التفاسير

< >
عرض

فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٢
وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
١١٣
-هود

تفسير المنار

هذا السياق تفصيل للأوامر والنواهي التي هي ثمرة الاعتبار بما كان من سيرة الأمم مع الرسل: من جحدوا فأهلكوا. ومن آمنوا ثم اختلفوا وتفرقوا، فمن جمع بين هذا الأمر والنهي كمل إيمانه، وما بعدهما تفصيل لهما.
{ فاستقم كما أمرت } أي: كان أمر أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول، فاستقم مثل ما أمرناك في هذا الكتاب، أي الزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بالثبات عليه واتقاء الاختلاف فيه، { ومن تاب معك } أي: وليستقم معك من تاب من الشرك وآمن بك واتبعك - ولا تطغوا - فيه بتجاوز حدوده غلوا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كل منهما زيغ عن الصراط المستقيم، وهو يدل على وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية وهي العقائد والعبادات، وعلى اجتناب الرأي وبطلان التقليد فيها { إنه بما تعملون بصير } أي: إنه - تعالى - بصير بعملكم يبصر به ويراه ويحيط به علما فيجزيكم به. يقال: بصر بالشيء في اللغة الفصحى ومنه
{ فبصرت به عن جنب } [القصص: 11].
وقال - تعالى - في مثل هذا السياق من سورة الشورى بعد ما تقدم:
{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير } [الشورى: 15] أمره أن يدعو إلى الدين الذي كان عليه الرسل في عصورهم، قبل الاختلاف فيه الذي ابتدع من بعدهم، وأن يستقيم عليه كما أمره الله، وأن يخاطب أهل الكتاب بما يتبرأ به من الاختلاف، ومن إثارته بحجج الجدال، واكتفى في سورة هود بالأمر بالاستقامة على الجادة والنهي عن الطغيان، ومنه البغي الذي يورث الاختلاف ; لأن المقام مقام العبرة العامة بقصص الرسل كافة، لا بحال قوم موسى ومن أورثوا الكتاب خاصة، فهذا فرق ما بين المقامين في هذه الآيات المتشابهة.
وقد أوجز القاضي البيضاوي في وصف هذه الاستقامة فقال: وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين - والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها، وهي في غاية العسر، (كذا قال) ثم قال: " وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس أو استحسان " اهـ. وهذا أحسن مما قبله وهو ينقض بعضه.
فأحق النصوص بالاتباع من غير تصرف نصوص العقائد من صفات الله - تعالى - وعالم الغيب إذ لا مجال للعقل والرأي فيها، وقد كان تحكيم النظريات العقلية فيها مثار الاختلاف والشقاق والافتراق في الأمة، الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب وحذرنا منه في هذا السياق، وفيما هو أوضح منه من سياق سورة الشورى، وما في معناهما من السور الأخرى، وقد ترك البيضاوي بابه مفتوحا بزعمه أن الاستقامة في العقائد وسط بين التعطيل والتشبيه، ويعني به التأويل الكلامي لأنه من أساطين نظاره، وحجته قوله: بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين.
والصواب أن تحكيم العقل البشري في الخوض في ذات الله وصفاته، وفيما دون ذلك من عالم الغيب كملائكته وعرشه وجنته وناره، طغيان من العقل وتجاوز لحدوده وقد نهي عنه، لا صيانة له، فإن أكبر نظار البشر وفلاسفتهم عقولا قد عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات حتى الحشرات كالنحل والنمل، فأنى لهم أن يعرفوا كنه ذات الله وصفاته وأفعاله أو ملائكته، ولما خرجوا عن هدي سلف الأمة من الصحابة والتابعين وحملة الآثار زاغوا فكانوا
{ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } [الروم: 32] سقط بعضهم في خيال التعطيل، وبعضهم في خيال التشبيه، وبعضهم في حيرة النفي المحض هربا من الأمرين، وبعضهم في الذبذبة بتأويل بعض النصوص دون بعض، وهو ما سماه البيضاوي وسطا، فهم يتأولون علو الرب على جميع خلقه، واستواءه على عرشه، ورحمته بعباده، وحبه للمحسنين والمتوكلين، وأمثال هذه الصفات المرغبة في الحق والعدل، والمنفرة من الظلم والبغي، يتأولونها هربا من التشبيه بزعمهم؛ لأنها مستعملة في صفات البشر، وما من تأويل لها إلا وهو بألفاظ بشرية مثلها تحتاج إلى تأويل، وقصاراها أنها إيثار لما اختاروه في وصفه - تعالى - على ما أنزله في كتابه ورضيه لنفسه.
