التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٤٨
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٥٠
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٢٥١
تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٥٢
-البقرة

تفسير المنار

قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } يدل على أن بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به عليهم نبيهم من استحقاق طالوت الملك بما اختاره الله وأعده له باصطفائه، وإيتائه من سعة العلم وبسطة الجسم ما يمكنه من القيام بأعبائه، حتى جعل لذلك آية تدلهم على العناية به، وهي عود التابوت إليهم، وهذا التابوت المعرف: صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود، ففي أول الفصل الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه:
"وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة من كل من بحثه قلبه تأخذون تقدمتي، وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم ذهب وفضة ونحاس وأسمانجوني وأرجون وقرمز وبوص وشعر معزى وجلود كباش محمرة وجلود تخس وخشب سنط وزيت للمنارة وأطياب لدهن المسحة، وللبخور العطر، وحجارة جزع وحجارة ترصيع للرداء والصدرة، فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته، هكذا تصنعون فيصنعون تابوتا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. وتغشيه بذهب نقي، من داخل وخارج تغشيه، وتصنع عليه إكليلا من ذهب حواليه، وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع، على جانبه الواحد حلقتان وعلى جانبه الثاني حلقتان، وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب، وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بهما، تبقى العصوان في حلقة التابوت لا تنزعان منها، وتضع في التابوت والشهادة التي أعطيك، وتصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وتصنع كروبين من ذهب صنعة خراطة تصنعهما على طرفي الغطاء، فاصنع كروبا واحدا على الطرف من هنا، وكروبا آخر على الطرف من هناك، من الغطاء تصنعون الكروبين على طرفيه، ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق، مظللين بأجنحتهما على الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الآخر نحو الغطاء يكون وجها الكروبين، وتجعل الغطاء على التابوت من فوق، وفي التابوت تضع الشهادة التي أنا أعطيك" اهـ.
هذا ما ورد في صفة الأمر بصنع ذلك التابوت الديني، وذكر بعده كيفية صنع المائدة الدينية وآنيتها والمسكن والمذبح وخيمة العهد ومنارة السراج والثياب المقدسة، ثم فصل في الفصل 27 منه كيف كان صنع هذا التابوت والمائدة والمنار ومذبح البخور، وهي غرائب يعدها عقلاء هذه العصور ألاعيب، والحكمة فيها - والله أعلم - أن بني إسرائيل كانوا - وقد استعبدهم وثنيو المصريين أحقابا - قد ملكت قلوبهم عظمة تلك الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة والصنعة التي تدهش الناظر، وتشغل الخاطر، فأراد الله تعالى أن يشغل قلوبهم عنها بمحسوسات من جنسها تنسب إليه سبحانه وتعالى وتذكر به، فالتابوت سمي أولا تابوت الشهادة; أي: شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الرب وتابوت الله، كذلك أضيف إلى الله تعالى كل شيء صنع للعبادة، وهذا مما يدل على أن تلك الديانة ليست دائمة، فلا غرو إذا نسخ الإسلام كل هذا الزخرف والصنعة من المساجد التي يعبد فيها الله تعالى حتى لا يشتغل المصلي عن مناجاة الله بشيء منها، وما كلفه ذلك الشعب الذي وصفته كتبه المقدسة بأنه صلب الرقبة أو كما تقول العرب "عريض القفا" على قرب عهده بالوثنية وإحاطة الشعوب الوثنية به من كل جانب لا يليق بحال البشر في طور ارتقائهم; إذ لا يربى الرجل العاقل بمثل ما يربى به الطفل أو اليافع، وفي سائر فصول سفر الخروج الثلاثة تفصيل لما قدمه بنو إسرائيل لصنع تلك الدار التي يقدس فيها الله، ولصنع الخيمة والتابوت وغير ذلك، وغرضنا منها معرفة حقيقة التابوت عندهم، فإنك لتجد في بعض كتب التفسير وكتب القصص عندنا أقوالا غريبة عنه، منها أنه نزل مع آدم من الجنة، ومنشأ تلك الأقوال ما كان ينبذ به الإسرائيليون من القصص بين المسلمين مخادعة لهم، ليكثر الكذب في تفسيرهم للقرآن فيضلوا به، ويجد رؤساء اليهود مجالا واسعا للطعن في القرآن يصدون به قومهم عنه.
