التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٠٣
-البقرة

تفسير المنار

{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } كان للعرب في الجاهلية مجامع في الموسم يفاخرون فيها بآبائهم ويذكرون أنسابهم وفعالهم، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله هذه الآية. ولابن جرير عن مجاهد: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة وذكروا آباءهم إلخ. وروي أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتعاكظون ويتناشدون، فأمرهم الله تعالى بأن يذكروا الله تعالى بعد قضاء المناسك وهي أعمال الحج كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم. وقد كان في حجة الوداع أن خطب النبي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات.
روى أحمد من حديث أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق فقال:
"يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى. أبلغت؟" قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى: { أو أشد ذكرا } معناه ظاهر وهو بل اذكروه أشد من ذكركم آباءكم وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه. قال الأستاذ الإمام: وقد تعسف في إعرابه الذين حكموا النحو الذي وضعوه في القرآن، ويعجبني قول بعض الأئمة، وأظن أنه أبو بكر بن العربي: من العجيب أن النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحا به ويجعله قاعدة، ثم يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتخذها قاعدة، بل يتكلف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به كأن كلامهم هو الأصل الثابت، ويعجبني أيضا ما قاله أبو البقاء وهو أن للقرآن إيجازا واختصارا في بعض المواضع المفهومة من المقام، وهو أن المعنى هنا أو كونوا أشد ذكرا، ومثل هذا شائع في اللغة، وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكررها في مثل هذا المقام وهي أنه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية، وقد ذكرناها من قبل.
ثم بين تعالى أن الذين يذكرونه فيدعونه على قسمين: { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق } الخلاق النصيب والحظ. ذكر تعالى أن هذا الفريق يطلب حظ الدنيا مطلقا ولم يقل إنه يطلب حسنة فيها; لأن من كانت الدنيا كل همه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه حسنة أم سيئة، فهو يطلب الدنيا من كل باب، ويسلك إليها كل طريق، لا يميز بين نافع لغيره ولا ضار، فباستيلاء حب الدنيا عليه لم يكن للآخرة وما أعده الله فيها للمتقين من الرضوان موضع من نفسه يرجوه ويدعو الله فيه، كما أنه لا يخاف ما توعد الله به المجرمين فيها فيلجأ إليه تعالى بأن يقيه شره، فحرمان هذا الفريق من خلاق الآخرة هو أثر كسبه وسوء اختياره، وتفضيله حظوظ الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الباقية; لأنه يعمل للأولى كل ما يستطيع من أسباب الحلال والحرام، حتى إنه لا يسأل ربه إلا المزيد من حظوظها وشهواتها. وقد ينالها كثير من الناس بدون هم كبير في العمل لها، ولا يعمل للآخرة وقد اشترط لسعادتها خير العمل، فقال تعالى:
{ { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } [الإسراء: 18، 19] الآيات. وبالله ما أبلغ حذف مفعول { آتنا } في هذا المقام فهو من دقائق الإيجاز التي تحار فيها الأفهام، وتعجز عنها قرائح الأنام، فإنه بدلالته على العموم يشمل كل ما يعنى به أفراد هؤلاء الناس المتفاوتي الهمم المختلفي الأهواء من الحظوظ والشهوات، حسنها وقبيحها، خيرها وشرها، كبيرها وخسيسها، وما لا يليق ذكره منها.
وقد اختلف المفسرون في تعيين هذا الفريق فقيل: هم الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة، واستدلوا بما روي عن ابن عباس وأنس من دعاء المشركين في ذلك المقام بحظوظ الدنيا، وقيل: هم المسلمون الذين لم تمس أسرار الدين وحكمه قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، بل اكتفوا بالتقليد في رسومه الظاهرة، فكان همهم في الدنيا دون الآخرة، وذكروا هنا ما روي في المرفوع من أن الله تعالى يؤيد هذا الدين بمن لا خلاق لهم. واستدلوا على صحة رأيهم بالسياق، ولا شك أن هذا القسم موجود في المسلمين كما وجد في كل أمة، ومن بلا الناس وفلاهم عرف ذلك.