ثم إنهم لا يؤولون صفات العلم والقدرة والمشيئة والسمع والبصر، مع القطع بأن معانيها اللغوية المستعملة في البشر تستلزم التشبيه الذي قالوه في الرحمة والحب والرضى والغضب، فإن علمه - تعالى - ليس كعلمنا في استعداده من المعلومات ولا في صورتها في النفس - فكيف إذا قلنا في الدماغ - ولا في انقسامه إلى تصور وتصديق ينقسمان إلى بديهي ونظري، ولا قدرته - تعالى - ومشيئته في كنههما وتعلقهما بالأشياء كقدرتناومشيئتنا، فالواجب إذا أن نؤمن بأن كل ما وصف الله - تعالى - به نفسه فهو حق وكمال، إلا أنه أعلى وأكمل من صفات خلقه التي وضعت لها تلك الأسماء، وكذلك الأفعال وقد قالوا في رؤيته - تعالى -: إنها حق بلا كيف. فلم لا يقولون مثل هذا في غيرها؟!.
وإنما نقول هنا: لو أن التأويل الكلامي الذي عناه البيضاوي هنا شيء يقتضيه إدراك العقل البشري بالعلم الضروري أو النظري، الذي ينتهي إلى الضرورة بإجماع العقلاء، لما وقع فيه ما وقع من الاختلاف المذموم شرعا ومصلحة، حتى انتهى ببعض الفرق إلى المروق من الملة بتأويل أركان الدين حتى العملية التي لا مساغ فيها للتأويل، ولم يقع مثل هذا الاختلاف في أصول العقائد ولا أركان الإسلام العملية بين الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم أعلم بالدين ممن بعدهم بالإجماع.
فقوله - تعالى -: { فاستقم كما أمرت } يقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبذلك دون سواه نجتنب ما أمر الله به جميع رسله وأتباعهم من اجتناب الاختلاف والتفرق في الدين، الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم، وبرأ رسوله من أهله المفرقين والمتفرقين.
وكذلك يقتضي التزام كتاب الله وما فسرته به سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من العبادات العملية، بدون تحكم بالرأي والقياس كما قال البيضاوي وغيره، وفي معناها وحكمها التحريم الديني، فكل منهما لا يثبت إلا بالنص القطعي أو بالإجماع، وأما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة فهو طبيعي لا يمكن الاحتراس منه ولا يخل بالدين، ولا يصح أن يجعل سببا لقطع أخوته، وقد بين الله المخرج منه في سورة النساء بقوله:
{ ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [النساء: 59] الآية.
هذا؛ وإن مقام الاستقامة لأعلى المقامات، يرتقى به لأعلى الدرجات، كما يدل عليه هذا الأمر به للرسول - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الآيتين، ولموسى وهارون عليهما السلام في قوله:
{ قد أجيبت دعوتكما فاستقيما } [يونس: 89] وقوله - تعالى -: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا } [فصلت: 30] الآيات. وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال: "قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم" فالاستقامة عين الكرامة كما قالوا.
قال السيد عبد الفتاح الزعبي الجيلاني لعم والدي السيد أحمد أبي الكمال وهو زوج عمته: يا سيدي إنك صحبت الشيخ محمودا الرافعي، وإني أرى أتباعه يذكرون له كثيرا من الكرامات فأرجو أن تخبرني بما رأيت منه، قال: رأيت منه كرامة واحدة هي الاستقامة. أخبرني الشيخ عبد الفتاح هذا الخبر، وقال: أنا لم أكن أصدق ما ينقلونه من تلك الكرامات، فسألته لأنني أعتقد أنه كان من الصديقين في هذا العصر. وكان الشيخ عبد الفتاح نقادة وسيئ الظن بما ينقله أهل طرابلس عن بعض شيوخ الطريق الذين اشتهروا بالصلاح ممن لم يدركهم، ويعتقد أن بعض ما ينقلونه عنهم من الكرامات كذب كما عهده من كثير من معاصريه وبعضه أوهام، واختبر التزام الشيخ أحمد للصدق بطول المعاشرة، للمودة بين الأسرتين والمصاهرة. وقد ذكرت هذه الحكاية على صغر شأنها لأن أولى الصدق والاستقامة في هذه البيوتات القديمة أمسى قليلا في بعضها وخلا من بعض، وإذا كان البيضاوي قال في القرن السابع وغيره قبله وبعده: إن الاستقامة في غاية العسر، فما قال ذلك إلا لقلة من يرعاها حق رعايتها بالثبات عليها أو بلوغ الكمال فيها، لا لعسرها في نفسها، فإن الله لم يكلفنا من شرعه عسرا
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185].
