التفاسير

< >
عرض

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ
١٣٧
هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
١٣٨
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
١٣٩
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
١٤٠
وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ
١٤١
-آل عمران

تفسير المنار

هذه الآيات وما بعدها في قصة أحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام، فهي متصلة بقوله - عز وجل -: { وإذ غدوت من أهلك } إلخ. الآيات التي تقدمت، وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال: " إن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين " وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
ذكر في الآيات السابقة خبر وقعة " أحد " وأهم ما وقع فيها مع التذكير بوقعة " بدر " وما بشروا به في ذلك. وفي هذه الآيات وما بعدها يذكر السنن والحكم في ذلك. ويعلم المؤمنين من علم الاجتماع ما لم يكونوا يعلمون؛ ولذلك افتتحها بقوله الحكيم: { قد خلت من قبلكم سنن }.
قال الأستاذ الإمام: إن بعض المفسرين يجعل الآيتين الأوليين من هذه الآيات تمهيدا لما بعدها من النهي عن الوهن والحزن وما يتبع ذلك، وعلى هذا جرى (الجلال) كأنه يقول: إن هذا الذي وقع لا يصح أن يضعف عزائمكم فإن السنن التي قد خلت من قبلكم تبين لكم كيف كانت مصارعة الحق للباطل، وكيف ابتلي أهل الحق أحيانا بالخوف والجوع والانكسار في الحرب ثم كانت العاقبة لهم، فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين للرسل المقاومين لهم، فإنهم كانوا هم المخذولين المغلوبين، وكان جند الله هم المنصورين الغالبين، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا لما أصابكم في أحد.
ثم قال ما مثاله مع إيضاح وزيادة: هذا رأي ضعيف فإن ذكر السنن بعد آيات متعددة في موضوعات مختلفة تفيد معاني كثيرة، فإن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين بدت لهم بغضاؤهم، وبين هو لهم مجامع خبثهم وكيدهم، ثم ذكر النبي والمؤمنين بوقعة " أحد " وما كان فيها بالإجمال، وذكرهم بنصره لهم ببدر، ثم ذكر المتقين وأوصافهم وما وعدوا به، ثم ذكر بعد ذلك كله مضي السنن في الأمم وأنه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، فذكر السنن بعد ذلك كله يفيد معاني كثيرة تحتاج إلى شرح طويل جدا لا معنى واحدا كما قيل. وإن في القرآن من إفادة المباني القليلة للمعاني الكثيرة بمعونة السياق والأسلوب ما لا يخطر في بال أحد من كتاب البشر وعلمائهم، ومثل هذا مما تجب العناية ببيانه.
يقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن كون القرآن معجزا ببلاغته يوجب علينا أن نجعل أسلوبه الذي كان معجزا به فنا ليبقى دالا على وجه إعجازه. وكذلك أقول: إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
والعلم بسنن الله - تعالى - من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها، ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد، وفرعت منها الفروع والمسائل، (قال) وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها. يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله - تعالى - ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها؛ لذلك قال: وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض وكذلك كانت علومهم كلها، ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما كانت محتاجة أيضا إلى تدوين هذا العلم، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية. سم بما شئت فلا حرج في التسمية.
ثم قال: ومعنى الجملة: انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين؛ فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم. وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه، فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد.
وأقول: السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، قيل إنها من قولهم: سن الماء إذا والى صبه، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد. ومعنى (خلت): مضت وسلفت. أي إن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة وغير ذلك قد جرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضاها النظام العام وليس الأمر أنفا كما يزعم القدرية، ولا تحكما واستبدادا كما يتوهم الحشوية.
جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر:
{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } [الأنفال: 38] وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم: { { وقد خلت سنة الأولين } [15: 13] وقوله في سياق دعوة الإسلام: { { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا } [الكهف: 55] وقولهفي مثل هذا السياق: { فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا } [فاطر: 43] وصرح في سور أخرى كما صرح هنا بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل وسورة الأحزاب وسورة الفتح.
هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان.
كان المليون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله - تعالى - في خلقه تشبه أفعال الحاكم المستبد في حكومته، المطلق في سلطته، فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقب لأجله غيرهم، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم، لمجرد دخولهم في عنوان معين، وانتمائهم إلى نبي مرسل، وينتقم من بعض الناس لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان.
