التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ
٢٠٤
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ
٢٠٥
وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٢٠٦
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠٧
-البقرة

تفسير المنار

أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أن المراد منها ومن كل العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى واستشعار عظمته وفضله، وإلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها بل هو مما يهدي إليه الدين خلافا لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه، وإلى أن من يطلب الدنيا من كل وجه ويجعل لذاتها أكبر همه ليس له في الآخرة من خلاق; لأنه مخلد إلى حضيض البهيمية لم تستنر روحه بنور الإيمان ولم يرتق عقله في معارج العرفان. ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها فقال:
{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجبا; أي: طريفا غير مبتذل، والخطاب عام، وفي قوله: { في الحياة الدنيا } وجهان أحدهما أن من الناس فريقا يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة; لأنك تأخذ بالظواهر وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة لسانه، في غش معاشريه وأقرانه، يوهمهم أنه مؤمن صادق، نصير للحق والفضيلة، خاذل للباطل والرذيلة، متق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن، لا يريد للناس إلا الخير، ولا يسعى إلا في سبيل النفع { ويشهد الله على ما في قلبه } أي: يحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي. وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان: الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا وأريد كذا. قال تعالى: { قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } [يس: 16] وهو تأكيد معروف في كلام العرب:

أليس الله يعلم أن قلبي يحبك أيها البرق اليماني

وقال العلماء: إن هذا آكد من اليمين، وعن بعض الفقهاء أن من قاله كاذبا يكون مرتدا; لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى. وأقول: إن أقل ما يدل عليه عدم المبالاة بالدين ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عز وجل فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين { { يخادعون الله والذين آمنوا } [البقرة: 9] فإن أحدهم ليبالغ في الخلابة والتودد إلى الناس بالقول { وهو ألد الخصام } أي: وهو في نفسه أشد الناس مخاصمة وعداوة لمن يتودد إليهم، أو هو أشد خصمائهم، على أن الخصام جمع خصم ككعاب جمع كعب وهو المختار، واللدد شدة الخصومة ولدد (كتعب) الرجل لازم، ولدد خصمه (كنصر) شدد خصومته، ولاده للمشاركة. وفيه وجه آخر قاله بعضهم وهو أن الخصام بمعنى الجدال; أي: وهو قوي العارضة في الجدل لا يعجزه أن يختلب الناس ويغشهم بما يظهر من الميل إليهم وإسعادهم في شئونهم ومصالحهم. قال صاحب هذا القول: فالأوصاف المحمودة التي يعتمد عليها ثلاثة: حسن القول بحيث يعجب السامع، وإشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده، وفي معناه ما هو من ضروب التأكيد الذي يقبله خالي الذهن، وقوة العارضة في الجدل التي يحاج بها المنكر أو المعارض، وأما بيان سوء حاله وفساد أعماله، فهو في الآيتين التاليتين وقد مهد لهما بقوله تعالى: { في الحياة الدنيا } والتمهيد في بداية الكلام للمراد منه في غايته من ضروب البلاغة وأفنانها.
هذا الفريق من الناس يوجد في كل أمة، وتختلف الخلابة اللسانية في الأمم باختلاف الأعصار، ففي بعض الأزمنة لا يتيسر للواحد أن يغش بزخرف القول إلا الفرد أو الأفراد المعدودين، وفي بعضها يتيسر له أن يغش الأمة في مجموعها حتى ينكل بها تنكيلا وإن الجرائد في عصرنا هذا قد تكون طريقا للغش العام، كما تكون طريقا للنصح العام، وإنما يكون تلبيسها سهلا على من يعجب العامة قولهم في الأمم التي يغلب فيها الجهل لا سيما في طور الانتقال من حال إلى حال; إذ تختلف ضروب الدعوة وطرق الإرشاد.
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعض المفسرين وهو أن الظرف { في الحياة الدنيا } متعلق بالقول قبله; أي: يعجبك قوله إذا تكلم في شئون الحياة الدنيا وأحوالها، وطرق جمع المال وإحراز الجاه فيها; لأن حبها قد ملك عليه أمره، والميل إلى لذاتها وشهواتها قد استحوذ على قلبه، وصار هو المصرف لشعوره ولبه، فينطلق لسانه - ومثله قلمه - في كل ما يستهوي أصحاب الجاه والمال، ويستميل أهل السيادة والسلطان، ولكنه إذا تكلم في أمر الدين جاء بالخطل والحشو، ووقع في العسلطة واللغو، فلا يحسن وقع قوله في السمع، ولا يكون له تأثير في النفس وذلك أن روح المتكلم تتجلى في قوله، وضميره المكنون يظهر في لحنه
{ { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } [محمد: 30] وفي الحكم: { كل كلام يبرز عليه كسوة من القلب الذي عنه صدر } ولهذا كان إرشاد المخلصين نافعا، وخداع المنافقين صادعا.