وفي آخر فصول سفر الخروج أن موسى - عليه الصلاة والسلام - وضع اللوحين اللذين فيهما شهادة الله - أي: وصاياه - لبني إسرائيل في التابوت، وفي كتبهم الأخرى أنه كان بعده عند فتاه يشوع - أي: يوشع - وأنهم كانوا يستنصرون بهذا التابوت، فإذا ضعفوا في القتال وجيء به وقدموه تثوب إليهم شجاعتهم، وينصرهم الله تعالى، أي ينصرهم بتلك الشجاعة التي تتجدد لهم بإحضار التابوت لا بالتابوت نفسه ولذلك غلبوا على التابوت فأخذ منهم عندما ضعف يقينهم وفسدت أخلاقهم، فلم يغن عنهم التابوت شيئا كما قال الأستاذ الإمامرحمه الله تعالى.
أقول: وفي سفر تثنية الاشتراع أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم.
ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبني إسرائيل على عهد عاليا أو عالي الكاهن، فانتصر الفلسطينيون وأخذوا التابوت من بني إسرائيل بعد أن نكلوا بهم تنكيلا فمات عالي قهرا، وكان صموئيل - الذي يدعى في الكتب العربية شمويل - قاضيا لبني إسرائيل من بعده، وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل كما تقدم، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم، وقالوا في سبب إتيان التابوت: إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران في زرعهم والبواسير في أنفسهم، فتشاءموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب جعلوا كفارة لذنبهم.
ومن المدون في التاريخ المقدس عندهم أنه لما أحرق البابليون هيكل سليمان فقدت التوراة وتابوت العهد معا لأنهما قد أحرقا فيه.
وأما قوله تعالى في التابوت: { فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } فقد كثرت فيه الروايات، ومنها ما لا يدل عليه نقل ولا يقبله عقل، على أنها متعارضة لا يمكن الجمع بينها كما ترى في تفسير ابن جرير وهو أم التفاسير، وقد أوردنا ما أوردنا من كتب اليهود ليعلم أن أكثر ما ذكر عن التابوت وعما فيه من الغرائب لا أصل له في تلك الكتب، وإنما وحي الله تعالى ناطق بأن فيه سكينة، والسكينة في اللغة ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، وفي إتيان الصندوق سكينة لا تخفى لما كان له من الشأن الديني عند القوم، أو فيه ما يحدث لهم سكينة وهي الفيران والبواسير الذهب التي تدل على خوف العدو، أو الألواح أو رضاضتها، وهي هي البقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وروي عن عطاء نحو ما قلناه. قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح من أنها الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات. وقوله: { تحمله الملائكة } يحتمل وجهين: أحدهما أن المراد بالملائكة صور الكروبين وقد حمل التابوت; أي: وضع عليهما كما تقول في وصف القصور والتماثيل المصنوعة: فيها فلان على فرس من نحاس، تريد تمثال الملك وتمثال الفرس، وثانيهما: أن البقرتين اللتين حملتا التابوت من بعض بلاد الفلسطينيين إلى بني إسرائيل كانتا تسيران مسخرتين بإلهام الملائكة، وفي كتب القوم أن البقرتين اللتين جرتا عجلة التابوت لم يكن لهما قائد ولا سائق، وما يجري بإلهام لا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة. روى نحو هذا ابن جرير قال: حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما إلخ، وختم الآية بقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } قالوا: يحتمل أن يكون هذا تتمة كلام نبي بني إسرائيل لهم، أي إن في مجيء التابوت علامة أو حجة لكم تدل على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشئونكم وينكل بأعدائكم، فعليكم أن ترضوا بملكه ولا تفرقوا عنه، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى لهذه الأمة، معناه أن فيما أوحاه الله تعالى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من هذه القصة آية بينة على ثبوته; إذ لولا الوحي لما كان يعرفها وهو الأمي الذي لم يقرأ ولم يتعلم شيئا، ولا كان يعرف ما انطوت عليه من العبرة والفائدة، ولا سيما ما يعتبر في الملوك من الصفات التي تؤهلهم للقيام بأعباء السياسة وأعمال الرياسة، وإنما يكون ذلك آية بينة وعبرة نافعة لمن يؤمن بالله وآياته التي تؤيد بها أنبياءه ورسله عليهم السلام; لذلك قيدها بالشرط الذي حذف جوابه لدلالة الكلام عليه.
