التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ
١٤٢
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
١٤٣
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ
١٤٤
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ
١٤٥
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ
١٤٦
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
١٤٧
فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٤٨
-آل عمران

تفسير المنار

الكلام متصل بما قبله، والخطاب فيه لمن شهد وقعة " أحد " من المؤمنين، فإنه - تعالى - أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يضعفوا أو يحزنوا، وبين لهم حكمة ما أصابهم وأنه منطبق على سنته في مداولة الأيام بين الناس وفي تمحيص أهل الحق بالشدائد، وفي ذلك من الهداية والإرشاد والتسلية ما يربي المؤمن على الصفات التي ينال بها الغلب والسيادة بالحق، ثم بين لهم هذا أن سعادة الآخرة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض سنة الله فيهما واحدة فقال: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } وهذه الآية كالآية (214) من سورة البقرة والمعنى على الطريقة التي اختارها الأستاذ الإمام هناك من أن (أم) للاستفهام المجرد أو للمعادلة أنه - تعالى - يقول للمؤمنين بعد ذلك التنبيه والإرشاد لسنته وحكمه فيما حصل المتضمن لللوم والعتاب في مثل: { إن كنتم مؤمنين } وقوله: { إن يمسسكم قرح } إلخ. هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم حسبتم كما يحسب أهل الغرور أن تدخلوا الجنة وأنتم إلى الآن لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن! والجنة إنما تنال بهما، ولا سبيل إلى دخولها بدونهما. لو قمتم بذلك لعلمه - تعالى - منكم وجازاكم عليه بالنصر والظفر في غزوتكم هذه، وكان ذلك آية على أنه سيجازيكم بالجنة في الآخرة.
وهذا المختار في معنى (أم) هو ما جرى عليه أبو مسلم الأصفهاني، فقد قال الإمام الرازي: " قال أبو مسلم في (أم حسبتم) إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله:
{ { الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [العنكبوت: 1 - 2] وافتتح الكلام بذكر (أم) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون: أزيدا ضربت أم عمرا؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما. قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال: ولا تهنوا ولا تحزنوا فكأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر؟ انتهى المراد منه ".
وقد جرينا في هذا على أن نفي العلم هنا بمعنى نفي المعلوم، كنفي اللازم وإرادة الملزوم وهو أحد الوجوه التي بيناها من قرب في تفسير: { وليعلم الله الذين آمنوا } وهو الذي جرى عليه الكشاف هنا وقال: " هو بمعنى لما تجاهدوا؛ لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه؛ لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيرا، يريد ما فيه خير حتى يعلمه. و لما بمعنى " لم " إلا أن فيها ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل ولما يفعل. تريد ولم يفعل وأنا أتوقع فعله " اهـ.
وقد اعترضه من لم يفهمه حق الفهم، وقد تقدم أن النكتة في إيثار ذكر العلم وإرادة المعلوم هي الإشعار بأن العلم إنما يكون علما صحيحا بظهور متعلقه بالفعل، وهاهنا نكتة أخرى في البال وهي أن التعبير عن نفي ذلك بنفي علم الله به عبارة عن دعوى مقرونة بالدليل والبرهان، كأنه قال: إن كلا من الجهاد والصبر اللذين هما وسيلة إلى دخول الجنة لما يقع منكم، أي لم يقع إلى الآن من مجموعكم أو أكثركم بحيث صار يعد من شأن الأمة، فلا ينافي ذلك وقوعه من بعض الأفراد الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يخالفوا ولم ينهزموا، إذ لو وقع لعلمه الله - تعالى - الذي لا يخفى عليه شيء، ولكنه لما يعلمه فهو لم يتحقق قطعا، ويؤيد تفسير الآية على هذا الوجه قوله - تعالى - في آية البقرة:
{ { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء } [البقرة: 214] إلخ. أي وإلى الآن لم تصلوا إلى حالهم ولم يصبكم مثل ما أصابهم، وقد كانت حالهم تلك مثلا في الشدة، ووجه التأييد أن المنفي هناك هو العمل والحال التي يستحقون بها الجنة.