{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } أي: ومنهم من يطلب خير الدنيا والآخرة جميعا، لا حظوظ الدنيا وحدها كيفما كانت كالفريق الأول، وقد اختلف المفسرون في تعيين الحسنة هل هي العافية أو الكفاف أو المرأة الصالحة أو الأولاد الأبرار أو المال الصالح أو العلم والمعرفة أو العبادة والطاعة، وروي بعض هذه الأقوال عن بعض السلف، ولعل كل ذي قول يطلقها على المهم عنده، والظاهر أن { حسنة } وصف لمحذوف أي حياة حسنة، وانظر بم تكون حياة المرء حسنة فيكون سعيدا في الدنيا، فمن دعا الله تعالى دعاء إجماليا فليدعه بسعادة الدنيا والآخرة والحياة الطيبة فيهما يكن مهتديا بالآية. ومن كانت له حاجة خاصة فدعاه لها من حيث هي حسنة فهو مهتد بها، على أنهم اختلفوا في حسنة الآخرة أيضا فقيل: الجنة، وقيل: الرؤية، واختلفوا في عذاب النار، ورووا عن علي كرم الله وجهه أنه المرأة السوء. وقد علم مما تقدم في تفسير
{ { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [البقرة: 186] أن الطلب من الله تعالى إنما يكون باتباع سنته في الأسباب والمسببات والتوجه إليه تعالى واستمداد المعونة والتوفيق منه، للهداية إلى ما يعجز العبد عنه، وعلى هذا يتخرج تفسير الحسن لقوله تعالى: { وقنا عذاب النار } بقوله: أي احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إليها، فطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها المجربة في الكسب والنظام في المعيشة، وحسن معاشرة الناس بآداب الشريعة والعرف، وقصد الخير في الأعمال كلها، وتوقي الشرور كلها، وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص ومكارم الأخلاق والعمل الصالح بقدر الاستطاعة، وطلب الوقاية من النار يكون بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بالفرائض المحتمة. هذا هو الطلب بلسان القلب والعمل، وأما الطلب بلسان المقال فهو يصدق بما يذكر القلب بأن هذه الأسباب من الله، فالسعي لها مع الإيمان هو عين الطلب من فيضه وإحسانه، مضت سنته بأن يعطي بها فضلا منه ورحمة، لا بخوارق العادات التي لا يعلم محلها وحكمتها غيره، وأنه لا يرجع إلى سواه في الهداية إلى ما خفي والمعونة على ما عسر.
ولم يذكر في التقسيم من لا يطلب إلا حسنة الآخرة; لأن التقسيم لبيان ما عليه الناس في الواقع ونفس الأمر بحسب داعي الجبلة وتأثير التربية وهدي الدين، ولا يكاد يوجد في البشر من لا تتوجه نفسه إلى حسن الحال في الدنيا مهما يكن غالبا في العمل للآخرة; لأن الإحساس بالجوع والبرد والتعب يحمله كرها على التماس تخفيف ألم ذلك الإحساس، والشرع يكلفه ذلك بما يقدر عليه من أسبابه، وقد جعل عليه حقوقا لبدنه ولأهله وولده ولرحمه ولزائريه وإخوانه وأمته لا تصح عبوديته إلا بدعاء الله تعالى فيها.
وفي الآية إشعار بأن هذا الغلو مذموم خارج من سنن الفطرة وصراط الدين معا، وما نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين وذمهم على التشدد فيه إلا عبرة لنا، وقد نهانا عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث أنس عند البخاري ومسلم
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له: هل كنت تدعو الله بشيء؟ قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه الله تعالى" .