وعلى هذا الوجه في التفسير تكون جملة { ويشهد الله } وصفا مستقلا غير حال مما قبله; أي: أنه لا يحسن إلا الكلام في الدنيا ليعجب السامع ويخدعه، ولكنه يزعم أن قلبه مع الله، وأنه حسن السريرة، وإنك لترى هذا في سيرة المجرمين ظاهرا جليا كما وصف الله تعالى: يتركون الصلاة، ويمنعون الزكاة، ويشربون الخمور، ويتسابقون إلى الفجور، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ثم يفضلون أنفسهم في الدين على أهل النزاهة والتقوى، زاعمين أن هؤلاء المتقين قد عمرت ظواهرهم بالعمل والإرشاد، ولكن بواطنهم خربة بسوء الاعتقاد، ويقولون: نعم إننا نحن نأكل الربا أو القمار ولكنا نحرمه، ونأتي في نادينا وخلوتنا المنكر ولكنا لا نستحسنه، وأن ما نبتزه من جيوب الأغنياء بخلابتنا ليس المقصود به ترفيه معيشتنا، وإنما هو أجر على السعي في إعلاء شأنهم، ومكافأة على خدمة أوطانهم. فهم بهذه الدعاوى ألد الخصماء، ألا إنهم هم السفهاء، فقد جرت سنة الله تعالى في خلقه، ودلت هدايته في كتابه، على أن سلامة الاعتقاد وإخلاص السريرة هما ينبوع الأعمال الصالحة، والأقوال النافعة { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } [الأعراف: 58].
وانظر ما قاله عز شأنه، في وصف فريق هذه الدعاوى العريضة، والقلوب المريضة، قال: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها }. في تفسير التولي هنا قولان: أحدهما: أن صاحب الدعوى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه فإن سعيه يكون على ضد ما قال، يدعي الصلاح والإصلاح وحب الخير، ثم هو يسعى في الأرض بالفساد; ذلك أنه لا هم له إلا في الشهوات واللذات والحظوظ الخسيسة، فهو يعادي لأجلها أهل الحق والفضيلة ويؤذيهم; لأنه ألد خصم لهم للتناقض والتضاد في الغرائز والسجايا، ويعادي أيضا المزاحمين له فيها من أمثاله المفسدين، فلا يكون له هم وراء التمتع وأسبابه إلا الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم، فهو يفسد باعتدائه على الأموال والأعراض { ويهلك الحرث والنسل } بما يكون من أثر إفساده في اعتدائه، وهو ذهاب ثمرات الحرث: وهو الزرع، والنسل: وهو ما تناسل من الحيوان، وكأنه إشارة إلى مكاسب أهل الحضارة وأهل البادية، وفي هذا عبرة كبرى للذين يقطعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره انتقاما ممن يكرهونهم، وهي جرائم فاشية في أرياف مصر لهذا العهد، فأين الإسلام وأين هداية القرآن؟ وذكر الأزهري أن المراد بالحرث ههنا: النساء كما في قوله:
{ { نساؤكم حرث لكم } [البقرة: 223] وبالنسل: الأولاد، وهل المراد نساء الناس وأولادهم، أم نساء المفسدين وأولادهم خاصة؟ لعل الأمر أعم; فإن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقون من الفتن ويعملون من التفريق لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ظاهرا وباطنا أو باطنا فقط، فالمفسد الشرير يؤذي نفسه وأهله بضروب من الإيذاء قد يعميه الغرور عنها أو عن كونها من سعيه. وقال الأستاذ الإمام: إن إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد وقد صار التعبير به عن ذلك من قبيل المثل، فالمعنى أنه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها.
والقول الآخر: أن المراد بتولى صار واليا له حكم ينفذ وعمل يستبد به، وإفساده حينئذ يكون بالظلم مخرب العمران وآفة البلاد والعباد، وإهلاكه الحرث والنسل يكون إما بسفك الدماء والمصادرة في الأموال، وإما بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم وفوائد مكاسبهم. ومن انقطع أمله انقطع عمله، إلا الضروري الذي به حفظ الدماء، ولا حرث ولا نسل إلا بالعمل. وقد شرحت لنا حوادث الزمان وسير الظالمين هذه الآية فقرأنا وشاهدنا أن البلاد التي يفشو فيها الظلم تهلك زراعتها، وتتبعها ماشيتها، وتقل ذريتها، وهذا هو الفساد والهلاك الصوريان، ويفشو فيها الجهل، وتفسد الأخلاق، وتسوء الأعمال حتى لا يثق الأخ بأخيه، ولا يثق الابن بأبيه فيكون بأس الأمة بينها شديدا ولكنها تذل وتخنع للمستعبدين لها. وهذا هو الفساد والهلاك المعنويان، وفي التاريخ الغابر والحاضر من الآيات والعبر، ما فيه ذكرى ومزدجر.