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } أي: ولا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم، فتجعلوهم ركنا لكم تعتمدون عليهم فتقرونهم على ظلمهم، وتوالونهم في سياستكم الحربية أو أعمالكم الملية، فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، فالركون من ركن البناء وهو الجانب القوي منه، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن لوط - عليه السلام -:
{ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } [هود: 80] والسند بمعنى الركن، وقد اشتق منه: سند إلى الشيء (كركن إليه) واستند إليه، وفسره الفيروزابادي في قاموسه بالتبع للجوهري بالميل إلى الشيء والسكون له، وهو تفسير بالأعم كعادتهم، وفسره الزمخشري بالميل اليسير، وتبعه البيضاوي وغيره من المفسرين الذين يعتدون عليه في تحريره للمعاني اللغوية لدقة فهمه وذوقه وحسن تعبيره، وإنه لكذلك، وقلما يخطئ في اللغة إلا متحرفا إلى شيوخ المذهب (المعتزلة) أو متحيزا إلى فئة رواة المأثور من الصحابة والتابعين أو نقلة اللغة، وشيوخ المذهب يخطئون في الاجتهاد، وفئة الروايات تخطئ في اعتماد الأسانيد الضعيفة والإسرائيليات، ورواة اللغة يفسرون اللفظ أحيانا بما هو أعم منه أو بلازمه أو بغير ذلك من قرائن المجاز في بعض كلام العرب، ولا يعنون أن ذلك هو حد اللفظ المعرف بحقيقته، وقد فسر " الركون " بعضهم بالميل والسكون إلى الشيء وهو من تساهلهم، ولكنهم قد ذكروا في مادته ما يدل على هذا التساهل ويؤيد ما حققناه. قال في القاموس المحيط تبعا للصحاح: ركن إليه كنصر ركونا: مال وسكن، والركن بالضم الجانب الأقوى (زاد الجوهري من كل شيء) والأمر العظيم والعز والمنعة اهـ. ومثله في لسان العرب وذكر الآية، وأن الركون فيها من مال إلى الشيء واطمأن إليه، والاطمئنان أقوى من السكون، وفسره في المصباح المنير بالاعتماد على الشيء وهو أقوى من الاطمئنان، والمعاني الأربعة: أي الميل والسكون والاطمئنان والاعتماد من لوازم معنى الركون ولا تحيط بحقيقته، وأقواها آخرها.
قال في اللسان كغيره: وركن الشيء جانبه الأقوى، والركن الناحية القوية وما تقوى به من ملك وجند وغيره، وبه فسر قوله - تعالى -:
{ فتولى بركنه } [الذاريات: 39] ودليل ذلك قوله: تعالى: { فأخذناه وجنوده } [القصص: 40] أي أخذناه وركنه الذي تولى به إلى آخر ما قال، وهو يدل على ما حققناه في معنى الركون الحقيقي، وإنما عنيت بتحقيقه لما جاءوا في تفسيره وتفسير الظلم المطلق المعاقب عليه من التشديد الذي لا ترضاه الآية، كما فعلوا في تفسير الاستقامة إذا تجاوزوا بهما سماحة دين الفطرة، ويسر الحنيفية السمحة، فإن الله - تعالى - جعل دينه يسرا لا عسر فيه، وسمحا لا حرج على متبعيه.
فسر الزمخشري " الذين ظلموا " بقوله: أي: إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين، وحكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم؟ اهـ. ومعنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان، وهذا غلط أيضا، وإنما المراد بـ الذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه، فهم " كالذين كفروا " في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين، لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي وحسبك منها قوله - تعالى -:
{ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون بالآية السابقة بقوله: { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بـ الذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة في الآيات (37 و67 و94) وعبر عنهم فيها بـ الظالمين أيضا كقوله: { وقيل بعدا للقوم الظالمين } [هود: 44] فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف والتعبير بـ " الذين " وصلته، فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد.
فقوله - تعالى -: { فتمسكم النار } معناه: فتصيبكم النار التي هي جزاء الظالمين، بسبب ركونكم إليهم بولايتهم والاعتزاز بهم والاعتماد عليهم في شئونكم الملية، لأن الركون إلى الظلم وأهله ظلم،
{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة: 51] روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فسر الظلم هنا بالشرك، والذين ظلموا بالمشركين، إذ السورة مكية، ولم يك في مكة وما حولها غير المشركين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا المؤمنين، ومعنى الآية عام في موضوعها، فولاية أهل الكتاب على المؤمنين كولاية المشركين لا خلاف في هذا وهو منصوص، ولكن قال بعض المفسرين: إن الآية عامة في كل نوع من أنواع الظلم، فيشمل ظلم المسلمين لأنفسهم في أحكامهم وأعمالهم، وسيأتي بيانه بعد تمام تفسيرها الذي نفهمه من مدلول ألفاظها وسياقها وحال المخاطبين بها مع الظالمين لهم في عصرهم، ويدل على ما حققناه قوله - تعالى -:
{ وما لكم من دون الله من أولياء } أي: وما لكم في هذه الحال التي تركنون إليهم فيها غير الله من أنصار يتولونكم: { ثم لا تنصرون } بسبب من الأسباب ولا بنصر الله - تعالى - فإن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم، وهو لا ينصر الظالمين كما قال:
{ وما للظالمين من أنصار } [البقرة: 270] بل تكون غايتكم الحرمان مما وعد الله رسله ومن ينصره من المؤمنين من نصره الخاص، فالتعبير بـ ثم للدلالة على الغاية والعاقبة المقدرة لهم إن ركنوا إلى أعدائه وأعدائهم الظالمين. وقال الزمخشري ومن تبعه: إنها دالة على استبعاد نصرهم في هذه الحالة؛ لأن حكمة الله اقتضت عقابهم بالنار، وما قلته أقرب ولله الحمد والمنة.
