التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٢٤٦
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٤٧
-البقرة

تفسير المنار

تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ، والفرق بينهما
وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده
بدأ الأستاذ الإمامرحمه الله تعالى تفسير هذه الآية بمقدمة في قصص القرآن جعلها كالتمهيد لتفسيرها، فقال ما مثاله مع إيضاح: تقدم في تفسير
{ { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [البقرة: 243] الآية. أن القرآن لم يعين أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما (يعني على القول بأنها قصة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء) ثم ذكر هاهنا قصة أخرى عن بني إسرائيل، فعين القوم وذكر أنه كان لهم نبي ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصة، ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود.
يظن كثير من الناس الآن - كما ظن كثير ممن قبلهم - أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القرآن تاريخا ولا قصصا وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال:
{ { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [يوسف: 111] وبيان سنن الاجتماع كما قال: { { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [آل عمران: 137] وقال: { { سنة الله التي قد خلت في عباده } [غافر: 85] وغير ذلك من الآيات.
والحوادث المتقدمة منها ما هو معروف، والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفي من القصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس; لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب. وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلا.
إنّ محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته، فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه، ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه، ونحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبره هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعده شبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتد به بالأولى، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم - لو أنصفوا - أن يؤرخوا به أجمعين اهـ.
أقول: إن الذي يسبق إلى الذهن من هذا القول هو أن ما كان من شئون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به، ولم ينقطع سند رواته كما كان قبله. وبيان ذلك بالإجمال: أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة، كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم، فكان من عمل المسلمين في حفظ العلم والتاريخ العناية التامة بالرواية ما يقبل منها وما لا يقبل; ولذلك ألفوا الكتب في تاريخ الرواة لتعرف سيرتهم، ويتبين الصادق والكاذب منهم، وتعرف الرواية المتصلة والمنقطعة، وبحثوا في الكتب المؤلفة متى يوثق بنسبتها إلى مؤلفيها، وبينوا حقيقة التواتر الذي يفيد اليقين، والفرق بينه وبين ما يشتهر من روايات الآحاد، فبهذه العناية لم ينقطع سند لنوع من أنواع العلم التي وجدت في المسلمين، على أن العناية بعلوم الدين أصولها وفروعها كانت أتم، ثم كان شأن من قفى على آثارهم في العلوم والمعارف بعد ضعف حضارتهم على نحو من شأنهم في التصنيف، وإن كان دونهم في ضبط الرواية ونقدها والأمانة فيها، فلم يضع شيء من العلوم والفنون ولا من الحوادث والوقائع التي جرت في العالم بعد الإسلام، وما اختلف الرواة والمصنفون في جزئياته من تاريخ الإسلام وغيره يسهل تصفيته في جملته، وأخذ المصفى منه; لأجل الاعتبار به، وعرفان سنن الاجتماع منه جريا على هدي القرآن فيه.
لقد وصل الراقون في مدارج العمران اليوم إلى درجة يسهل عليهم فيها من ضبط جزئيات الوقائع ما لم يكن يسهل على من قبلهم، كاستخدام الكهرباء في نقل الأخبار لمن يدونها في الصحف، وتصوير الوقائع والمعاهد بما يسمونه التصوير الشمسي (فوتغرافيا) وسهولة الانتقال - على الكاتبين - من مكان إلى مكان، وتأمين الحكام لهم من المخاوف وغير ذلك، وقد اجتمع من هذه الوسائل في الحرب التي كانت في هذين العامين بين دولتي اليابان وروسيا ما لم يجتمع لمدوني التاريخ في غيرها من الحروب ولا غير الحروب من حوادث الزمان. قد كان لأشهر الجرائد الغربية مكاتبون في مواقع الحرب يتبارون في السبق إلى الوقوف على جزئيات الحوادث وإيصالها إلى جرائدهم، كما تفعل شركات البرقيات (التلغرافات) في إنباء المشتركين فيها، وكنا نرى وسائل الفريقين من الخلاف والتناقض ما يتعذر معه العلم بالحقيقة، وكم من رسالة للشركات البرقية ولمكاتبي الجرائد كانت من المسائل المتفق عليها فتبين بعد ذلك كذبها. فهذه آية بينة على أنه لا سبيل إلى الثقة بجزئيات الوقائع التي تحدث في عصرنا ويعنى المؤرخون أشد العناية بضبطها، إلا ما يبلغ رواته المتفقون عليه مبلغ التواتر الصحيح وقليل ما هو، فما بالك بما كان في الأمم الخالية؟.