ولما كان هذا المفسد يشهد الله على هداية قلبه، عند من يظن أنه يجهل حقيقة أمره، قال تعالى بعد بيان عمله في الإفساد: { والله لا يحب الفساد } أي: إن إفساد هذا المنافق ظاهر في الوجود، والظاهر عنوان الباطن، فإفساده في عمله دليل على فساد قلبه وكذبه في إشهاد الله عليه
{ { والله لا يحب المفسدين } [المائدة: 64] لأنه لا يحب الفساد. وفي الآية دليل على أن تلك الصفات الظاهرة المحمودة، لا تكون محمودة مرضية عند الله تعالى إلا إذا أصلح صاحبها عمله فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم وعدم الاغترار بزخرف القول، فإن الناس إذا انصرفوا من مجالس القول لم يكن لهم بد من سعي وعمل، والعمل إما خير وإصلاح، وإما شر وإفساد، وكل إناء ينضح بما فيه.
ولما كان الإفساد يصدر تارة عن الجهل وسوء الفهم، وأحيانا عن فساد الفطرة وسوء القصد، وكان من يعمل السوء بجهالة سريع التوبة، مبادرا إلى قبول النصيحة، وكان شأن الآخر الإصرار على ذنبه، كالمستهزئ بربه، ذكر من صفة المفسد ما يميز بينه وبين المخطئ، فقال: { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } أي: أنه إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر يسرع إليه الغضب، ويعظم عليه الأمر، فتأخذه الكبرياء والأنفة، وتخطفه الحمية وطيش السفه، فيكون كالمأخوذ بالسحر، لا يستقيم له فكر; لأنه مصر على إفساده لا يبغي عنه حولا. وعبر عن الكبرياء والحمية بالعزة; للإشعار بوجه الشبهة للنفس الأمارة بالسوء وهو تخيلها النصح والإرشاد ذلة تنافي العزّة المطلوبة.
قال شيخنا: هذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة; لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا؟ وإن الأمير منهم ليأتي أمرا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه، فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه.
وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وبيان معناه، فعظم عليه أن يقول أحد: إنني أنصح لك ولأنك إمامي، وكان ذلك آخر عهد الناصح به، فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله ولرسوله وللأئمة، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء والملوك المسلمين، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين، وأما الطغاة البغاة الذين ليس لهم من الإسلام إلا ما يخدعون به العامة من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة، فإنهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم، أو في عيال الله الذين سلطوا عليهم، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكنهم من كل ما يهوون من الإفساد والظلم، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون اتباعه، فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريبا عجيبا؟
وحمل التولي على الوجه الآخر لا يتنافى مع أخذ العزة بالإثم من جراء الأمر بالتقوى، فإن في طبع كل مفسد النفور ممن يأمره بالصلاح والاحتماء عليه; لأنه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيرا به، وصرفا لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين. وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحق والداعين إلى الخير إلى حد استثقالهم والحقد عليهم، والسعي في إيذائهم وإن لم يأمروهم بذلك; إذ يرون أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر - على إطلاقهما - كافيان في فضيحتهم، وذاهبان بخلابتهم، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير ولا يرتاحون إلى ذكرهم، بل يتتبعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفروا الناس عن دعوتهم، فإن لم يظفروا بزلة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأول، أو الاختراع والتقول; ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمة المصلحين من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين، إن فلانا مغرور لا يعجبه أحد، خطأ جميع الناس، وصفهم بالضلال، سفه أحلامهم، شنع على أعمالهم، فرق بينهم، وما أشبه هذا.
هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوى، وإن قدروا حبسوا وضربوا، ونفوا وقتلوا، ولذلك قال عز وجل فيمن يأنف من الأمر بالتقوى: { فحسبه جهنم } أي: هي مصيره، وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميته الجاهلية. ثم وصف جهنم، وهي دار العذاب في الآخرة، بقوله: { ولبئس المهاد } المهاد: الفراش يأوي إليه المرء للراحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، فالله تعالى يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار، وهي بئس المهاد وشره، لا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها. وقال بعض المفسرين: إنه عبر بالمهاد الذي هو مظنة الراحة للتهكّم.