وأبعد من هذا في الغلو أن بعض الصوفية سمع قارئا يتلو قوله تعالى: { { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } [آل عمران: 152] فصاح أواه فأين من يريد الله؟ وهو قول حسن الظاهر قبيح الباطن، فالآية خطاب لخيار الصحابة وهو وشيخه من الصوفية لم يبلغوا مد أحدهم ولا نصيفه، فإرادة الدنيا والآخرة بالحق إرادة لمرضاة الله وعمل بسنته وشرعه، والمراد بالدنيا فيها الغنيمة في الحرب، وبالآخرة الشهادة في سبيل الله، فهل يظن بجهله أن من شهد الله تعالى لهم بأنهم بذلوا أنفسهم في سبيله ونصر رسوله وآثروا الشهادة في القتال على الغنيمة أنهم لا يريدون الله؟ وقد ورد في الصحيح أن الآية كانت أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل يدعي ذلك الصوفي وأمثاله من الغلاة أنهم أشد حبا منه لله وطلبا له عز وجل؟ { أقول }: كلا إنما هي فلسفة خيالية من خيالات وحدة الوجود البرهمية الهندية قد شغل بها أفراد عن فطرة الله وشرعه معا فجعلوها أعلى مراتب العبودية، وتأولوا لها بعض آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى: { { يريدون وجهه } [الأنعام: 52] وما إرادة وجهه تعالى إلا الإخلاص له في كل عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا وتحري هداية دينه فيه، لا ما تخيلوه من أن إرادة وجهه تعالى هو الوصول إلى ذاته بعد التجرد من كل نعمة في الدنيا والأخرة جميعا، فإن الاتصال بتلك الذات العلية القدسية التي لا تدركها العقول ولا تدنو من كنهها الأفكار ولا الأوهام، مما لم يتعلق به تكليف، ولم يرد به شرع، بل إدراك كنه الذوات المخلوقة له تعالى فوق استطاعة خلقه. وإنما أعلى مراتب معرفة الله تعالى في الدنيا هي معرفة كل شيء به، ومعرفته في كل شيء وبكل شيء، ودعاؤه بكل اسم من أسمائه بما يناسب تعلقه بشئون عباده، وبهذا فضل جمهور أهل السنة خيار البشر على الملائكة الذين يعبد كل منهم ربه عبادة خاصة، والمؤمن الكامل من يعرف حق ربه على عباده وما شرعه من حقوق بعضهم على بعض، والقيام في كل ذلك بذكره وشكره وحبه والتوكل عليه والإخلاص له، وأعلى مراتب معرفته في الآخرة هو مقام الرؤية بتجليه الأعلى في جنات عدن، والاشتغال بذكر الجزاء عن العمل الموصل إليه جهل لا علم ولا معرفة.
ثم قال تعالى بيانا لمن يسأل عن حظ هؤلاء: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } الإشارة بـ { أولئك } إلى الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين; لأن حكم الفريق الذي يطلب الدنيا وحدها قد علم من قوله تعالى: { وما له في الآخرة من خلاق } فإن العطف يشعر بمحذوف كأنه قال: هذا الفريق له حظه من الدنيا وما له في الآخرة من حظ سواه، ومجموع الكلام في الفريقين بمعنى قوله تعالى:
{ { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } [الشورى: 20] وقد بينت الآية صريحا أنهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم، وهذا نص فيما تقدم من معنى الدعاء وأنه لا بد أن يكون طلب اللسان مطابقا لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب والسعي في الطرق التي مضت سنة الله تعالى; ولهذا قال: { مما كسبوا } ولم يقل: لهم ما طلبوا. والمعنى أنهم لما كانوا يطلبون الدنيا بأسبابها ويسعون للآخرة سعيها، كان لهم حظ من كسبهم هذا في الدارين على قدره { والله سريع الحساب } يوفي كل كاسب أجره عقب عمله بحسبه; لأن سنته مضت بأن تكون الرغائب آثار الأعمال، فهو يوفي كل عامل عمله بلا إبطاء، وكما يكون الجزاء سريعا في الدنيا كذلك يكون في الآخرة، فإن أثر الأعمال الصالحة يظهر للمرء عقب الموت وهو أول قدم يضعها في باب عالم الآخرة. وهذا أحسن بيان لما قالوه في تفسير { سريع الحساب } من أنه إجابة الدعاء. والأكثرون على أن المراد حساب الآخرة، واختلفوا في كيفية ذلك على أقوال أقربها إلى التصور أن سرعة الحساب عبارة عن إطلاع كل عامل على عمله أو إعلامه بما له مما كسب، وما عليه مما اكتسب وذلك يتم في لحظة، وقد ورد أن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وورد: في قدر فواق الناقة، وورد: بمقدار لمحة البصر.
أقول: هذا ما كنت كتبته في تفسير الآية بالمعنى الذي قرره شيخنارحمه الله من كون النصيب فيها شاملا لجزاء هذا الفريق في الدنيا والآخرة معا، وطبع في حياته، ثم فكرت في التعبير عنه بمن التبعيضية { مما كسبوا } والحال أن جزاء الآخرة يضاعف، وأن الدنيا هي التي لا ينال الناس فيها كل ما يطلبون بكسبهم ولا دعائهم وفاقا لاستشهادي عليه آنفا بآيات سورة الإسراء
{ { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [الإسراء: 18] فرجح عندي أن المراد هنا بالنصيب من الكسب ما يكون في الدنيا، وأشار إلى جزاء الآخرة بسرعة الحساب الذي يكون الجزاء في أثره، وهو ما حكيته عن الجمهور.