وجملة القول أن طريقة القرآن في قصص الذين خلوا هي منتهى الحكمة، وما كان لمحمد الأمي الناشئ في تلك الجاهلية الأمية أن يرتقي إليها بفكره وقد جهلها الحكماء في عصره وقبل عصره، ولكنها هداية الله تعالى لعباده أوحاها إلى صفوته منهم - صلى الله عليه وسلم -
{ { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } [الأعراف: 43] فعلينا وقد ظهرت الآية ووضحت السبيل ألا نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص، ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نبالي بكشفها كما قال الأستاذ الإمام روح الله روحه في مقام الرضوان.
فإن قيل: إن قصص العهدين العتيق والجديد التي يسمى مجموعها (الكتاب المقدس) هي وحي من الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه. قلنا أولا: إن تلك الكتب ليس لها أسانيد متصلة متواترة. ثانيا: إن القرآن إنما أثبت أن الله تعالى أعطى موسى عليه السلام التوراة وهي الشريعة، وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه، وأنه أعطى عيسى عليه السلام الإنجيل - وهو مواعظ وبشارة - وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود:
{ { فنسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 14] ويجد القارئ تفصيل هذه الحقائق في تفسير سورة آل عمران والمائدة والأعراف بالنقول من تاريخ الفريقين.
بعد هذا نقول: إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق، وبذل المال في هذه السبيل، سبيل الله لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم. وهذه القصة - قصة قوم من بني إسرائيل - تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر - كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن - فعلموا أن القتال ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال فاستحقوا الخزي والنكال، فهذه القصة المفصلة فيها بيان لما في تلك القصة المجملة: فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم واستيلاء العدو على ديارهم. فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا سبب عن خروجهم فارين بجبنهم، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم. وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه; إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم، واشتد الشعور بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد، ولكن الضعف كان قد بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا.
قال تعالى: { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى } تقدم الكلام على هذا الضرب من الاستفهام في تفسير القصة السابقة لهذه، والملأ: القوم يجتمعون للتشاور، لا واحد له، قاله البيضاوي وغيره، وقال غيرهم: الملأ الأشراف من الناس وهو اسم للجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، سموا ملأ لأنهم يملئون العيون رواء القلوب هيبة { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } وهذا النبي لم يسمه القرآن، وقال الجلال: هو شمويل، وهذا أقوى أقوال المفسرين، وهو معرب صمويل، أو صموئيل، وقيل: إنه يوشع، وهذا من الجهل بالتاريخ; فإن يوشع هو فتى موسى، والقصة حدثت في زمن داود والزمن بينهما بعيد، وبعث الملك عبارة عن إقامته وتوليته عليهم { قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } قرأ نافع وحده (عسيتم) بكسر السين وهي لغة غير مشهورة، والباقون بفتحها وهي اللغة المشهورة، والمعنى هل قاربتم أن تحجموا عن القتال إن كتب عليكم كما أتوقع - أو أتوقع منكم الجبن عن القتال إن هو كتب عليكم؟ فعسى للمقاربة أو للتوقع { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي: أي داع لنا يدعونا إلى ألا نقاتل وقد وجد سبب القتال، وهو إخراجنا من ديارنا بإجلاء العدو إيانا عنها، وإفرادنا عن أولادنا بسبيه إياهم واستعباده لهم؟ { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم } ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها، ويغلب عليهاالجبن والمهانة، فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها - وهم الأقلون - فيعملون ما لا يعمل الأكثرون، كما علمت من تفسير قوله تعالى: { ثم أحياهم } وما هو منك ببعيد، ولم يكن هؤلاء القوم قد استعد منهم للحياة إلا القليل. قال الأستاذ الإمام: وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها على حد قول الشاعر:

وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا

ثم إذا توفرت الشروط يضعفون ويجبنون، ويزعمون أنها غير كافية ليعذروا أنفسهم وما هم بمعذورين { والله عليم بالظالمين } الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها وحفظا لحقها، فهو يجزيهم وصفهم فيكونون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين.