وفي معنى الآية ما ورد من الآيات الكثيرة في النهي عن ولاية الكفار واتخاذ وليجة من دون الله ورسوله منهم، وعن اتخاذ المؤمنين بطانة من دونهم، وقد اتخذ المشركون وسائل كثيرة لاستمالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الركون إليهم، فعصمه الله من ذلك بعد أن كاد يرجح له اجتهاده أن في بعض ذلك مصلحة واستمالة لهم إلى الإيمان، وذلك قوله - تعالى -:
{ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا } [الإسراء: 74-75] يعني لولا أن ثبتناك بالعصمة لقاربت أن تركن إليهم شيئا قليلا من الركون، كأن تصدقهم أنهم أهل لأن يعتمد عليهم بعض الاعتماد، إذا أقبلت عليهم وأعرضت عن فقراء المؤمنين لاستمالتهم، كما فعلت مع الأعمى، ولكن تثبيتنا إياك عصمك من مقاربة أقل الركون إليهم، فضلا عن مقارفة هذا الأقل، فالآية الأولى نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - ما ركن أقل الركون ولا قارب أن يركن، والآية الثانية نص في أنه لو فعل ذلك (فرضا) لعاقبه الله عقابا في الحياة والممات معا، وهذه مبالغة في الزجر والوعيد لغيره - صلى الله عليه وسلم - على الركون إليهم لا تصل بلاغة الكلام البشري إلى مبادئها، فضلا عن أوساطها أو غاياتها.
ولو كان معنى الركون في اللغة الميل اليسير مهما يكن نوعه كما زعم الزمخشري ومقلدوه، لكان هذا الوعيد الشديد على قليل منه على قلته في نفسه مما لا يمكن أن تراد به حقيقته ; لأنه أشد الوعيد على ما لا يستطيع بشر اتقاءه إلا بعصمة خاصة من الله - تعالى - كما سترى في تفسيرهم له، أما والحق ما قلناه، وهو أن الركون إلى الشخص أو الشيء هو الاعتماد عليه والاستناد إليه وجعله ركنا شديدا للراكن، فأجدر بقليله أن يتعذر اجتنابه على أكمل البشر إلا بالعصمة والتثبيت الخاص من الله عز وجل، فكيف ينهى جميع المؤمنين عن الميل اليسير إلى من وقع منه أي نوع من الظلم؟
لم يكن ميل النفس الطبعي من المؤمنين إلى أولادهم وأرحامهم المشركين الظالمين ولا البر بهم والإحسان إليهم محظورا عليهم ; لأنه ليس من الركون إليهم الخاص بالولاية لهم والاعتماد عليهم وهو المنهي عنه، ولا من الميل إليهم لأجل الظلم. ولما فعل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - فعلته التي هي أقرب إلى الولاية الحربية منها إلى صلة الرحم كما تأولها، أنزل الله - تعالى - سورة الممتحنة التي نهى فيها عن ولاية المشركين الظالمين المقاتلين في الدين والمودة فيها وقال:
{ ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [الممتحنة: 9] وأذن بالبر والقسط لغيرهم منهم، ولا تنس ما ورد في الصحيح من نزول قوله - تعالى -: { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص: 56] في حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إسلام عمه أبي طالب الذي كفله في صغره، وكان يحميه ويناضل عنه في نبوته، واذكر قول السيدة خديجة - رضي الله عنها - له في حديث بدء الوحي: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل" إلخ.
بل لم تكن الثقة ببعض المشركين والاعتماد عليهم في أهم الأعمال من الركون المنهي عنه، فقد وثق النبي - صلى الله عليه وسلم - والصديق الأكبر - رضي الله عنه - بمشرك من بني الديل وائتمناه على الراحلتين اللتين هاجرا عليهما ليوافيهما بهما في الغار بعد ثلاث، وكان المشركون الظالمون يبحثون عنهما، وقد جعلوا لمن يدلهم عليهما قدر ديتهما.
واختلف أئمة العلم في استعانة المسلمين بالكافر في الحرب لتعارض الأحاديث فيها، وجمع الحافظ بينها في التلخيص بقوله: إن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، قال الشوكاني: وهذا أقربها وعليه نص الشافعي. انتهى. ولا شك أنهم لم يعدوها من الركون إليهم.
ومن مباحث القراءات اللفظية أن بعضهم قرأ { تركنوا } بضم الكاف، وهي لغة قيس وتميم ونجد. وبعضهم قرأها وقرأ فتمسكم بكسر تائهما وهي لغة تميم.