هذا ما كانوا يظنون في دينهم ويسندونه إلى مشيئة الله المطلقة، من غير تفكير في حكمته البالغة، وتطبيقها على سننه العادلة، فإن نبههم منبه إلى ما يصيبهم بل ما أصاب أنبياءهم من البلاء، قالوا إنه - تعالى - يفعل ما يشاء، وذلك رفع درجات أو تكفير للسيئات وأشباه هذا الكلام الذي يشتبه عليهم حقه بباطله، ويلتبس عليهم حاليه بعاطله، وقد كان وما زال علة غرور أصحابه بدينهم، واحتقارهم لكل ما عليه غيرهم.
فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله - تعالى - في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سنته في الحرب - مثلا - ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشجوا رأسه، وكسروا سنه، وأردوه في تلك الحفرة؛ كما بينا ذلك في تفسير الآيات السابقة، وسيأتي بسطه في الآيات اللاحقة، ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله - تعالى - في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها بين الأمم؛ لذلك لم يلبث أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون.
وكأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه وكونها لا تتبدل ولا تتحول كسورة الحجر وبني إسرائيل والكهف والملائكة أو فاطر وهي التي ذكرنا بعضها آنفا وأشرنا إلى بعض - أو حفظوا ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي:
{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } [آل عمران: 165] لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل. وأن ما وقع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل.
ولما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى فقال: { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } قال الأستاذ الإمام: أي إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية، وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل وينصرون عليهم بالصبر والتقوى (أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب بحسب الزمان والمكان ودرجة استعداد الأعداء) وكان ذلك يجري بأسباب مطردة وعلى طرائق مستقيمة، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض، وإن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادا يخذل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستقروا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك هو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل، وقال بعض المفسرين: أي إن لم تصدقوا فسيروا. وهذا قول باطل.
قال: والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي. نعم: إن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارا ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه ويرى الآثار بعينه ولذلك أمر بالسير والنظر ثم أتبع ذلك بقوله: { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة تتخلله: كأنه يقول إن كل إنسان له عقل يعتبر به، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها لأن كتابه أرشده إليها وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ به، وقد بينا في تفسير الفاتحة أن لسير الناس في الحياة سننا يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها إلى الهلاك والشقاء وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها سواء كان مؤمنا أو كافرا، كما قال سيدنا علي: إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم وخذلتم بتفرقكم عن حقكم. ومن هذه السنن أن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون - مع الثبات - من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصدهم سواء كان ما اجتمعوا عليه حقا أو باطلا، وإنما يصلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات، فالفضائل لها عماد من الحق، فإذا قام رجل بدعوى باطلة ولكن رأى جمهور من الناس أنه محق يدعو إلى شيء نافع وأنه يجب نصره فاجتمعوا عليه ونصروه وثبتوا على ذلك فإنهم ينجون معه بهذه الصفات. ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم، بل لا يستمر زمنا طويلا لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده بل له ما يقاومه فيكون صاحبه دائما متزلزلا، فإذا جاء الحق ووجد أنصارا يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون؛ فإنه لا يلبث أن يدمغ الباطل وتكون العاقبة لأهله، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير. فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا وكنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا ومن السير على سنن الله في طلبه وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا، ونضع الميزان بيننا وبينه وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
