أقول: هذا خطاب للمؤمنين في أمر له علاقة بما كان بينهم وبين اليهود، فهو متعلق بماضي السياق الخاص ببني إسرائيل، وبدء انتقال منه إلى سياق مشترك بين المؤمنين واليهود والنصارى جميعا في أمر الدين. و { راعنا } كلمة كانت تدور على ألسنة الصحابة في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم. والمعنى المتبادر منها لغة هو: راعنا سمعك وهو كأرعنا سمعك: أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك القول فيه لنفهمه عنك، أو راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه. قال في مجاز الأساس: وراعيت الأمر - نظرت إلام يصير وأنا أراعي فلانا - أنظر ماذا يفعل، وأرعيته سمعي، وأرعني سمعك، وراعني سمعك اهـ. ولكن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن قول هذه الكلمة، والمشهور في كتب التفسير أن سبب ذلك هو أن اليهود سمعوها فافترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لاوين ألسنتهم بها لتوافق كلمة شتم بلسانهم العبراني. قيل: كانوا ينطقون بها " راعينا " وقيل: كانوا يريدون بتحريفها نسبته إلى الرعونة، وفي سورة النساء { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين } [النساء: 46] الآية.
الأستاذ الإمام: إن هذا النهي له صلة وارتباط بشأن اليهود لا محالة؛ لأن الكلام لا يزال في شئونهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ولكن هذا لا يستلزم أن يكون سبب النهي هو كون الكلمة تستعمل للشتم في العبرانية، ولا أقول بهذا إلا بنقل صحيح عمن يعرف هذه اللغة، وللمفسرين وجوه أخرى في تعليل النهي، فعن مجاهد وغيره أن معنى الكلمة " خلاف " والمراد لا تخالفوه كما يفعل أهل الكتاب، ولكن اعترض على هذا الوجه بأن ليس له شاهد من اللغة. والمعروف في اللغة أن { راعنا } من المراعاة. وهي تقتضي المشاركة في الرعاية أي ارعنا نرعك، وفي خطاب النبي بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر، فالنهي عنه تأديب كقوله - تعالى -: { { ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } [الحجرات: 2] كأنه يقول: لا تكونوا كهؤلاء الغلاظ القلوب الذين قصصنا عليكم خبرهم، أو الذين عرفتم سوء أدبهم مع الأنبياء، بل اجمعوا بين الطاعة والأدب.
{ قال }: وها هنا وجه آخر وهو أنه يقال في اللغة: راعى الحمار الحمر إذا رعى معها، فيجوز أن اليهود كانوا يحرفون الكلمة بصرفها إلى هذا المعنى، فنهى الله المسلمين عن هذه الكلمة، وشنع على اليهود بإظهار سوء قصدهم فيها، وقد رضوا بصرف اللفظ إلى هذا المعنى وإن كان يتضمن أنهم حمر؛ لأن السباب يسب نفسه كما يسب غيره فهو على حد قول القائل:
اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي
قال - تعالى -: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا }، نهاهم - تعالى - عن كلمة كانوا يقولونها وأمرهم بكلمة خير منها تفيد ما كانوا يريدونه منها. فكلمة { انظرنا } تفيد معنى كلمة { راعنا } فإن فيها معنى الإنظار والإمهال، ويؤيد هذا المعنى قراءة { انظرنا } من الإنظار، وفيها معنى المراقبة وهو ما يستفاد من النظر بالعين. تقول: نظرت الشيء ونظرت إليه إذا وجهت إليه بصرك ورأيته، وتقول: نظرته بمعنى انتظرته ومنه { { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } [يس: 49] أذن الله - تعالى - لهم بهذه الكلمة { انظرنا } وأمرهم بالسماع للنبي ليعوا عنه ما يقول من الدين وهو أمر يتضمن الطاعة والاستجابة. ثم ختم الآية بقوله: { وللكافرين عذاب أليم } لبيان أن ما صدر عن اليهود من سوء الأدب في خطاب الرسول هو أثر من آثار الكفر الذي يعذبون عليه العذاب الموجع أشد الإيجاع، وللتنبيه على أن التقصير في الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - ذنب مجاور للكفر يوشك أن يجر إليه، فيجب الاحتراس منه بترك الألفاظ الموهمة للمساواة، بله الألفاظ المنافية للآداب.