وأنت ترى من هذا التقرير ومن كون التقسيم حقيقيا في نفسه شارحا لما عليه البشر في حياتهم متصلا بما قبله ملتئما معه في السياق أن الكلام عام، وما روي من أن له سببا خاصا لا ينافي عمومه. وقد اختلفوا في السبب للآيات فروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في رجلين من المنافقين قالا - لما هلكت سرية للمسلمين -: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم. وروى ابن جرير عن السدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر. فإن صحت الروايتان فالظاهر أن من جعلهما سببا حمل الآيات عليهما في الجملة، وإلا فأنت ترى أن الآيات ليست مطابقة للحادثتين اللتين إن صحتا كانتا في وقتين متباعدين; فإن الأخنس من مشركي مكّة.
ثم ذكر الفريق الآخر المقابل لمن تأخذه العزة إذا ذكر بالله تعالى فقال: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } وكان مقتضى المقابلة أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في قلبه، والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به. فإن من يشري; أي: يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق، مع الإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا وما عند كبرائها ومترفيها من القصور، ومتاع الزينة والغرور، وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه. وأما الإيمان القولي الذي يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب، ولا تظهر آثاره في الأعمال، ولا يحمل صاحبه شيئا من الحقوق لدينه وملته ولا لقومه وأمته، فلا قيمة له في كتاب، ولا يقام لصاحبه وزن في يوم الله، بل يخشى أن يقال لذويه:
{ { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } [الأحقاف: 20].
ذكر الله تعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسرها، وتبين أن المؤمنين باعوا وأن الله قد اشترى، كقوله عز وجل:
{ { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [التوبة: 111] - إلى قوله: { { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } [التوبة: 111] وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزانا للإيمان وأهله، فنفس المؤمن لله لا للشهوة واللذة البهيمية والمكر الشيطاني، فمن آثر شهوته على مرضاة ربه، والتزام حدوده، والمحافظة على هدي دينه، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة. ولقد نعلم أنه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا، ولذاتها وقصورها، وخمورها وحورها، وإن كانوا يزعمون أنهم من زعماء الدين، وخدمته المخلصين; لأن الحق مر في مذاق المبطلين.
والآية لا تنافي ما دلت عليه آية الدعاء من أن الإسلام شرع لنا طلب الدنيا من الوجوه الحسنة كما شرع لنا طلب الآخرة، بل هي مؤيدة لها، فإن طلبها من الطرق الحسنة; أي: المشروعة النافعة، لا ينافي مرضاة الله تعالى ببيع النفس له; ولذلك لم يحرم سبحانه علينا إلا ما هو ضار بفاعله أو غيره، فلنا أن نتمتع بها حلالا، ونكون مثابين مرضيين عند الله تعالى. قال بعض الصحابة لما قال - عليه الصلاة والسلام -:
"وفي بضع أحدكم صدقة يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" رواه مسلم من حديث أبي ذر. ولكن الذي ينافي مرضاة الله تعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل.
ثم إنّ هذا البيع لا يتحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك، فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما، أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام، وحينئذ يكون فرضا عينيا على جميع الأفراد فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه، ومن قدر عليه بماله وجب عليه، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده. ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال، ويتمتع بالحلال، وينفع نفسه ولا يضر غيره، وأن يصلي ويصوم; لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة، بل يجب أن يكون وجوده أوسع وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم بحفظ الشريعة، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال، والدعوة إلى الخير ومقاومة الشر، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه، فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى، وكان أكبر إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه؛ ذلك أن الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا، فيعظم خيرها وينتفع الناس بها، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم، وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم، فإن الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة; لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه، فهو غني عن العالمين، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس، فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها، فمن ادعى أنه من الذين باعوا أنفسهم لله وآثروا مرضاته على ما سواه، فليعرضه غيره من المنصفين عليها، ولا سيما إذا ادعى أنه واسع الوجود خادم للأمة والملة، لا جرم أن كثيرا منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك، ولا قوله تعالى:
{ { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [الحجرات: 14] فإن معنى أسلمنا انقدنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية. وكثير ممن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلون ولا يصومون، ولا يزكون ولا يحجون، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويأتون كثيرا من الكبائر جهارا، ويصرون عليها إصراراً.
ذكر تعالى أن من الناس من يشري; أي: يبيع نفسه، وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى، والإخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين، والإخبار هو الذي يدل على الوقوع، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان.
ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال: { والله رءوف بالعباد } إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح
{ { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } [البقرة: 251] وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك - وهو من تكليف ما لا يطاق - لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه.
ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم، والأمر كذلك، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم; إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم، وإن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها; إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة. وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين، وكذلك ساد سلفنا الصالحون، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون، فهل نحن معتبرون؟