أقول: وفي تاريخ أهل الكتاب ما يفيد أن بني إسرائيل كانوا في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا ملهما قد انحرفوا عن شريعة موسى ونسوها، فعبدوا من دون الله آلهة أخرى، فضعفت رابطتهم الملية، وسلط الله عليهم الفلسطينيين فحاربوهم حتى أثخنوهم فانكسروا، وسقط منهم ثلاثون ألف مقاتل، وأخذوا تابوت عهد الرب منهم، وكان بنو إسرائيل يستفتحون - أي: يستنصرون ويطلبون الفتح - به على أعدائهم، فلما أخذه أهل فلسطين انكسرت قلوب بني إسرائيل ولم تنهض همتهم لاسترداده، وكانوا إلى ذلك العهد لا ملوك لهم، وإنما كان رؤساؤهم القضاة بالشريعة، ومنهم الأنبياء ومنهم صموئيل كان قاضيا، فلما شاخ جعل بنيه قضاة وكان ولده البكر وولده الثاني من قضاة الجور وأكلة الرشوة، فاجتمع كل شيوخ بني إسرائيل - وهم المعبر عنهم في القرآن بالملأ - وطلبوا من صموئيل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كسائر الشعوب، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم، فألحوا فألهمه الله تعالى أن يختار لهم طالوت ملكا، واسمه عندهم شاول فذلك قوله تعالى:
{ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } الظاهر أنّ طالوت تعريب لشاول - وإن كان بعيدا منه في اللفظ - وقيل: إنه لقب له من الطول، كملكوت من الملك وأمثالها; وذلك أنه كان طويلا مشذبا، ففي سفر صموئيل الأول من العهد العتيق "من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب" وفيه "فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق" وإعترض بمنع صرفه.
وقال الأستاذ الإمام عند ذكر طالوت: هو الذي يسمونه (شاول) وقد سماه الله طالوت فهو طالوت، أي أننا لا نعبأ بما في كتبهم لما قدمنا، وإذا علم القارئ أن القوم لا يعرفون كاتب سفري صموئيل الأول والثاني من هو، ولا في أي زمن كتبا، فإنه يسهل عليه ألا يعتد بتسميتهم، وأما استنكارهم جعله ملكا فقد صرحوا به وقالوا: إن منهم من احتقره، ولكن أخبارهم لا تتصل بأسبابها، ولا تقرن بعللها. وقال المفسرون في استنكارهم لملكه وزعمهم أنهم أحق بالملك منه: إنه كان من أولاد بنيامين لا من بيت يهوذا، وهو بيت الملك، ولا من بيت لاوي، وهو بيت النبوة، وفهم بعضهم من قوله: { ولم يؤت سعة من المال } أنه كان فقيرا، وقالوا: كان راعيا أو دباغا أو سقاء، ولا يصح كلامهم في بيت الملك; لأنه لم يكن فيهم ملوك قبله، ونفيهم سعة المال التي تؤهله للملك في رأي القائلين لا تدل على أنه كان فقيرا، وإنما العبرة في العبارة هي ما دلت عليه من طباع الناس، وهي أنهم يرون أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك، أو ذا نسب عظيم يسهل على شرفاء الناس وعظمائهم الخضوع له، وذا مال عظيم يدبر به الملك، والسبب في هذا أنهم قد اعتادوا الخضوع للشرفاء والأغنياء، وإن لم يمتازوا عليهم بمعارفهم وصفاتهم الذاتية، فبين الله تعالى فيما حكاه عن نبيه في أولئك القوم أنهم مخطئون في زعمهم أن استحقاق الملك يكون بالنسب وسعة المال بقوله:
{ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم } فسروا اصطفاء الله تعالى هنا بوحيه لذلك النبي أن يجعل طالوت ملكا عليهم، ولعله لو كان هذا هو المراد لقال: اصطفاه لكم كما قال:
{ { اصطفى لكم الدين } [البقرة: 132] والمتبادر عندي أن معناه فضله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، ولا ينافي هذا كون اختياره كان بوحي من الله; لأن هذه الأمور هي بيان لأسباب الاختيار وهي أربعة:
1- الاستعداد الفطري.