وأقول: إيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة، والهدى والموعظة للمتقين خاصة هو بيان أن الإرشاد عام، وأن جريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا: لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه. فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي كان عليها المسلمون في أحد، ويعمل معه ما عملوا إلا وينال منه؛ أي يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم والعدو مشرف عليهم إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كر عليهم من ورائهم، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنازع كما يأتي بيانه، فما ذكر من أن لله - تعالى - سننا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند
وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليهم من الوقائع فيستقيمون على الطريقة، هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة، فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات، ولينظروا أين مكانهم من هدايتها، وما هو حظهم من موعظتها؟
أما إنهم لو فعلوا فبدءوا بالسير في الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها، ثم اعتبروا بحال الأمم القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس بسنن الله، وأبعدهم عن معرفة أحوال خلق الله، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم سيرا في الأرض، وأشد منهم استنباطا لسنن الاجتماع، وأعرق منهم في الاعتبار بما أصاب الأولين، والاتعاظ بجهل المعاصرين، فهل يليق بمن هذا كتابهم، أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم؟؟
كلا إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدي به ويتعظ بمواعظه ولذلك جعل الهداية والموعظة من شئون المتقين الثابتة لهم، والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان، كما قال في أول سورة البقرة:
{ { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون } [البقرة: 2 - 3] إلخ. وقد مر وصف المتقين وذكر جزائهم في الآيات التي قبل هاتين الآيتين، وهذا التعبير أبلغ من الأمر بالهدى والموعظة وهو يتضمن الأمر بالثبات فيه والحث على المحافظة عليه لأنه قوام التقوى التي هي قوام الإيمان؛ ولذلك قال بعده:
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } الوهن: الضعف في العمل وفي الأمر، وكذا في الرأي، والحزن: ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب، أي تضعفوا عن القتال وما يلزمه من التدبير بما أصابكم من الجرح والفشل في أحد ولا تحزنوا على من قتل منكم في ذلك اليوم، ويصح أن يكون هذا النهي إنشاء بمعنى الخبر، أي إن ما أصابكم من القرح في أحد ليس مما ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم ولا موجبا لحزنكم وانكسار قلوبكم؛ فإنه لم يكن نصرا تاما للمشركين عليكم، وإنما هو تربية لكم على ما وقع منكم من مخالفة قائدكم - صلى الله عليه وسلم - في تدبيره الحربي المحكم، وفشلكم وتنازعكم في الأمر، وذلك خروج عن سنة الله في أسباب الظفر، وبهذه التربية تكونون أحقاء بألا تعودوا إلى مثل تلك الذنوب، فتكون التربية خيرا لكم من عدمها بل يجب أن تزيدكم المصائب قوة وثباتا بما تربيكم على اتباع سنن الله في الحزم والبصيرة وإحكام العزيمة واستيفاء الأسباب في القتال وغيره، وأن تعلموا أن الذين قتلوا منكم شهداء وذلك ما كنتم تتمنونه كما سيأتي، فتذكره مما يذهب بالحزن من نفس المؤمن (وهاتان العلتان قد ذكرتا في الآية التي بعد هذه) وكيف تهنون وتحزنون وأنتم الأعلون بمقتضى سنن الله - تعالى - في جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون الحيدان عن سننه، وفي نصر من ينصره ويتبع سننه بإحقاق الحق وإقامة العدل، والمؤمنون أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو الطمع فيما في أيدي الناس، فهمة الكافرين تكون على قدر ما يرمون إليه من الغرض الخسيس، وما يطلبونه من الغرض القريب، فهي لا تكون كهمة المؤمن الذي غرضه إقامة الحق والعدل في الدنيا، والسعادة الباقية في الآخرة، أي إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسننه في نظام الاجتماع بحيث صار هذا الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما في ضمائركم وأعمالكم فأنتم الأعلون وإن أصابكم ما أصابكم. وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن ما أصابكم يعدكم للتقوى، فتستحقون تلك العاقبة وهي علو السيادة عليهم. وقيل: إن كنتم مؤمنين متعلق بالنهي وجملة { وأنتم الأعلون } حال معترضة. أي فلا تضعفوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين؛ لأن من مقتضى الإيمان الصبر والثبات والرغبة في إحدى الحسنيين - الظفر أو الشهادة - على أن مجموع الأمة موعود بالحسنيين جميعا، وإنما يطلب إحداهما الأفراد.
وقال الأستاذ الإمام ما معناه: إن الحزن إنما يكون على ما فات الإنسان وخسره مما يحبه، وسببه أنه يشعر أنه قد فاته بفوته شيء من قوته وفقد بفقده شيئا من عزيمته أو أعضائه، ذلك بأن صلة الإنسان بمحبوباته من المال والمتاع والناس كالأصدقاء وذي القربى تكسبه قوة وتعطيه غبطة وسرورا، فإذا هو فقد شيئا منها بلا عوض فإنه يعرض لنفسه ألم الحزن الذي يشبه الظلمة ويسمونه كدرا كأن النفس كانت صافية رائقة فجاء ذلك الانفعال فكدرها بما أزال من صفوها.