(نموذج من قصور أقوال المفسرين وغلطهم وتقليدهم في تفسير الآية):
(1) الروايات المأثورة والمعتمدون عليها:
روى الإمام ابن جرير المتوفى سنة 310 هـ عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فسر الآية بالركون إلى الشرك (وهو أقوى ما روي فيها) وروي عنه تفسيره بالميل وأنه قال: لا تميلوا إلى الذين ظلموا. وروى عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم { ولا تركنوا } لا تذهبوا، وهو ليس تفسيرا بالمعنى اللغوي، ولا يظهر المراد الشرعي منه إلا بقرينة ما قبله إن جمع بينهما بإرادة المشركين الظالمين للمؤمنين، وروي عن عكرمة أنه فسر (الركون " بالطاعة أو المودة أو الاصطناع، وعن أبي العالية قال: لا ترضوا أعمالهم (وهو تفسير بأحد اللوازم البعيدة) وعن الحسن قال: خصلتان إذا صلحتا للعبد صلح ما سواهما من أمره: الطغيان في النعمة، والركون إلى الظلم، ثم تلا الآية، وهذا من فقه الآيتين لا تفسير لهما. وعن قتادة قال: يعني لا تلحقوا بالشرك وهو الذي خرجتم منه. وأخذ ابن جرير خلاصة هذه الروايات فقال في تفسير الآية: ولا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا عن أعمالهم فتمسكم النار بفعلكم إلخ.
وما قاله ورواه حق في نفسه ولكنه لا يحيط بمعنى الآية، وما كانت تلك الروايات إلا كلمات مجملة وجيزة ذكرت بالمناسبة لا يقصد تحقيق معنى الآية في لغتها وأسلوبها وموقعها من العبرة بقصص الرسل مع أقوامهم الظالمين. وقال مثله كل من البغوي وابن كثير فإنهما يعتمدان على المأثور قل أو كثر.
(2) قال أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370 هـ في تفسيره (أحكام القرآن): والركون إلى الشيء: هو السكون إليه والمحبة، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم، وهو مثل قوله - تعالى -:
{ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } [الأنعام: 68] انتهى. وقد أبعد كل البعد، وإنما هو فقيه لا لغوي ولا مفسر عام.
(3) قال الزمخشري المعتزلي المتوفى سنة 528 هـ في كشافه بعد ذكر القراءات في الآية:
والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: { ولا تركنوا } فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله: { إلى الذين ظلموا } أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين. انتهى المراد منه. وذكر بعده حكاية صلاة الموفق خلف الإمام الذي قرأ الآية فغشي عليه وتقدمت، وموعظة بليغة وعظها للزهري أحد إخوانه من عباد السلف وزهادهم.
أقول: كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، وقد يكون من لوازم الركون الحقيرة، ولكن لا يصح أن يجعل شيء منه تفسيرا للآية مرادا منها والمخاطب الأول بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون إلى التوبة من الشرك والإيمان معه، ولم يكن أحد منهم مظنة الانقطاع لظلمة المشركين والانحطاط في هواهم والرضا بأعمالهم، وأما زيارتهم ومصاحبتهم ومجالستهم والتزيي بزيهم وأمثال ذلك من العادات فلم يكونوا منهيين عنه، بل كان زي المؤمنين وزيهم واحدا وعاداتهم الدنيوية واحدة، إلا ما كان قبيحا نهى عنه الإسلام، وكانت صلة الرحم معهم مشروعة زادها الإسلام تأكيدا، وكذلك سائر فضائل المعاشرة. ولما نزلت هذه السورة كان المسلمون ضعفاء في مكة والمشركون أقوياء فيها، ولما نزلت سورة الممتحنة كان الأمر بالعكس إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عازما على الزحف بالمؤمنين لفتح مكة، وكان الفصل فيها في معاملتهم للمشركين أن الله - تعالى - لا ينهاهم عن الذين لم يقاتلوهم في الدين أن يبروهم ويقسطوا إليهم، وإنما ينهاهم عن الذين قاتلوهم في الدين.... أن يتولوهم وينصروهم.
(4) وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هـ في أحكام القرآن:
في الآية مسألتان: (الأولى) الركون فيه اختلاف بين النقلة للتفسير، وحقيقته الاستناد والاعتماد على الذين ظلموا. (المسألة الثانية) قيل في الذين ظلموا إنهم المشركون، وقيل: إنهم المؤمنون، وأنكره المتأخرون، وقالوا: أما الذين ظلموا من أهل الإسلام فالله أعلم بذنوبهم، لا ينبغي أن يصالح على شيء من معاصي الله ولا يركن إليه فيها، وهذا صحيح، لأنه لا ينبغي لأحد أن يصحب على الكفر، وفعل ذلك كفر، ولا على المعصية، وفعل المعصية معصية. قال الله في الأول:
{ ودوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 9] وسيأتي إن شاء الله، وإن كانت في الكفار فهي عامة فيهم في العصاة، وذلك على نحو من قوله: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } [الأنعام: 68] الآية. وقال حكيم:

على المرء لا تسأل وسل عن... قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

والصحبة لا تكون إلا عن مودة، فإن كانت عن ضرورة وتقية فقد تقدم ذكرها في آية آل عمران على المعنى، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار اهـ. وقد أصاب المعنى اللغوي والمأثور دون فقه الآية.
وتبعه القرطبي المتوفى سنة 671 هـ في تفسيره جامع أحكام القرآن فنقل كلامه بدون عزو إليه ولم يزد عليه.
