التفاسير

< >
عرض

أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ
٣٥
-هود

تفسير المنار

اختلف المفسرون في هذه الآية، فقال مقاتل وغيره: هي معترضة في قصة نوح حكاية لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص الذي تقدم الرد عليه في الآية الثالثة عشرة من هذه السورة وقال الجمهور: إنها من قصة نوح لا مقتضى لاعتراضها في وسطها وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وفيه أن مثل هذه الجمل الاعتراضية معهود في القرآن كآيتي الوصية بالوالدين في أثناء موعظة لقمان بعد نهيه عن الشرك من سورته وهما: { ووصينا الإنسان بوالديه } [لقمان: 14] إلى آخر الآية، وبعدها: { يا بني إنها إن تك مثقال حبة } [لقمان: 16] إلخ وكذلك الآيات (53 - 55) ((من سورة طه 20)) قالوا: إنها معترضة في المحاورة بين موسى - عليه السلام - وفرعون عليه اللعنة.
وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد يقتضيها تلوين الخطاب لتنبيه الأذهان، ومنع السآمة وتجديد النشاط في الانتقال، والتشويق إلى سماع بقية الكلام ; فمن المتوقع هنا أن يخطر في بال المشركين عند سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة كما زعموا، لاستغرابهم هذا السبك في الجدال والقوة في الاحتجاج، وأن يصدهم هذا عن استماع، فيكون إيراد هذه الآية تجديدا للرد عليهم ولنشاطهم، وأعظم بوقعها في قلوبهم إذا كان هذا الخاطر عرض لهم عند سماع ما تقدم من القصة، فما قاله مقاتل: له وجه وجيه من وجهة الأسلوب الخاص بالقرآن، وهو أقرب إلى تعبيرها عن الإنكار بـ ((يقولون)) وعن الرد عليهم بـ ((قل)) الدالين على الحال، وأبعد عن سياق حكي كله بفعل الماضي من الجانبين ((قالوا: قال)) وهو سياق قصة نوح - عليه السلام -، ولكنه ليس قطعيا في الأول، وإنما هو الأرجح عندي وعليه ابن جرير، ومقابله ضعيف وهو لجمهور المفسرين.
(أم يقولون افتراه) أي أم يقول مشركو مكة: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد افترى هذا الذي يحكيه من قصة نوح، أو يقول نوح: إنه افترى هذا الذي وعدنا به من العذاب { قل إن افتريته فعلي إجرامي } أي إن كنت افتريته على الله عز وجل فرضا فهو إجرام عظيم علي إثمه وعقابه من دونكم ; (إذ الإجرام: الفعل القبيح الضار الذي يستحق فاعله العقاب، من الجرم الذي هو قطع الثمر قبل بدو صلاحه الذي يجعله منتفعا به كما سبق في آيات أخرى) ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فما الذي يحمله على اقترافه { وأنا بريء مما تجرمون } لأن حكم الله العدل أن يجزي كل امرئ بعمله
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام: 164] { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [البقرة: 286] وتقدم هذا المعنى بما هو أعم مما هنا وهو: { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } [يونس: 41] وقد أثبت عليهم الإجرام هنا ; ومنه - أو أشده - تكذيبه ووصفه بالافتراء على الله - عز وجل - وهذا الأسلوب من الجدال بالتي هي أحسن يستخفه السمع، ويقبله الطبع.