علم من السياق أن الغرض الأول من طلب القوم نصب الملك عليهم أن يتولى قيادتهم للقتال في سبيل الله، ويثأر من أولئك الوثنيين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فكان المتوقع بعد بيان نصب الملك أن يذكر ما كان من شأنه في القتال وذلك ما بينه تعالى، ذكره بقوله: { فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } فصل بالجنود: انفصل بهم من مقامهم وقادهم لقتال أعدائهم، وأصله: فصل نفسه عنه مصاحبا لهم، والجنود: جمع جند بالضم وهو العسكر وأصله الأرض الغليظة ذات الحجارة ثم قيل لكل مجتمع قوي جند، والشرب: تناول المائع بالفم وابتلاعه، وطعم الشيء من غذاء وشراب ذاقه. قال الشاعر:

*وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً*

والغرفة بالفتح: المرة، من غرف الشيء إذا رفعه من محله وتناوله، وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والحجازيون. والغرفة - بالضم: ما يغترف، وبها قرأ ابن عامر والكوفيون.
لما كان بنو إسرائيل من قبل كارهين لملك طالوت عليهم، ثم أذعنوا من بعد، وكان إذعان الجميع ورضاهم مما لا يمكن العلم به إلا بالاختبار والابتلاء أراد الله أن يبتلي هذا القائد جنده ليعلم المطيع والعاصي والراضي والساخط، فيختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال، وثباته في معامع النزال، وينفي من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فإن طاعة الجيش للقائد وثقته به من شروط الظفر، وأحوج القواد إلى اختبار الجيش من ولي على قوم وهم له كارهون، أو كان فيهم من يكرهه، فإذا وجد في الجيش من ليس متحدا معه يخشى أن يوضعوا خلاله يبغونه الفتنة ويسمونه بالفشل. أخبر طالوت جنوده بأن سيمرون على نهر يمتحنهم به بإذن الله، فمن شرب منه فلا يعد من أشياعه المتحدين معه في أمر القتال إلا أن يكون ما يشربه قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، فإن هذا مما يتسامح فيه ولا يراه مانعا من الاتحاد به والاعتصام بحبله، ومن لم يطعمه أي يذقه بالمرة فإنه منه، وهو الذي يركن إليه ويوثق به تمام الثقة، فالابتلاء سيكون على ثلاث مراتب: مرتبة من يشرب فيروى لا يبالي بالأمر، وحكمه أن يتبرأ منه، ومرتبة من يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه وهو مقبول في الجملة، ومرتبة من لا يذوقه ألبتة، وهو الولي النصير الذي يوثق باتحاده، ويعول على جهاده، قال تعالى: { فشربوا منه إلا قليلا منهم } ذلك أن القوم كانوا قد فسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، واعتادوا العصيان فسهل عليهم عصيانهم، وشق عليهم مخالفة الشهوة وإن كان فيها هوانهم، ولم يبق فيهم من أهل الصدق في الإيمان والغيرة على الملة والأمة إلا نفر قليل
{ { وقليل من عبادي الشكور } [سبأ: 13] والعدد القليل من أهل العزائم يفعل ما لا يفعل الكثير من ذوي المآثم، كما يعلم من قوله تعالى { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي فلما جاوز النهر طالوت هو والذين آمنوا معه { قالوا } وهم أولئك الذين شربوا منه إلا قليلا منهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } الطاقة أدنى درجات القوة كما تقدم في تفسير آية الصيام. وجالوت هو أشهر أبطال أعدائهم الفلسطينين، وعربه النصارى الذين ترجموا سفر صموئيل الذي فيه القصة "جليات" ولا اعتداد بتعريبهم، والعبارة تشعر بأن جنود الفلسطينيين كانوا أكثر من الإسرائيليين; أي: قال جمهور الجنود: ليس لنا أدنى شيء من جنس الطاقة بلقاء جالوت وجنوده.