(5) وقال أبو علي الفضل بن الحسن الطوسي الشيعي المتوفى سنة 561 هـ في تفسيره مجمع البيان:
(اللغة) الركون إلى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له والإنصات والانصباب إليه بالمحبة، نقيضه النفور. (والمعنى) ثم نهى الله - سبحانه - عن المداهنة في الدين والميل إلى الظالمين فقال: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } أي ولا تميلوا إلى المشركين في شيء من دينكم، عن ابن عباس، وقيل: لا تداهنوا عن السدي وابن زيد، وقيل: إن النهي عن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضاء بفعلهم أو إظهار موالاتهم. فأما الدخول عليهم أو مخالطتهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجائز عن القاضي. وقريب منه ما روي عنهم أن الركون: المودة والنصيحة والطاعة. انتهى. وهو لم يأت من عنده بشيء، وإنما ذكر بعض الروايات المتقدمة وزاد عليها عبارة عن أستاذهم القاضي عبد الجبار المعتزلي ورواية آل البيت عليهم السلام.
(6) وقال فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى سنة 606 هـ في تفسيره الكبير مفاتح الغيب: الركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة، ونقيضه النفور عنه.... قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون، ومعنى قوله: { فتمسكم النار } أي إنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون، واعلم أن الله حكم بأن من ركن إلى الظلمة لابد وأن تمسه النار، وإن كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه " اهـ
قد تبع الإمام الرازي خصمه المعتزلي (الزمخشري) فأساء التقليد، واختصر على خلاف عادته وما أفاد، بل زاد عليه الاعتذار لطلاب المنافع ودرء المضار من الظالمين فأخرج مداخلتهم إياهم من جريمة الركون إليهم، وهل يداخلهم أحد إلا لهذا؟
(7) وقال القاضي ناصر الدين عبد الله عمر البيضاوي الشافعي المتوفى سنة 685 هـ - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا - فلا تميلوا إليهم أدنى ميل، فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم { فتمسكم النار } بركونكم إليهم، وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول ومن معه من المؤمنين بها، والتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فهو ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه اهـ.
(8) قال عبد الله بن أحمد النسفي الحنفي المتوفى سنة 701 هـ في تفسيره مدارك التنزيل: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } [هود: 113] ولا تميلوا، قال الشيخ -رحمه الله -: هذا خطاب لأتباع الكفرة، أي: لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه { فتمسكم النار } وقيل: الركون إليهم الرضا بكفرهم، وقال قتادة: ولا تلحقوا بالمشركين، وعن الموفق أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له. فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم!! وعن الحسن: جعل الله الدين بين لاءين: - ولا تطغوا - ولا تركنوا -. وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه" ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية: أيسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت؟ قال: دعه يموت: { وما لكم من دون الله من أولياء } حال من قوله: { فتمسكم النار } أي فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة. ومعناه: - وما لكم من دون الله من أولياء - يقدرون على منعكم من عذابه، ولا يقدر على منعكم منه غيره - ثم لا تنصرون - ثم لا ينصركم هو ; لأنه حكم بتعذيبكم، ومعنى " ثم " الاستبعاد، أي النصرة من الله مستبعدة. انتهى. وفيه خطأ غير ما قلد به الزمخشري.
(9) وقال أبو السعود شيخ الإسلام مفتي دولة الروم العثمانية المتوفى سنة 983 هـ، في تفسيره (إرشاد العقل السليم): { ولا تركنوا } أي تميلوا أدنى ميل { إلى الذين ظلموا } أي إلى الذين وجد منهم ظلم في الجملة، ومدار النهي هو الظلم، والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي، من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم، إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة، وليس كذلك، { فتمسكمْ بسبب ذلك { النار }، وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلا عظيما، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم، ويلقي شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم، ويبتهج بالتزيى بزيهم، ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية، وهي في الحقيقة من الحبة طفيف، ومن جناح البعوضة خفيف، بمعزل عن أن تميل إليه القلوب - ضعف الطالب والمطلوب - 22: 73 وخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو على غيره. انتهى. وفيه خطأ غير ما قلد به الزمخشري وتكلف.
(10) وقال السيد محمود الألوسي مفتي الحنفية في بغداد - بعد أن كان شافعيا - في تفسيره روح المعاني:
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنه - وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك، كما يفسر - الذين ظلموا - بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا. قيل: ولإرادة ذلك لم يقل: إلى الظالمين، ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم، وترك التغيير عليهم مع القدرة، والتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم. ومجالستهم من غير داع شرعي، وكذا القيام لهم ونحو ذلك. ومدار النهي على الظلم، والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل: إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس كذلك، { فتمسكم } أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي { النار } وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني - وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير - ذهب أكثر المفسرين، قالوا: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم، ويتهيج بالتزيى بزيهم، والمشاركة لهم في غيهم، ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية، غافلا عن حقيقة ذلك، ذاهلا عن منتهى ما هنالك، وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم، بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان: إني أخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال له: لا، أنت منهم، والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم اهـ.