وقد يقال هنا: لماذا نهاهم عن الوهن بما عرض لهم والحزن على ما فقدوا في " أحد "، وكل من الوهن والحزن كان قد وقع وهو أمر طبيعي في مثل الحال التي كانوا عليه؟ والجواب: أن المراد بالنهي ما يمكن أن يتعلق به الكسب من معالجة وجدان النفس بالعمل ولو تكلفا، كأنه يقول: انظروا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق وأحكموا أمرهم وأخذوا أهبتهم وأعدوا لكل أمر عدته ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته إلا وظفروا بما طلبوا، وعوضوا مما خسروا، فحولوا وجوهكم عن جهة ما خسرتم، وولوها جهة ما يستقبلكم، وانهضوا به بالعزيمة والحزم، مع التوكل على الله - عز وجل -، والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه وأن لكم خير عوض مما فقدتم، وأنتم الأعلون برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين - بدر وأحد - إذ الذين قتلوا منهم أكثر من الذين قتلوا منكم، على كثرتهم وقلتكم، أو جملة { وأنتم الأعلون } معترضة يراد بها التبشير بما يكون في المستقبل من النصر، وهما قولان للمفسرين وسواء كانت للتسلية أو للبشارة فهي مرتبطة بالإيمان الصحيح الذي لا شائبة فيه فإن من اخترق هذا الإيمان فؤاده وتمكن من سويدائه، يكون على يقين من العاقبة، بعد الثقة من مراعاة السنن العامة والأسباب المطردة ولذلك قال: { إن كنتم مؤمنين } ومثل هذا الشرط كثير في القرآن وهو ليس للشك، وإنما يراد به تنبيه المؤمن إلى حاله ومحاسبة نفسه على أعماله.
قال الأستاذ الإمام في الدرس:
"رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة " أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء بشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر، وأخذ الأهبة وغير ذلك من الأسباب والسنن.
ثم بين - تعالى - وجه جدارتهم بألا يهنوا ولا يحزنوا فقال: { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم " قرح " بضم القاف والباقون بفتحها، قال كثير من المفسرين: إن القرح بالفتح والضم واحد فهو كالضعف فيه اللغتان، ومعناه الجرح. وقال بعضهم: إن القرح بالفتح هو الجراح وبالضم أثرها وألمها. ورجح ابن جرير قراءة الفتح قال: " لإجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح، فذلك يدل على أن القراءة هي بالفتح، وكان بعض أهل العربية يزعم أن القرح والقرح لغتان بمعنى واحد، والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلناه " أي من أن القرح بالفتح يشمل الجرح والقتل ويؤيده أنه هو الذي حصل. وفي لسان العرب " القرح والقرح لغتان: عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسد.. وقيل: القرح الآثار والقرح الألم ".
أقول: وإذا كان الأصل فيه عض السلاح وتأثيره، فلا غرو أن يشمل القتل والجرح وابن جرير ثقة في نقله عن أهل العربية كنقله عن أهل العلم بالتفسير وغيره. ولكن ليس له أن يمنع كون القراءتين لغتين في هذا المعنى. ونقل الرازي أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد. و يمسسكم من المس قال ابن عباس: معناه يصبكم. قال الأستاذ الإمام: عبر بالمضارع بدل الماضي فلم يقل " إن مسكم قرح " ليحضر صورة المس في أذهان المخاطبين.
أقول: والمعنى إن يكن السلاح قد عضكم وعمل فيكم عمله يوم أحد فقد أصاب المشركين أيضا مثل ما أصابكم في ذلك اليوم أو في يوم بدر، واعترض على الأول بأن قرح المشركين يوم أحد لم يكن مثل قرح المؤمنين. وأجاب في الكشاف عن هذا فقال: بلى كان مثله ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار، ألا ترى إلى قوله:
{ { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } [آل عمران: 152] الآية - وستأتي، أقول: وهذا هو الذي اخترناه كما تقدم في ملخص القصة، أي إن المشركين قد أصيبوا بمثل ما أصيب به المؤمنون يوم أحد ولم يكونوا غالبين، وقال الأستاذ الإمام: إن اعتبار المساواة في المثل من التدقيق الفلسفي الذي لم تكن تقصده العرب في مثل هذه العبارة، وهذا القول صحيح على كل تقدير.
{ وتلك الأيام نداولها بين الناس } الأيام: جمع يوم وهو في أصل اللغة بمعنى الزمن والوقت، فالمراد بالأيام هنا أزمنة الظفر والفوز. ونداولها بينهم: نصرفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء فالمداولة بمعنى المعاورة، يقال: داولت الشيء بينهم فتداولوا، تكون الدولة فيه لهؤلاء مرة وهؤلاء مرة، ودالت الأيام دارت، والمعنى أن مداولة الأيام سنة من سنن الله في الاجتماع البشري، فلا غرو أن تكون الدولة مرة للمبطل ومرة للمحق. وإنما المضمون لصاحب الحق أن تكون العاقبة له، وإنما الأعمال بالخواتيم.