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } وهؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله في الآخرة هم الذين آمنوا وجاوزوا النهر مع طالوت، وقد توهم بعض الناس أن الآخرين الذين شربوا من النهر لم يجاوزوه; لأنه تعالى لم يذكرهم، وظنوا أن القولين من المؤمنين الذين جاوزوا النهر، قال ضعافهم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال أقوياؤهم: كم من فئة قليلة إلخ. ثم اشتد بعضهم بعزيمة بعض، وكان من أمر انتصارهم ما يأتي في الآية التي بعد هذه، والعبارة لا تدل على أن الذين شربوا من النهر لم يجاوزوه، وإنما خص بالذكر الذين لم يشربوا لأنهم لم يتخلفوا عن طالوت لأجل الشرب، فهم الذين جاوزوه معه مقترنين وهم الذين يعتدهم منه، ويتبرأ من المتخلفين العاصين كما علم من قوله في الابتلاء.
سياق الكلام فيمن فصل بهم من الجنود وابتلوا بالنهر، وقد قال فيهم: إنهم شربوا منه إلا قليلا، ثم أعلمنا أن فريقا منهم وصفهم بالمؤمنين جاوزوا النهر مع طالوت، فعلمنا أنهم هم الذين أطاعوا ولم يشربوا، ثم أخبرنا بقولين يصلح أحدهما لمعارضة الآخر ورده. الأول أسنده إلى ضمير الجماعة المحكي عنهم الذين قال فيهم: إنهم شربوا منه إلا قليلا منهم ومثله يصدر ممن خالف القائد وجبن عن القتال، والثاني أسنده إلى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهو ينطبق على الذين أطاعوا القائد واتحدوا معه فلم يعصوا، ويتفق مع وصف الإيمان الذي سبقه، فعلمنا أن الجميع جاوزوا النهر، وأن هذين القولين كانا بعد مجاوزته، وأن التصريح بمجاوزة المؤمنين منهم لا يجعل المجاوزة للحصر وإنما هي لبيان المعية والمصاحبة، فإن القوم افترقوا عند النهر فسبق من لم يشرب والتف حول القائد وجاوزوا النهر معه، وتخلف الآخرون قليلا للشرب والارتفاق بالماء، ثم جاوزوا ولحقوا بالآخرين كما علم من محاورتهم معهم بما ظهر به أثر ما في نفس كل فريق منهما على لسانه. ومن بديع إيجاز القرآن أن يحذف الشيء ويأتي في السياق بما يدل عليه، وأن يذكر القوم بوصف غير ما دل عليه الكلام أو يجعله في مكان الضمير لإفادة أن هذا الوصف المذكور هو السبب في الفعل أو الوصف الذي سيق الكلام لتقريره، كما وصف الذين لم يشربوا بالإيمان مرة وباعتقاد لقاء الله تعالى مرة أخرى، فأعلمنا أن هذا الإيمان والاعتقاد هما سبب طاعة القائد وترك الشرب، وسبب الشجاعة والإقدام على لقاء العدو الذي يفوقهم عدداً.
هذا ما ظهر لي في بيان هذه العبارة ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه قال الذين شربوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده { قال ابن جرير }: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير، ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه وانخذل عنه أهل الشرك والنفاق إلخ، وفيه ذكر قول كل من الفريقين ووسم من يقول بأنه لم يجاوز مع طالوت النهر إلا أهل الإيمان بالغفلة ورد عليه قوله.