من تأمل أقوال من بعد الزمخشري في تفسير الآية يرى أنهم كلهم قلدوه فيما فسر به الركون، وهو غلط منه كما حققته في أول تفسير الآية، وأنه هو مشتق من الركون وهو الجانب القوي من البناء ومن كل شيء، فمعنى الركون إليهم الاستناد إليهم والاعتماد على ولايتهم ونصرهم إلخ. وفي تفسير - الذين ظلموا - بالذين وقع منهم ظلم ما هو غلط أيضا، وإنما هو في الكلام على الأقوام كالوصف باسم الفاعل، فقوله - تعالى -:
{ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] معناه: جماعة الكافرين الراسخين في الكفر لا من وقع منهم كفر ما إلى آخر ما تقدم.
(11) أختم هذه النقول بما أورده السيد محمد صديق حسن خان نائب ملك بهوبال (الهند) المتوفى سنة 1307 هـ وفي تفسيره (فتح البيان في مقاصد القرآن) الذي أودعه تفسير أستاذه القاضي الشوكاني المسمى (بفتح القدير) وزاد عليه، فكان ما أورده عنه مغنيا عن أصله.
فقد اتفق المفسران على تخطئة الزمخشري ومن تبعه في تفسير الركون بالميل اليسير، وأوردا بعض ما قاله رواة التفسير واللغة في معناه مخالفا له، مما نقلناه وزنا عليه، وانفردنا بتحقيق معناه دونهم ودونهما، ثم انفردا بالبحث الآتى بنصه قال:
" وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية، هل خاصة بالمشركين أو عامة؟ فقيل: خاصة، وأن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وأنهم المرادون بـ - الذين ظلموا - وقد روي ذلك عن ابن عباس، وقيل: إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(فإن قلت): وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر، الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء، حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح: "أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا رأسه كالزبيبة" وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة، وما لم يظهر منهم الكفر البواح، ولم يأمروا بمعصية الله، وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه، وفعلوا أعظم أنواعه، مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم، والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به الجهاد، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم، وإقامة الحدود على من وجبت عليه.
" وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به ما لم يكن من معصية الله، ولابد في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لابد منه، ولا محيص عن هذا الذي ذكرنا من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة به، بل قد ورد به الكتاب العزيز:
{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59] بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة "أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم" ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال: "وإن أخذ مالك وضرب ظهرك" فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون، فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهرا وباطنا فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر لأمر يقتضي ذلك شرعا كالطاعة أو التقية، ومخافة الضرر منهم أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو دفع مفسدة عامة، أو إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضى بأفعالهم اهـ.
(قلت): أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها، حيث لم تكن في معصية الله، فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها، مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدمنا الإشارة إليها، ولا شك في هذا ولا ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم، مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها، إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه فذلك واجب عليه، فضلا عن أن يقال جائز له. وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء جمعا بين الأدلة، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة، وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا يخفى على الله خافية.
وبالجملة: فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك " فعلى نفسها براقش تجني "، ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به. يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اجعلنا من عبادك الصالحين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذين لا يخافون فيك لومة لائم، وقونا على ذلك، ويسره لنا، وأعنا عليه اهـ.
تحقيق مسألة طاعة الأئمة والأمراء:
إن هذا البحث الذي فتح بابه ودخله هذان المجددان في تفسيريهما (فتح القدير، وفتح البيان) كان استدراكا ضروريا لما فسر به الآية جمهور من قبلهما فاقتصروا وقصروا، لولاه لما كان إليه حاجة في فهم الآية، على أنهما على سبقهما لم يسلما من تقصير، ولم يأتيا بكل ما يحتاج إليه البحث من تحرير، وأوردا الأحاديث بالمعنى بدون تخريج ولا تدقيق.
أهم ما في البحث من حاجة إلى التحرير، مسألة طاعة الملوك والسلاطين والأمراء الظالمين وإن تفاقم ظلمهم فسلبوا الأموال، وضربوا ظهور الرجال، ما داموا لا يظهرون الكفر البواح (هو بالفتح: الظاهر المكشوف) وقد اشتهر أن هذا مذهب أهل السنة، وأن وجوب الخروج عليهم مذهب الزيدية.
والصواب أن المسألة فيها نظر، فإطلاق القول فيها يحتاج إلى تقييد، وإجماله لا ينجلي إلا ببيان وتفصيل، وقد سبق لنا تحريره في كتاب (الخلافة 0 أو الإمامة العظمى) وفي هذا التفسير.
وخلاصة القول الحق أنه لا تعارض بين وجوب طاعة الأئمة والأمراء فيما لا معصية فيه لله تعالى من المعروف، وبين النهي عن الركون إلى الظالمين، وحظر ما دون الركون إليهم مما قاله المفسرون وغيرهم، وما في معنى هذا النهي من آيات الذكر الحكيم في تقبيح الظلم، وبيان كونه سببا لهلاك الأمم في الدنيا وعذابها في الآخرة، وكذا الآيات الدالة على سلطة الأمة عليهم.