أقول: لا شك أن من يعامل أستاذه ومرشده معاملة المساواة في القول والعمل، يقل احترامه له وتزول هيبته من نفسه حتى تقل الاستفادة منه أو تعدم، وإذا لم تزل الاستفادة منه من حيث كونه معلما، فإنها تقل وتزول لا محالة من حيث كونه مربيا؛ لأن المدار في التربية على التأسي والقدوة، ومن أراه مثلي لا أرضاه إماما وقدوة لي، فإن رضيته بالمواضعة والتقليد وكذبتني المعاملة، فأي قيمة لهذا الرضى، والعبرة بما في الواقع ونفس الأمر، وهو أن من اعتقد أن امرأ فوقه علما وكمالا، وأنه في حاجة للاستفادة من علمه وإرشاده ومن أخلاقه وآدابه، فإنه لا يستطيع أن يساوي نفسه به في المعاملة القولية ولا الفعلية، إلا ما يكون من فلتات اللسان ومن اللمم، وعن مثل هذا نهى الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لئلا يجرهم الأنس به - صلى الله عليه وسلم - وكرم أخلاقه إلى تعدي حدود الأدب الواجب معه الذي لا تكمل التربية إلا بكماله، وهو - تعالى - يقول: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [الأحزاب: 21] الآية.
الأستاذ الإمام: إنما كان عدم الإصغاء لما يقوله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وخطابه خطاب الأكفاء والنظراء مجاورا للكفر؛ لأنه يتكلم عن الله عز وجل لسعادة من يسمع ويعقل ويأخذ ما يؤمر به بالأدب ويسأل عما لا يفهمه بالأدب، ومن فاتته هذه السعادة فهو الشقي الذي لا يعدل بشقائه شقاء. ومعنى هذه المجاورة أن سوء الأدب بنحو ما حكي عن اليهود في سورة النساء، هو من الكفر الصريح، ولذلك قال بعده: { { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } [النساء: 46] فالألفاظ التي تحاكي الألفاظ التي توعدوا عليها بهذا الوعيد على أنها كفر إذا صدرت من المؤمن غير محرفة ولا مقصودا بها ما كانوا يقصدون، تسمى مجاورة لألفاظ الكفر؛ لأنها موهمة وخارجة عن حدود الأدب اللائق بالمؤمنين.
قال: إن لمن جاء بعد الرسول حظا من هذا التأديب، وليس هو خاصا بمن كان في عصره من المؤمنين، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم، وكان يجب الاستماع له والإنصات لأجل تدبره، هو الذي يتلى علينا بعينه، لم يذهب منه شيء، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن، فلا يستمعون ولا ينصتون، ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولونه في مجالس الغناء، ويهتزون للتلاوة ويصوتون بأصوات مخصوصة، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شيء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف - عليه السلام - مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة ولا سيما العفة والأمانة، أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها، وتتوعد على تركه بجعله مجاورا للكفر الذي يسوق صاحبه إلى العذاب الأليم: { { أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون } [المؤمنون: 68، 69]؟.
ثم قال - تعالى -: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } يقول - تعالى - للمؤمنين: إن هؤلاء الذين علمتم شأنهم مع أنبيائهم حسدة لا يلتفت إلى تكذيبهم ولا يبالى بعدوانهم، ولا يضركم كفرهم وعنادهم، فهم لحسدهم لا يودون أن ينزل عليكم أدنى خير من ربكم، والقرآن أعظم الخيرات؛ لأنه النظام الكامل، والفضل الشامل، والهداية العظمى، والآية الكبرى، جمع به شملكم، ووصل حبلكم، ووحد شعوبكم وقبائلكم، وطهر عقولكم من نزغات الوثنية، وزكى نفوسكم من أدران الجاهلية، وأقامكم على سنن الفطرة، وشرع لكم الحنيفية السمحة، فكيف لا يحرق الحسد عليه أكبادهم ويخرج أضغانهم عليكم وأحقادهم؟.
أقول: الود محبة الشيء، وتمني وقوعه، يطلق على كل منهما قصدا، وعلى الآخر تبعا. ويكون مفعول الأول مفردا والثاني جملة، ونفيه بمعنى الكراهة، فالمعنى: ما يحب الذين كفروا من اليهود والنصارى ولا من المشركين أن ينزل عليكم أدنى خير من ربكم، أما أهل الكتاب ولا سيما اليهود فلحسدهم للعرب أن يكون فيهم الكتاب والنبوة، وهو ما كانوا يحتكرونه لأنفسهم، وأما المشركون فلأن في التنزيل المرة بعد المرة من قوة الإسلام ورسوخه وانتشاره ما خيب آمالهم في تربصهم الدوائر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء أمره.
ثم إن الله - تعالى - رد عليهم بما بين جهلهم وجهل جميع الحاسدين فقال: { والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم }، أي أن الحاسد لغباوته وفساد طويته يكون ساخطا على الله - تعالى - ومعترضا عليه أن أنعم على المحسود بما أنعم، ولا يضر الله - تعالى - سخط الساخطين، ولا يحول مجاري نعمه حسد الحاسدين، فالله يختص برحمته من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم - أسند كلا من هذين الأمرين إلى اسم الذات الأعظم لبيان أنهما حقه لذاته، فليس لأحد من عبيده أدنى تأثير في منحهما ولا في منعهما.