 منه) واعلم أن طريق القوم على وفق الكتاب والسنة، فمن خالفهما خرج عن الصراط المستقيم كما قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد - رضي الله عنه -، فلا تظن أنهم كانوا كحال غالب المنسوبين إلى التصوف في هذا الزمان فتسيء الظن بهم، إنما كانوا - رضي الله عنهم - عالمين بأسرار الشريعة، قائمين صائمين زاهدين ورعين خائفين وجلين كما يعلم ذلك من تراجمهم وطبقاتهم، وإنما أنكر من أنكر على المتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين ست مرات منهم، فكل قرن منهم بالنسبة لمن قبله يصح عليه الإنكار إذ ادعى أنه على طريقة من كان قبله، لأن الناس لم يزالوا راجعين القهقرى وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث ا ه.
أقول: إن هذا التصرف قد ذر قرنه في أواخر القرن الثاني وظهر الشذوذ في المنتحلين له في القرن الثالث. وقد قال الإمام الشافعي الذي توفي سنة 202 هـ. إذا تصوف الرجل في الصباح لا يأتي المساء - أو قال العصر - إلا وهو مجنون. وأنكر الإمام أحمد الذي توفي سنة 241 ه. بعده على خيارهم، ونهى عن قراءة كتب الحارث المحاسبي على التزامه الكتاب والسنة علما وعملا كما بيناه في تفسير سورة براءة، وقد توفي الحارث في سنة 243 ه. وهو أستاذ أكابر البغداديين، وممن أخذ عنه سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد، فإذا قلنا إن الشعراني يعد أهل قرنه العاشر في الدرجة السادسة من المتشبهين بالصوفية، فالظاهر أنه يعد أهل القرن الخامس أول المتشبهين الذين ينكر عليهم.
وقد أنكر الغزالي في كتاب الغرور من الإحياء على المتشبهين بهم وعد منهم فرقا من أهل المكاشفات، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس فإن الغزالي توفي سنة 505 ه. وكان قد تاب إلى الله من علوم التصوف والكلام وانقطع إلى علم السنة: ثم إن ابن الحاج المالكي المتوفى سنة 737 ه. تكلم في كتابه المدخل على هؤلاء المتشبهين بالمشايخ من أهل عصره في القرن الثامن وبين ما لهم من المنكرات وفند ما يدعونه من الكرامات. وقام في هذا القرن أيضا شيخ الإسلام، مدره السنة الأكبر، وقامع البدع الأقهر، أحمد بن تيمية، نبذ من قبله، وأغنى عمن جاء بعده، وعلى كتبه وكتب تلميذه ابن القيم المعول.
تفضيل أهل الحديث على غيرهم:
ومما كتبه الشعراني في كتابه هذا من الحق بين الأباطيل قوله في الباب الثاني من كتابه المذكور - وهو في طلب العلم - ما نصه:
((واعلم أنه ما مت بالإرث للأنبياء عليهم السلام على الحقيقة، إلا المحدثون الذين رووا الأحاديث بالسند المتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قاله شيخنا، فلهم حظ في الرسالة لأنهم نقلة الوحي، وهم ورثة الأنبياء في التبليغ، والفقهاء بلا معرفة دليلهم ليس لهم هذه الدرجة، فلا يحشرون مع الرسل إنما يحشرون في عامة الناس، فلا ينطبق اسم العلماء حقيقة إلا على أهل الحديث. وكذلك العباد والزهاد وغيرهم من أهل الآخرة، إذا لم يكونوا من أهل الحديث حكمهم حكم الفقهاء الذين ليسوا من أهل الحديث، فيحشرون مع عموم الناس ويتميزون عنهم بأعمالهم الصالحة لا غير كما أن الفقهاء يميزون عن العامة في الدنيا، لا غير)) ا ه.
ولكن بعض من يسمون كبار العلماء في زماننا يفضلون خرافات المتشبهين بالمتصوفة في الدرجة السادسة إلى العاشرة وآراء مقلدي الفقهاء في الدرجة الخامسة - وهي السفلى - على علماء الحديث وفقهائه وحكمائه، ويطعنون في المحدثين وكل من يهتدي بالحديث قولا وكتابة بل صرح بعضهم بأن من يعمل بالحديث فهو زنديق!!.
إقرار متقدمي الصوفية ومتأخريهم بوجوب اتباع السلف:
تواتر عن شيوخ الصوفية المتقدمين أن أصل طريقهم اتباع الكتاب والسنة وموافقة السلف كما تقدم آنفا وتجد مثل هذا في كلام الصوفية الشاذين الذين خلطوا البدع بالسنن، وزعموا أنهم يأخذون علومهم عن الله الحي الذي لا يموت مباشرة، وأن علماء التفسير والحديث يأخذون علومهم عن الميتين كالفقهاء والمتكلمين، وهذا أساس الابتداع بل المروق من الدين. ومما نقله الشعراني عن الشيخ إبراهيم الدسوقي من الخلط بين الحق والباطل ما نصه:
((وكان - رضي الله عنه - يقول أسلم التفسير ما كان مرويا عن السلف، وأنكره ما فتح به على القلوب في كل عصر، ولولا محرك قلوبنا لما نطقت إلا بما ورد عن السلف، فإذا حرك قلوبنا وارد استفتحنا باب ربنا وسألناه الفهم في كلامه فنتكلم في ذلك الوقت بقدر ما يفتحه على قلوبنا، فسلموا لنا تسلموا، فإننا فخارة فارغة، والعلم علم الله تعالى)) ا ه.
أقول: من أين نعلم أو يعلمون هم أن خواطرهم التي يسمونها الواردات من الإلهام الإلهي لا من الوسواس الشيطاني، وكيف نسلم لهم ما لا نعلم، والإلهام الصحيح ليس بحجة كما تقدم؟ ثم كيف لا ننكر عليهم ما تراه مخالفا للكتاب والسنة وآثار السلف، وموافقا لإلحاد الباطنية أو بدع الخلف، وإنا وإياهم متفقون على أنه هو الحق الذي لا يصح الخلاف فيه؟
فثبت إذا أن أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم من عرفهم تعالى بقوله الحق:
{ { الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 63] وأنهم درجات كما بينها الله تعالى في قوله: { { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } [فاطر: 32] فالظالم لنفسه: من يقصر في اتباع الكتاب ولو بترك بعض الفضائل، والمقتصد: من يترك ما نهي عنه، ويفعل ما أمر به من الواجبات القاصرة على نفسه، والسابق بالخيرات: من يزيد على التقرب بالنوافل، والتكمل بالفضائل، والجمع بين التعلم والتعليم والتأدب والتأديب، حتى يكون إماما للمتقين، فهذه درجة المقربين من شهداء الله والصديقين وما قبلها درجة الصالحين من الأبرار أصحاب اليمين، فراجع سورتي الواقعة والمطففين، ففيهما بيان لقوله تعالى: { { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } [النساء: 69] وهي تفسير لدعائك في كل ركعة بقوله تعالى: { { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [الفاتحة: 6، 7].
وبهذا تقوم حجة الله على العالمين بأن هذا الدين تنزيل من رب العالمين، وقد أكمله لنا قبل أن يقبض الله رسوله محمدا خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لو صح شيء مما ابتدعه الناس فيه بفلسفتهم العقلية أو النفسية أو بما ادعوه من الكشف لما صحت شهادة الله بإكماله، ولا أنه من عنده لا من عند أحد من خلقه، وهذا كل غرضنا من هذا البحث، وقد أظهر به الحق ولله الحمد.