وفي كتب اليهود أن الابتلاء بترك شرب الماء كان على يد جدعون قبل قصة طالوت، ويوردون ذلك بما لا يليق بالله تعالى، ولكنه يوافق ما بنيت عليه حوادث تاريخهم من كونها كلها عجائب وخوارق عادات لا شيء منها مبني على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، ففي الفصل السابع من سفر القضاة ما نصه:
وقال الرب لجدعون: إن الشعب الذي معك كثير علي لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر على إسرائيل قائلا: يدي خلصتني، والآن ناد في آذان الشعب قائلا: من كان خائفا ومرتعدا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد، فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا، وبقي عشرة آلاف، وقال الرب لجدعون: لم يزل الشعب كثيرا، انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك، ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب معك، وكل من أقول لك عنه لا يذهب معك فهو لا يذهب، فنزل بالشعب إلى الماء، وقال الرب لجدعون: كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل، وأما باقي الشعب جميعا فجثوا على ركبهم لشرب الماء; فقال الرب لجدعون: بالثلاثمائة رجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك. وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه" اهـ. وقد علمت أن القوم خلطوا في تاريخهم، وأن أكثره لا يعرف كاتبوه، ومنه سفر صموئيل الذي فيه قصة طالوت، وعبارته تدل على أنه كتب بعد حدوث وقائعه; فإن الكاتب يذكر بعض الأشياء ويقول: إنها لا تزال إلى الآن كأن الزمن كان كافيا لأن تندرس فيه جميع الرسوم والمعالم التي عهدت عند وقوع تلك الوقائع وهم لا يعرفون كاتبه، وإننا نرى المؤرخين في زماننا يغلطون بما يقع في عهدهم غلطا أبعد من هذا الغلط في إسناد الشيء إلى غير فاعله، وتقديمه أو تأخيره عن زمنه. وكما فات مؤرخي بني إسرائيل تحرير الوقائع والحوادث بالتدقيق فاتهم ما فيها من العبر والحكم، فأين ما نقلناه في تفسير هذه القصة عنهم مما تجده في عبارة القرآن من صنوف العبرة؟ فالحق ما قاله الله تعالى في مسألة النهر وغيرها، ولا يعتبر ما خالفه من أقوال سائر الكتب معارضا له فيحتاج إلى التوفيق أو الجواب كما تقدم في مقدمة تفسير هذه القصة. والله أعلم وأحكم.
{ ولما برزوا } أي: لما ظهر طالوت وجنوده بالبراز، وهي بالفتح ما استوى من الأرض { لجالوت وجنوده } وهم أعداؤه الفلسطينيون { قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } أي: لجأ قوم طالوت المؤمنون إلى الله تعالى يدعونه بأن يفرغ على قلوبهم الصبر، ويثبت أقدامهم في مواقع القتال بثبات قلوبهم واطمئنانها بالإيمان والثقة به، وينصرهم على القوم الكافرين عبدة الأوثان، الذين تعلقت قلوبهم بالأوهام. وهذه الأمور الثلاثة بعضها مرتب على بعض بحسب الأسباب الغالبة، فالصبر سبب للثبات الذي هو سبب من أسباب النصر، وأجدر الناس بالصبر المؤمنون بالله عز وجل الغالب على أمره، كما سنوضحه بعد تمام تفسير هذه الآيات.
{ فهزموهم بإذن الله } أي: فاستجاب لهم ربهم ما سألوا ببركة التوجه إليه، وتذكرهم ما يؤمنون به من قوته التي لا تغالب فهزموهم، أي كسروهم كسرة انتهت بدفعهم من المعركة، وهربهم منها بإرادته المنفذة لسنته في نصر المؤمنين الصابرين الثابتين، على الكافرين { وقتل داود جالوت } قالوا: إن جالوت جبار الفلسطينيين طلب البراز فلم يجرؤ أحد من بني إسرائيل على مبارزته حتى إن طالوت جعل لمن يقتله أن يزوجه ابنته، ويحكمه في ملكه، ثم برز له داود بن يسى، وكان غلاما يرعى الغنم، ولم يقبل أن يلبس درعا ولا أن يحمل سلاحا، بل حمل مقلاعه وحجارته، فسخر منه جالوت واحتمى عليه إذا لم يستعد له، وقال: هل أنا كلب فتخرج إلي بالمقلاع؟ فرماه داود بمقلاعه فأصاب الحجر رأسه فصرعه فدنا منه فاحتز رأسه، وجاء به فألقاه إلى طالوت فعرف داود، وكان له الشأن الذي ورث به ملك إسرائيل، كما قال تعالى: { وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء } فسروا الحكمة هنا بالنبوة، والأظهر عندي أن تفسر بالزبور الذي أوحاه الله إليه، كما قال في آية أخرى:
{ { وآتينا داود زبورا } [النساء: 163] وبه كان نبيا، وأما تعليمه مما يشاء فهو صنعة الدروع، كما قال تعالى في سورة الأنبياء: { { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون } [الأنبياء: 80].