وما ورد من الأحاديث في طاعتهم يقابله ما ورد فيها من وجوب الأخذ على أيدي الظالمين عامة، وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة، ووجوب تغيير المنكر باليد أولا فإن لم يستطع فباللسان، وكون إنكاره بالقلب عند عدم الاستطاعة لما قبله أضعف الإيمان، ومنه عدم الميل إليهم ولو يسيرا، وهو الذي فهمه من ذكرنا من المفسرين من النهي عن الركون، فإنكارهم له حق في نفسه، وإنما أخطأ من أخطأ في تفسير الركون به.
وحسبنا هنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وغيرهم في تفسير قوله - تعالى -:
{ عليكم أنفسكم } [المائدة: 105] الآية، ففي المسند من طريق قيس (أبي حازم) قال: قام أبو بكر - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: { ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } حتى أتى على آخر الآية - ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم لم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه، ألا وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس" ... وفي رواية أخرى عنه أنه خطب فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله: { ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه" ، وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحميدي في مسانيدهم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.
وفي معنى هذا الحديث ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فلعنهم { على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } [المائدة: 78]" قال: فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطرا" وفي رواية أبي داود قال: قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم الله كما لعنهم" اهـ. أطره على الحق وغيره: عطفه وثناه، وقصره عليه حبسه وأمسكه عليه حتى لا يتعداه (وبابهما ضرب).
والأصل المجمع عليه أن الطاعة الواجبة في الشرع هي لأولي الأمر من الأئمة (الخلفاء) ونوابهم من السلاطين وأمراء الجيوش والولاة، وكلها مقيدة بالمعروف من الواجب والمندوب والمباح، دون المحظور. وأما طاعة المتغلبين فهي للضرورة، وتقدر بقدرها بحسب المصلحة، ويجب إزالتها عند الإمكان من غير فتنة ترجح مفسدتها على المصلحة، فخروج الإمام الحسين السبط - عليه السلام - على يزيد الظالم الفاسق كان حقا موافقا للشرع، ولكنه ما أعد له عدته الكافية، بل خذله من عاهدوه على نصره، وقد امتنع أبو حنيفة من الإجابة إلى ولاية القضاء، وفر منها الشافعي، وكان من أمر مالك ما كان حتى روي أنه ترك صلاة الجمعة مع ولاتهم.
قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتابه (مراتب الإجماع): واتفقوا أن الإمام الواجب إمامته، فإن طاعته في كل ما أمر ما لم يكن معصية فرض، والقتال دونه فرض، وخدمته فيما أمر به واجبة، وأحكامه وأحكام من ولى نافذة، واختلفوا فيما بين مدن الطرفين من إمام قرشي غير عدل أو متغلب من قريش أو مبتدع إلخ.
وأورد الشوكاني في الباب من " نيل الأوطار " حديث عبادة بن الصامت: " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان "، متفق عليه. وقال الشوكاني في شرحه ما نصه:
قوله: " عندكم فيه من الله برهان " أي: نص آية، أو خبر صريح لا يحتمل التأويل. ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم. انتهى.
" قال في الفتح: وقال غيره: إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا، ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع، إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه، قال ابن بطال: إن حديث ابن عباس المذكور في أول الباب حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار.
" قال في الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا يجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث. انتهى.
وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال، بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك العمومات مطلقا، وهي متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة، ولكنه لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على أئمة الجور، فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم، وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم، ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية، ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب، حتى حكموا بأن الحسين السبط - رضي الله عنه وأرضاه - باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله، فيالله العجب من مقالات تقشعر منها الجلود، ويتصدع من سماعها كل جلمود. انتهى ما في نيل الأوطار.
هذا وإن حديث ابن عباس الذي عزاه إلى أول الباب هو قوله - صلى الله عليه وسلم -
"من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" هو متفق عليه. وهذا وما في معناه من أحاديث لزوم الجماعة وإمامهم الذي بايعوه واجتمعت كلمتهم عليه، أخص مما تقدم الكلام فيه عن العلماء في أمراء الجور، وقد قالوا في معنى موته ميتة جاهلية: إنه يموت وليس في عنقه بيعة لإمام يلتزمها مع جماعة المؤمنين، كما صرح به في بعض الروايات، فيكون كما كان عليه أهل الجاهلية من الفوضى لا أنه يكون كافرا اهـ.
وكل هذا في خروج بعض الأفراد أو الفئات على إمام المسلمين وجماعتهم بشق عصا الطاعة، وتفريق شمل الجماعة، وهو الفساد في الأرض، وإن كان الإمام ظالما، فإن كف الإمام عن الظلم ولو بالعزل فهو حق أهل الحل والعقد الذين هم محل ثقة الأمة، الذين يمثلون الرأي العام فيها، الذين عناهم خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله في خطبته الأولى عقب مبايعته:
"فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني" .