ثم قال تعالى بعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك، وبذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم: { واذكروا الله في أيام معدودات } حكى القرطبي عن الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام منى، وهي أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادي: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع - أي مزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" وأردف رجلا ينادي بهن: أي أركب رجلا وراءه ينادي بهذه الكلمات ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر بها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل; لأنه الأصل، وفيه زيادة في العبادة. فالحديث مفسر للأيام المعدودات وعليه العمل عند أهل العلم، كما قال الترمذي في جامعه.
وإنما أمر سبحانه بالذكر في هذه الأيام ولم يأمر برمي الجمار; لأنه من الأعمال التي كانوا يعرفونها ويعملون بها، وقد أقرهم عليها، وذكر المهم الذي هو روح الدين وهو ذكر الله تعالى عند كل عمل من تلك الأعمال، وتلك سنة القرآن يذكر إقامة الصلاة والخشوع فيها، وذكر الله تعالى ودعاءه، وتأثير ذلك في إصلاح النفوس، ولا يذكر صفة القيام والركوع والسجود، وكون الركوع يفعل مرة في كل ركعة، والسجود يفعل مرتين، وإنما يترك ذلك لبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالعمل. وبينت السنة أيضا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التكبير أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال، فقد روى الجماعة عن الفضل بن العباس قال: كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمع (مزدلفة) إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمرة يكبر مع كل حصاة" وورد في التكبير في أيام التشريق أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر بمنى تلك الأيام وعلى فراشه، وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.
وأما الذكر في يوم عرفة ويوم النحر فهو التكبير لغير الحاج وهو أعم، ففي حديث أحمد والشيخين أن محمد بن أبي بكر بن عوف قال: سألت أنسا ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه وفي حديث أسامة عند النسائي أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه يوم عرفة يدعو وفي روايات ضعيفة السند أن أكثر دعائه يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير وقد ذكرنا ذكره - صلى الله عليه وسلم - عند المشعر الحرام. وقد قالوا: إن التلبية أفضل الذكر للحاج ويليها التكبير في يوم عرفة والأضحى وأيام التشريق، ولفظ التلبية المأثور لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك هذا هو المرفوع وله أن يزيد من الذكر والثناء والدعاء ما شاء، والتكبير المرفوع صحيحا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا، ويزيدون.
وقد جعل الله تعالى التخيير في التعجيل والتأخير مشروطا بالتقوى فقال: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } أي: من استعجل في تأدية الذكر عند هذه الأعمال التعبدية المعلومة، وهي رمي الجمرات في يومين من تلك الأيام المعدودات فلا حرج عليه، ومن أتمها كذلك، إذا اتقى كل منهما الله تعالى ووقف عند حدوده، فإن تحصيل ملكة التقوى هي الغرض من الحج ومن كل عبادة، والوسيلة الكبرى إليها كثيرة ذكر الله تعالى بالقلب مع اللسان، حتى يغلب على مراقبته في جميع الأحوال، فيكون عبدا له لا للأهواء والشهوات، وإنما تلك الأعمال مذكرات للناسي.
والجمار ثلاث، وهي كالجمرات جمع جمرة، ومعناها هنا مجتمع الحصى، من جمره بمعنى جمعه، ورميها من ذكريات النسك المأثورة عن سيدنا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كذبح القرابين هنالك، وعامة أعمال الحج ذكريات لنشأة الإسلام الأولى في عهد الخليل - صلى الله عليه وسلم - وكل جمرة ترمى بسبع حصيات صغيرة كل يوم من الأيام الثلاثة أو الاثنين، وتمتاز جمرة العقبة منها بأنها ترمى قبل ذلك يوم النحر أيضا.
ثم أمر بالتقوى بعد الإعلام بمكانتها فقال: { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون } أي: اتقوه في حال أداء المناسك وفي جميع أحوالكم، وكونوا على علم يقين بأنكم تجمعون وتساقون إليه في يوم القيامة فيريكم جزاء أعمالكم والعاقبة للمتقين
{ { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } [مريم: 63] فإن العلم بذلك هو الذي يؤثر في النفس فيبعثها على العمل، وأما من كان على ظن أو شك فإنه يعمل تارة ويترك أخرى لتنازع الشكوك قلبه. ومن فوائد هذا الأسلوب أن تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى، ثم الأمر بها تصريحا في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز ما هو في أعلى درجات الإعجاز، حتى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها - كل ذلك يدلنا على أن المهم في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح، حتى تتوجه إلى الخير وتتقي الشرور والمعاصي، فيكون صاحبها من المتقين، ثم يرتقي في فوائد الذكر وثمراته فيكون من الربانيين.