التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٠
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨٢
-البقرة

تفسير المنار

هذا ضرب من ضروب غرورهم، عطفه على ما قبله فقال: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } قيل: هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، والذي عليه أكثر اليهود أنها سبعة أيام؛ لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فالإسرائيلي الذي لا تدركه الشفاعة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوما، ومثل هذا الحكم لا يمكن القول به إلا بعهد من الله - تعالى - مالك يوم الدين والجزاء، وإلا كان افتئاتا عليه سبحانه، وقولا عليه بغير علم، وهذا ما رد به عليهم، ولله الحجة البالغة، وأمر رسوله أن يخاطبهم به بقوله: { قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده }، أي هل عهد الله إليكم ذلك ووعد به فكان حقا لكم عنده؛ لأن الله لا يخلف عهده؟ وقال ابن جرير وبعض المفسرين: معناه: هل اتخذتم عند الله عهدا باتباع شريعته اعتقادا وائتمارا وانتهاء وتخلقا، فأنتم واثقون بعهد الله في كتابه لمن كان كذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة ومغفرة ما عساه يفرط منه من السيئات أو العقوبة عليه مدة قصيرة؟! والاستفهام للإنكار، أي لستم على عهد من الله - تعالى - ولذلك كذبهم بقوله: { أم تقولون على الله ما لا تعلمون }، أي أم تقولون على الله شيئا ليس لكم به علم، إذ العلم بمثله لا يكون إلا بوحي منه يبلغه عنه رسله، والقول على الله بغير علم جرأة وافتيات عليه وكفر به، والمعنى أنه لا بد من أحد الأمرين إذ لا واسطة بينهما: إما اتخاذ عهد الله، وإما القول على الله بغير علم، وإذا كان اتخاذ العهد لم يحصل، تعين أنكم تكذبون على الله بجهلكم وغروركم، { بلى من كسب سيئة } الآية، { بلى } مبطلة لدعواهم، وقال الأستاذ: للسيئة هنا إطلاقها، وخصها مفسرنا (الجلال) وبعض المفسرين بالشرك، ولو صح هذا لما كان لقوله - تعالى -: { وأحاطت به خطيئته } معنى؛ فإن الشرك أكبر السيئات، وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيفما كان، ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها، وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه، كأنه محبوس فيها لا يجد لنفسه مخرجا منها، يرى نفسه حرا مطلقا وهو أسير الشهوات، وسجين الموبقات، ورهين الظلمات، وإنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب، والتمادي على الإصرار، قال - تعالى -: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [المطففين: 14] أي من الخطايا والسيئات، ففي كلمة { يكسبون } معنى الاسترسال والاستمرار، وران عليه: غطاه وستره، أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي، حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه، ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا وإقلاعا صحيحا، لا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات. روى أحمد والترمذي والحاكم - وصححاه - والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله - تعالى - في القرآن: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [المطففين: 14]" . لمثل هذا كان السلف يقولون: المعاصي بريد الكفر.
قوله: { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } خبر { من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته }، أي هم أصحاب دار العذاب في الآخرة الأحقاء بها دون من لم يصل إلى درجتهم في الدنيا، وهو من في قلبه شيء من نور الإيمان وتوحيد الله - تعالى - وما يتبعه من الخير.
قال الأستاذ الإمام: ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها فلم يؤولها بالشرك، ولكنهم أولوا جزاءها فقالوا: إن المراد بالخلود طول مدة المكث؛ لأن المؤمن من لا يخلد في النار وإن استغرقت المعاصي عمره وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته. أولوا هذا التأويل هروبا من قول المعتزلة: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وتأييدا لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة، والقرآن فوق المذاهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته، لا يكون أو لا يبقى مؤمنا.
وأقول -: إن فتح باب تأويل الخلود يجرئ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه، والقول بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه؛ لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ما كان ليعذب خلقه عذابا لا نهاية له؛ لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته، ولكنهم لم يفقهوا المنفعة، وإذا كان التقليد مقبولا عند الله كما يرى فاتحو الباب، فقد وضح عذر الأكثرين؛ لأنهم مقلدون لعلمائهم إلى آخر ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر، فإن هذه المسألة قديمة، وهي أكبر مشكلات الدين. نعم، إن العلماء يحتجون عليهم بالإجماع - ولو سكوتيا - ولكن التأويل باب لا يكاد يسده - متى فتح - شيء.
ثم ذكر في مقابلة أهل النار أضدادهم أهل الجنة على سنته في كتابه، فقال: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات }، وأما الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح وما يلزمه من الأعمال الصالحات ف { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }. أقول: أي أولئك دون غيرهم أصحابها الحقيقيون بها، بحسب وعد الله وفضله هم خالدون فيها. وفيه دليل على أن الوعد على الإيمان والعمل معا، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلا من آمن فمات ولم يتسع له الوقت للعمل، فهو من أهله بمقتضى إيمانه الصحيح، وما حال دونه من الآجال عذر؛ لأنه لا ذنب له فيه.