قال الأستاذ الإمام: هذه قاعدة كقاعدة { قد خلت من قبلكم سنن } أي هذه سنة من تلك السنن، وهي ظاهرة بين الناس بصرف النظر عن المحقين والمبطلين، والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس. فلا تكون الدولة لفريق دون أخر جزافا، وإنما تكون لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها. أي إذا علمتم أن ذلك سنة فعليكم ألا تهنوا وتضعفوا بما أصابكم لأنكم تعلمون أن الدولة تدول. والعبارة تومئ إلى شيء مطوي كان معلوما لهم، وهو أن لكل دولة سببا، فكأنه قال: إذا كانت المداولة منوطة بالأعمال التي تفضي إليها كالاجتماع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام. وفي الجملة من الإيجاز وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ما لا يعهد مثله في غير القرآن.
ثم قال - عز وجل -: { وليعلم الله الذين آمنوا } أي فعل ذلك ليقيم سنته في مداولة الأيام وليعلم الذين آمنوا من الذين نافقوا و
{ { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } [آل عمران: 167] أي يميزهم منهم. وقد تقدم ذكرهم في إجمال القصة وسيأتي ذكر لهم في الآيات، فهو معطوف على محذوف تذهب العقول في تعيينه كل مذهب، وتبحث عن حقيقته في كل فج، أو تلتمسه في فوائد قاعدة جعل الأيام دولا بين الناس، وعدم حصر الظفر والنصر في قوم دون قوم، فكل ما وجدته يصلح حكمة وعلة لهذه القاعدة عددته من المطوي المحذوف، وأعمه ما أشرنا إليه آنفا وهو أن يقال في التقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة، والباحث في الحكمة الإلهية البالغة، أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الذين آمنوا منكم؛ لأن الجهاد الاجتماعي الذي يدال به قوم على قوم مما يظهر ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
وقال في الكشاف: " فيه وجهان أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، بمعنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت منكم على الإيمان من غير الثابت، وإلا فإن الله - عز وجل - لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل معناه: ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات. والثاني أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه معناه وفعلنا ذلك (أي مداولة الأيام) ليكون كيت وكيت (أي من المصالح) وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه " اهـ. وجعل ابن جرير التقدير هكذا: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء يداولها بين الناس.
وقد تقدم مثل هذا التعبير في سورة البقرة ووجه الإشكال فيه، وقول الأستاذ الإمام: إن المراد بعلم الله فيه علم عباده وأنهم يفسرونه بعلم الظهور أي ليظهر علمه بذلك، وقال هنا موضحا قول الجمهور: إن المراد بالعلم علم الظهور، قالوا: إن العلم بالشيء على أنه سيقع ثابت في الأزل فإذا وقع ذلك الشيء حصل تغير في ذلك المعلوم فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهل تعلق العلم به عند الوقوع هو عين تعلقه به من الأزل إلى قبيل وقوعه؟ قال الحكماء: إن الزمن ليس بشيء بالنسبة إلى الله فليس هناك تقدم ولا تأخر ولا متقدم ولا متأخر، فتعلق العلم بالمعلوم واحد في الأزل والأبد. فعلى هذا القول يكون معنى وليعلم الله ليظهر علمه للناس بظهور المعلوم له، فهو كقوله:
{ { ليميز الله الخبيث من الطيب } [الأنفال: 37] أي يعلم الناس ذلك ويميزونه.