ثم بين تعالى حكمة الإذن بالقتال الذي قررته الآيات فقال: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } قرأ نافع (دفاع الله) والباقون (دفع الله) أي: لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض، وبغوا على الصالحين وأوقعوا بهم حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين وإحسانه إلى الناس أجمعين أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض، وقد سمى هذا دفعا على قراءة الجمهور باعتبار أنه منه سبحانه، إذ كان سنة من سننه في الاجتماع البشري، وسماه دفاعا في قراءة نافع باعتبار أن كلا من أهل الحق المصلحين وأهل الباطل المفسدين يقاوم الآخر ويقاتله.
ثم بين أن إيتاء النبي الأمي أمثال هذه القصص من دلائل نبوته فقال: { تلك آيات الله } يشير إلى قصة الذين خرجوا من ديارهم وقصة بني إسرائيل التي بعدها { نتلوها عليك بالحق } فيه تعريض بأن ما يقوله بنو إسرائيل مخالف لهذا فهو باطل { وإنك لمن المرسلين } إذ لولا الرسالة لما عرفت شيئا من هذه القصص وأنت لم تكن في أزمنة وقوعها ولا تعلمت شيئا من التاريخ، ولو تعلمته لجئت بها على النحو الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصاصين. وقد قرر تعالى هذه الحجة على نبوته صلى الله عليه وسلم في سورة القصص بعد ذكر قصة موسى في مدين، وذكر نبوته بقوله تعالى:
{ { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين } [القصص: 44، 45].
السنن الاجتماعية في القرآن والأمم والاستقلال
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى أن الأمم إذا اعتدي على استقلالها وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية أن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها ودفع ضيم الأعداء عنها فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى:
{ { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين } [البقرة: 246].
الرابعة أن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجح يقبله الجمهور من الأمة; لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم، وقد جعل الإسلام المرجح لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم; ولذلك لم ينصب النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمامة أبي بكر الدنيوية بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة، إذ أمر عند ما اشتد مرضه بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي إن الشورى في انتخابه لم تكن تامة، وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته - رضي الله عنه - لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة أن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية ; ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه.
السادسة أن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة (كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ولم يؤت سعة من المال]) وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قولهم له: { ونحن أحق بالملك منه } فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاصة، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم، والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك، وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال: إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة العزيزة، له أثر في النفس عظيم; فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم إنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية. وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا فلم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة - وهي محترمة في نفسها - كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة أن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى: { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم } الآية، كما تقدم.
الثامنة هي ما أفاده قوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء } كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز، على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون؟!
{ { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } [الأنبياء: 44] أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء: { { فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } [الشعراء: 150 - 152] أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله: { { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } [آل عمران: 26] هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم: أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر، وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول، فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم; إنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم عليه أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية، وهم الذين يسمونهم أركان الحرب، ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة أن الفئة القليلة قد تغلب - بالصبر والثبات وطاعة القواد - الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد; لأن نصر الله مع الصابرين; أي جرت سنته بأن يكون النصر أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة أن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد; فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوير وبلائهم في حربهم للإنجليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه. وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مائة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا قويا يقل في قواده من يساويه فيه.
الثانية عشرة أن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى: { فهزموهم بإذن الله } إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى; فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا; ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال:
{ { ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45] فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة، وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون: إن الحرب طبيعية في البشر; لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدي الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة قوله تعالى: { لفسدت الأرض } يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله; فإنه تعالى يقول: إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا عن الحق والمصلحة هو المانع من فساد الأرض، أي: هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال:
{ { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } [الحج: 39 - 41] فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق، وأنه ينتهي ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل.
ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى في سورة الرعد:
{ { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } [الرعد: 17] فهو يفيد أن سيول الحوادث ونيران التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه، وتبقي إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، وإبريز المصلحة التي يتحلى بها الإنسان، وهناك آيات أخرى في أن الحق يزهق الباطل. وسيأتي بيان ذلك ودفع الشبه عنه في تفسيرها إن أمهلنا الزمان، والله المستعان. اهـ.