ثم إن يوافق أحد الوجوه التي تقدمت في تفسير قوله: { وليعلم الله الذين آمنوا } من حيث إن المراد بالذوات وصفها، فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا - وهنا - ولما يعلم الله جهاد الذين جاهدوا وصبر الصابرين، أي واقعين ثابتين، ويصح أيضا أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز - كما تقدم هناك في وجه آخر - ويكون المعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة جميعا ولما يميز الله المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم.
والجهاد هنا أعم من الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته، قال الأستاذ الإمام: ربما يقول قائل: إن الآية تفيد أن من لم يجاهد ويصبر لا يدخل الجنة، مع أن الجهاد فرض كفاية. ونقول: نعم، إنه لا يدخل الجنة من لم يجاهد في سبيل الحق، ولكن الجهاد في الكتاب والسنة يستعملان بمعناهما اللغوي - وهو احتمال المشقة في مكافحة الشدائد - ومنه جهاد النفس الذي روي عن السلف التعبير عنه بالجهاد الأكبر، وذكر من أمثلة ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته لا سيما في سن الشباب، وجهاده بماله، وما يبتلى به المؤمن من مدافعة الباطل ونصرة الحق. وقال: إن لله في كل نعمة عليك وللناس عليك حقا، وأداء هذه الحقوق يشق على النفس فلا بد من جهادها ليسهل عليها أداؤها، وربما يفضل بعض جهاد النفس جهاد الأعداء في الحرب، فإن الإنسان إذا أراد أن يثبت فكرة صالحة في الناس أو يدعوهم إلى خيرهم من إقامة سنة أو مقاومة بدعة أو النهوض بمصلحة فإنه يجد أمامه من الناس من يقاومه ويؤذيه إيذاء قلما يصبر عليه أحد. وناهيك بالتصدي لإصلاح عقائد العامة وعاداتهم، وما الخاصة في ضلالهم إلا أصعب مراسا من العامة.
ومن مباحث اللفظ في الآية ما تقدم بيانه من معنى أم ولما، ومنها أن قوله: { ويعلم } منصوب بإضمار " أن " على أن الواو للجمع، كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن أكل السمك وشرب اللبن معا، فالتقدير في الآية على هذا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجمع بين الجهاد والصبر.
بعد ما بين - تعالى - للمؤمنين أن الفوز والظفر في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة لا يكونان بالأماني والغرور، ولا ينالان بالمحاباة والكيل الجزاف، بل بالجهاد ومكافحة الأيام ومصابرة الشدائد والأهوال، واتباع سنن الله في هذا العالم - وبعد ما بين لهم أن دعوى الإيمان ودعوى الجهاد والصبر لا يترتب عليهما الجزاء بالنصر ودخول الجنة، وإنما يترتب ذلك على تحققهما بحسب علم الله المطابق للواقع لا بحسب ظن الناس وشعورهم - بعد هذا وذاك أرشدهم إلى أمر واقع يظهر لهم به تأويل قوله - تعالى -: { وليعلم الله الذين آمنوا } وقوله: { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } إلخ. وطريق الجمع بينه وبين شعورهم واعتقادهم قبل ذلك أنهم لم يقصروا في الجهاد والصبر فيتعلمون كيف يحاسبون أنفسهم ولا يغترون بشعورهم وخواطرهم فقال:
{ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } الخطاب لجماعة المسلمين الذين شهدوا وقعة أحد، وقد ذكرنا في تلخيص القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى ألا يخرج للمشركين بل يستعد لمدافعتهم في المدينة، وكان على هذا الرأي جماعة من كبراء الصحابة، وبه صرح عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين وأن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ومناجزتهم هناك، وأن الشبان ومن لم يشهد بدرا كانوا يلحون في الخروج؛ لهذا قال مجاهد: إن هذه الآية عتاب لرجال غابوا عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولى منهم من ولى فعاتبهم الله، وروي نحو ذلك عن غيره منهم الربيع والسدي. وروي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون: لئن لقينا العدو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفعلن ولنفعلن، فابتلوا بذلك فلا والله ما كلهم صدق، فأنزل الله - عز وجل -: { ولقد كنتم تمنون الموت } فأطلق الحسن ولم يخص من لم يشهد بدرا وهو الصواب، فإن الذين كانوا يتمنون القتال كثيرون.