وأما جمهور المتكلمين فيقولون: إن الله - تعالى - يعلم كل شيء أزلا وأبدا، ولكن تعلق علمه بالأشياء على أنها ستقع غير تعلق علمه بها وهي واقعة، فذلك علم غير ظاهر فيه المعلوم في الوجود، وهذا علم ظهر متعلقه ووجد. والمراد بقوله: " وليعلم " الثاني. أقول: وكنت أقرر هذه المسألة من قبل على هذا الوجه وأعبر تارة بعلم الغيب وعلم الشهادة مفسرا علم الغيب بما لم يوجد فيه المعلوم وعلم الشهادة بما ظهر فيه المعلوم ووجد. وذكرت ذلك للأستاذ في الدرس، فقال: إنهم يريدون بعلم الغيب والشهادة معنى آخر وكنت عازما على مراجعته في ذلك بعد الدرس فنسيت. ثم قال: إن العبارة ظاهرة الصحة وإيهام تجدد العلم الإلهي مدفوع، ولكن ما النكتة في اختيار هذه العبارة وأمثالها كقوله في الآية التي بعد هذه الآية: { ولما يعلم الله الذين جاهدوا } ولم لم يبين المراد بعبارة لا إبهام فيها؟ قال ما نصه: " النكتة بيان أن العلم إذا لم يصدقه العمل لا يعتد به " وبيان ذلك أن الإنسان كثيرا ما يتصور الشيء ويحكم بصحته فيرى أنه يعتقده، ولكن إذا عرض العمل كذبه في اعتقاده وتبين أنه لم يكن متحققا به، وإنما كان صورة انطبعت في مخه مع الغفلة عما يعارضها من سائر عقائده المتمكنة التي لها سلطان على وجدانه وأثر في عمله وأخلاقه وعاداته التي تجري عليها أعماله، مثال ذلك أن بعض الناس تحدثه نفسه بأنه شجاع، ويعتقد ذلك لعدم وجود ما يعارضه في نفسه حتى إذا ما عرض له ما تظهر به حقيقة الشجاعة بالفعل من الحاجة إلى ركوب الخطر وخوض غمرات الموت دفاعا عن الحق أو الحقيقة جبن وجزع وظهر غروره بنفسه وانخداعه لوهمه، ومثله من تحدثه نفسه بأنه لقوة إيمانه عظيم الثقة بالله والتوكل عليه، حتى تظهر الحوادث والوقائع أنه هلوع إذا مسه الشر كان جزوعا، وإذا مسه الخير كان منوا، لا يثق بربه ولا بنفسه. فأراد - تعالى - أن يرشدنا بقوله: وليعلم إلى أن العلم لا يكون علما والإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا صدقهما العمل وظهر أثرهما بالفعل، فكأنه قال: ليتبين الذين آمنوا على طريق التمثيل.
أقول: وأظهر من هذا في تقرير هذا الوجه أن يقال: إن علم الله - تعالى - لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه - تعالى - هو الذي ليس له حقيقة ثابتة وكل ماله حقيقة ثابتة فلا بد أن يكون معلوما له - تعالى -، فيكون معنى { وليعلم الله الذين آمنوا } ليثبت ويتحقق بالفعل إيمان الذين آمنوا أو صدقهم في إيمانهم، فإنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة، فأطلق أحد المتلازمين وأراد به الآخر على طريق المجاز المرسل.
وأما قوله: { ويتخذ منكم شهداء } ففيه وجهان أحدهما: أنه من الشهادة في القتال وهي أن يقتل المؤمن في سبيل الله أي مدافعا عن الحق قاصدا إعلاء كلمته. والثاني: أنه من الشهادة على الناس بالمعنى الذي تقدم في قوله - عز وجل -:
{ لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143] والأول هو الذي يسبق إلى الذهن في هذا المقام، وإنما سمي هؤلاء المقتولون شهداء لأنهم يشاهدون بعد الموت من الملكوت ونعيمه ما لا يكون لغيرهم أو لأنهم ببذل أنفسهم في سبيل الله يكونون من الشهداء على الناس يوم القيامة بالمعنى المشار إليه آنفا، أو لأنه مشهود لهم بالجنة أو لأن الملائكة تشهد موتهم. أقول: وقوله: { والله لا يحب الظالمين } جملة معترضة مسوقة لبيان أن الشهداء يكونون ممن خلصوا لله وأخلصوا في إيمانهم وأعمالهم فلم يظلموا أنفسهم بمخالفة الأمر أو النهي، ولا بالخروج عن سنن الله في الخلق وأنه - تعالى - لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم، وفي ذلك بشارة للمتقين، وإنذار للمقصرين، فالناس قبل الابتلاء بالمحن والفتن يكونون سواء، فإذا ابتلوا تبين المخلص والصادق والظالم والمنافق وما أسهل ادعاء الإخلاص والصدق إذا كانت آياتهما مجهولة، فبيان السبب مؤدب للمقصرين وقاطع لألسنة المدعين، إلا أن يكونوا مع الأغنياء الجاهلين.