2- السعة في العلم الذي يكون به التدبير.
3- بسطة الجسم، المعبّر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر على قاعدة "العقل السليم في الجسم السليم" وللشجاعة والقدرة على المدافعة وللهيبة والوقار.
4- توفيق الله تعالى الأسباب له وهو ما يعبر عنه بقوله: { والله يؤتي ملكه من يشاء }.
والاستعداد هو الركن الأول في المرتبة فلذلك قدمه، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها وجودة الفكر في تدبير شئونها، هو الركن الثاني في المرتبة، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة اتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكة أو سياستها، ولم ينهض به رأيه إلى أن يكون هو السيد الزعيم فيها، وكمال الجسم في قواه وروائه هو الركن الثالث في المرتبة، وهو في الناس أكثر من سابقيه.
وأما المال فليس بركن من أركان تأسيس الملك; لأن المزايا الثلاث إذا وجدت سهل على صاحبها الإتيان بالمال، وإنا لنعرف في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي، ولكن استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها، وشجاعته كانت كافية للاستيلاء عليها والاستعانة بأهل العلم بالإدارة والشجعان على تمكين سلطته فيها، وقد قدم الأركان الثلاثة على الرابع; لأنها تتعلق بمواهب الرجل الذي اختير ملكا فأنكر القوم اختياره فهي المقصودة بالجواب، وأما توفيق الله تعالى بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها لسعيه فليس من مواهبه ومزاياه فتقدم في أسباب اختياره، وإنما تذكر تتمة للفائدة وبيانا للحقيقة; ولذلك ذكرت قاعدة عامة لا وصفاً له.
ولله در الشاعر العربي حيث قال في صفات الجدير بالاختيار لزعامة الأمة وقيادتها:

فقلدوا أمركم لله دركمو رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إنّ رخاء العيش ساعده ولا إذا عضّ مكروه به خشعا

ومنها:

وليس يشغله مال يثمره عنكم، ولا ولد يبغي له الرفعا

وأقول: إن من الناس من يظن أن معنى إسناد الشيء إلى مشيئة الله تعالى هو أن الله تعالى يفعله بلا سبب ولا جريان على سنة من سننه في نظام خلقه، وليس كذلك فإن كل شيء بمشيئة الله تعالى: { { وكل شيء عنده بمقدار } [الرعد: 8] أي: بنظام وتقدير موافق للحكمة ليس فيه جزاف ولا خلل، فإيتاؤه الملك لمن يشاء بمقتضى سنته إنما يكون بجعله مستعدا للملك في نفسه، وبتوفيق الأسباب لسعيه في ذلك; أي: هو بالجمع بين أمرين: أحدهما في نفس الملك، والآخر في حال الأمة التي يكون فيها، وفي الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة "كما تكونون يولى عليكم" قال في الدرر المنتثرة رواه ابن جميع في معجمه من حديث أبي بكرة، والبيهقي في الشعب من حديث يونس بن إسحاق عن أبيه مرفوعا ثم قال: هذا منقطع. وفي كنز العمال أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة والبيهقي عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا.
نعم إذا أراد الله إسعاد أمة جعل ملكها مقويا لما فيها من الاستعداد للخير، حتى يغلب خيرها على شرها، فتكون سعيدة، وإذا أراد إهلاك أمة جعل ملكها مقويا لدواعي الشر فيها حتى يتغلب شرها على خيرها، فتكون شقية ذليلة، فتعدوا عليها أمة قوية، فلا تزال تنقصها من أطرافها، وتفتات عليها في أمورها، أو تناجزها الحرب حتى تزيل سلطانها من الأرض، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. بعدل وحكمة، لا بظلم ولا عبث; ولذلك قال:
{ { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105] وقال: { { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } [الأعراف: 128] فالمتقون في هذا المقام - مقام استعمار الأرض والسيادة في الممالك - هم الذين يتقون أسباب خراب البلاد وضعف الأمم، وهي الظلم في الحكام، والجهل وفساد الأخلاق في الدولة والأمة، وما يتبع ذلك من التفرق والتنازع والتخاذل، والصالحون في هذا المقام هم الذين يصلحون لاستعمار الأرض وسياسة الأمم بحسب استعدادها الاجتماعي.