أقول: وفيه أيضا أن أعداءهم من المشركين لا يحبهم الله، أي لا يعاملهم معاملة المحب للمحبوب، لأنهم يظلمون أنفسهم ويسفهونها بعبادة المخلوقات واجتراح السيئات ويظلمون غيرهم بالفساد في الأرض والبغي على الناس وهضم حقوقهم، والظالم لا تدوم له سلطة، ولا تثبت له دولة، فإذا أصاب غرة من أهل الحق والعدل فكانت له دولة في حرب أو حكم، فإنما تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال والاضمحلال، وفيه تعريض أيضا بالمنافقين فإنهم أظلم الظالمين.
ثم قال - تعالى -: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } قال في الأساس: محص الشيء محصا ومحصه تمحيصا خلصه من كل عيب، ومحص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه، ثم قال: ومن المجاز محص الله التائب من الذنوب، ومحص قلبه وتمحصت ذنوبه وتمحصت الظلماء تكشفت قال:

حتى بدت قمراؤه وتمحصت ظلماؤه ورأى الطريق المبصر

أقول: وأصل المحق النقصان كما قال الراغب ومنه المحاق لآخر الشهر، وقال في الأساس: " محق الشيء محاه وذهب به.. وسمعتهم يقولون في كل شيء لا يحسن الإنسان عمله: قد محقه، ويقولون للهلكة: المحقة " قال بعض المفسرين: إن تمحيص المؤمنين عبارة عن تكفير ذنوبهم ومحو سيئاتهم، وعبر عنه بعضهم بالتطهير والتزكية. وروي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من السلف تفسير التمحيص بالابتلاء والاختبار. وكأنه بيان لمبدئه دون غايته. وقال بعضهم: يمحص الله بالمصائب ذنوب المؤمنين وبمحق نفوس الكافرين. ورد الأستاذ قول من قال: إن التمحيص تكفير الذنوب بأن المعهود من القرآن التعبير عن هذا المعنى بالتكفير، وأن للتمحيص هنا معنى آخر يتفق مع ما قاله بعض المفسرين في جملته لا في تصويره. وصوره هو بنحو ما يأتي:
كل إنسان يحكم لنفسه في نفسه بأمور كثيرة يصدقه فيها الحق الواقع أو يكذبه، فالمعتقد حقية الدين قد يتصور وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ليحفظ شرف دينه ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه خلاف ما كان يتصور (وتقدم الكلام في هذه المسألة آنفا). فالإنسان يلتبس عليه أمر نفسه فلا يتجلى كمال التجلي إلا بالتجارب الكثيرة والامتحان بالشدائد العظيمة، فالتجارب والشدائد كتمحيص الذهب يظهر به زيفه ونضاره. ثم إنها أيضا تنفي خبثه وزغله. كذلك كان الأمر في أحد: تميز المؤمنون الصادقون من المنافقين وتطهرت نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها فصارت تبرا خالصا، وهؤلاء هم الذين خالفوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطمعوا في الغنيمة، والذين انهزموا وولوا وهم مدبرون، محص الجميع بتلك الشدة فعلموا أن المسلم ما خلق ليلهو ويلعب، ولا ليكسل ويتواكل، ولا لينال الظفر والسيادة بخوارق العادات وتبديل سنن الله في المخلوقات بل خلق ليكون أكثر الناس جدا في العمل، وأشدهم محافظة على النواميس والسنن.
أقول: وقد تجلى أثر هذا التمحيص أكمل التجلي في غزوة حمراء الأسد إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يتبع المشركين إلا من شهد القتال بأحد، فامتثلوا الأمر بقلوب مطمئنة وعزائم شديدة وهم على ما هم عليه من تبريح الجراح بهم كما تقدم بيانه. فليعتبر بهذا مسلمو هذا الزمان وليعلموا ما هو مقدار حظهم من الإسلام والإيمان.
وأما محق الكافرين بالشدائد فليس معناه فناؤهم وهلاكهم، وإنما هو اليأس يسطو عليهم وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم لعدم الإيمان الذي يثبت قلوب أصحابه في الشدائد حتى يذهب ما كان قد بقي من نور الفضيلة في نفوسهم فلا تبقى لهم شجاعة ولا بأس ولا شيء من عزة النفس فيكون أحدهم كالهلال في المحاق لا نور له، بل يكون وجوده كالعدم؛ لأنه لا أثر له ولا فائدة فيه، فذلك محقه إذا غلب على أمره، وإذا هو انتصر طغى وتجبر وبغى وظلم، وذلك محق معنوي تكون عاقبته المحق الصوري، كذلك لا يثبت للكافرين المبطلين وجود مع المؤمنين الصادقين، وإنما يبقون ظاهرين إذا لم يظهر من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.