أطلت في بيان معنى مشيئة الله تعالى في إتيان الملك ; لأنني أرى عامة المسلمين يفهمون من مثل عبارة الآية في إيجازها أن الملك يكون للملوك بقوة إلهية هي وراء الأسباب والسنن التي يجري عليها البشر في أعمالهم الكسبية، وهذا الاعتقاد قديم في الأمم الوثنية، وفي معناه عبارة في كتب النصرانية، وبه استعبد الملوك الناس الذين يظنون أن سلطتهم شعبة من السلطة الإلهية، وأن محاولة مقاومتهم هي كمحاولة مقاومة الباري سبحانه وتعالى والخروج عن مشيئته.
وكان الأستاذ الإمام أوجز في الدرس بتفسير قوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء } إذ جاء في آخره، وقد كتبت في مذكرتي عنه "أي: أنه سنة في تهيئة من يشاء للملك" ومثل هذا الإجمال لا يعقله إلا من جمع بين الآيات الكثيرة في إرث الأرض وفي هلاك الأمم وتكونها، والآيات الواردة في أن له تعالى في البشر سننا لا تتبدل ولا تتحول وقد ذكرنا بعضها، ومنها قوله تعالى:
{ { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] فحالة الأمم في صفات أنفسها - وهي عقائدها ومعارفها وأخلاقها وعاداتها - هي الأصل في تغيّر ما بها من سيادة أو عبودية وثروة أو فقر، وقوة أو ضعف، وهي هي التي تمكن الظالم من إهلاكها. والغرض من هذا البيان أن نعلم أنه لا يصح لنا الاعتذار بمشيئة الله عن التقصير في إصلاح شئوننا اتكالا على ملوكنا ; فإن مشيئته تعالى لا تتعلق بإبطال سنته تعالى وحكمته في نظام خلقه، ولا دليل في الكتاب والسنة ولا في العقل ولا في الوجود على أن تصرف الملوك في الأمم هو بقوة إلهية خارقة للعادة، بل شريعة الله تعالى وخليقته شاهدتان بضد ذلك { { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [الحشر: 2].
ثم ختم الآية بقوله تعالى: { والله واسع عليم } على طريقة القرآن في التنبيه على الدليل بعد الحكم والتذكير بأسمائه الحسنى وآثارها; أي: واسع التصرف والقدرة، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجوه الحكمة فلا يضع سننه في استحقاق الملك عبثا، ولا يترك أمر العباد في اجتماعهم سدى، بل وضع لهم من السنن الحكيمة ما هو منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
هذا وقد جرى المفسّرون على أن وجوه الرد على منكري جعل طالوت ملكا أربعة، وأحسن عبارة لهم على اختصارها عبارة البيضاوي قال: لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك: أولاً بأن العمدة فيه اصطفاء الله تعالى، وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم. ثانياً بأن الشروط فيه؛ وفور العلم ليتمكن من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم، وقد زاده الله فيها، وقد كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه. وثالثاً بأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء. رابعاً بأنه "واسع" الفضل يوسع الفضل على الفقير ويغنيه "عليم" بمن يليق بالملك وغيره اهـ. فجعلوا الأول بمعنى الثالث، وجعلوا مزية العقل ومزية البدن شيئا واحدا وهما شيئان، وأجملوا القول في المشيئة حتى إن المتوهم ليتوهم أن ذلك يكون بعناية غيبية لا بسنة إلهية، وجعلوا كونه تعالى واسعا عليما وجها خاصا. ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام في الأول شيئا، ورأيه في مشيئة الله تعالى هنا ما تقدم آنفا، وقد فسر الواسع بواسع التصرف والقدرة، وهو يتفق مع قولهم واسع الفضل، وقال في تفسير "عليم" عليم بوجوه الاختيار ومن يستحق الملك.