قلنا: إن هذه الآية أظهرت للمؤمنين تأويل قوله - تعالى - في إيمانهم وجهادهم وصبرهم، وعلمتهم كيف يحاسبون أنفسهم ويمتحنون قلوبهم؛ وبيان ذلك أنهم تمنوا القتال أو الموت في القتال لينالوا مرتبة الشهادة، وقد أثبت الله لهم هذا التمني وأكده بقوله: ولقد فلم يكن ذلك منهم دعوى قولية ولا صورة في الذهن خيالية بل كان حقيقة واقعة في النفس ولكنها زالت عند مجيء دور الفعل، وهذه مرتبة من مراتب النفس في شعورها وعرفانها هي دون مرتبة الكمال الذي يصدقه العمل، وفوق مرتبة التصور والتخيل مع الانصراف عن تمني العمل بمقتضاه أو مع كراهته والهرب منه - كما يتوهم بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ولكنه يهرب من كل طريق يخشى أن يطالب فيه بعمل يأتيه لأجلهما أو مال يعاون به العاملين لهما، أو يكون خالي الذهن من الفكر في العمل أو البذل لإعلاء شأن هذا المحبوب أو كف العدوان أو الشر عنه. فهاتان مرتبتان دون مرتبة من يتصور أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يتاح له ذلك، حتى إذا احتيج إلى خدمته التي كان يفكر فيها ويتمناها وجد من نفسه الضعف فأعرض عن العمل قبل الشروع أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته، وإنما المطلوب في الإيمان ما هو أعلى من هذه المرتبة، المطلوب فيه مرتبة اليقين والإذعان النفسي التي من مقتضاها العمل مهما كان شاقا، والجهاد مهما كان عسرا، والصبر على المكاره وإيثار الحق على الباطل، وقد تقدم في تفسير: { وليعلم الله } وتفسير: { وليمحص الله } من الآيتين السابقتين أمثلة تزيد المبحث وضوحا.
وقد كان في مجموع المخاطبين بالآية عند نزولها من هم في المرتبة العليا، وأولئك هم المجاهدون الصابرون الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبات الجبال لا ثبات الأبطال، وهم نحو ثلاثين رجلا، وقد ذكرنا أسماء بعضهم في تلخيص القصة، وإنما جعل الخطاب عاما ليكون تربية عامة؛ فإن أصحاب المراتب العلية يتهمون أنفسهم بالتقصير فيزدادون كمالا.
فهذه الآية تنبه كل مؤمن إلى الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي، وتهديه إلى امتحان نفسه بالعمل الشاق، وعدم الثقة بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة، بله الدعوى الباطلة، وإنما الخادعة أن تدعي ما تتوهم أنك صادق فيه مع الغفلة أو الجهل بعجزك عنه، والباطلة لا تخفى عليك، وإنما تظن أنها تخفى على سواك.
قد أشرنا إلى أن الظاهر من تمني الموت هو تمني الشهادة في سبيل الله، وقول بعضهم: إن المراد بالموت الحرب لأنها سببه، وعد بعضهم تمني الشهادة المأثور عن كثير من الصحابة مشكلا؛ لأنه يستلزم انتصار الكفار على المشركين، ولا إشكال إلا في مخ من اخترع هذه العبارة، فإن الذي يتمنى الشهادة في سبيل الله لا يلقي بنفسه إلى التهلكة ولا يقصر في الدفاع والصدام حتى يقال إنه مكن الأعداء منه ومهد لهم سبيل الظفر بالمؤمنين، وإنما يكون أقوى جهادا وأشد جلادا وأجدر بأن ينصر قومه ويخذل من يحاربهم، ثم إنه لا يقصد لازم الموت والشهادة من نقص عدد المسلمين أو ضعفهم؛ على أن هذا اللازم إنما يتبع استشهاد الكثير أو الأكثر منهم، ومن يتمنى الشهادة فإنما يتمناها لنفسه دون العدد الكثير من قومه.
وقال الأستاذ الإمام: إن تمني الشهادة الذي وقع ليس تمنيا مطلقا وإنما هو تمني من يقاتل لنصرة الحق أن تذهب نفسه دونه، فإذا هو وصل إلى ما يبغي من نصرة الحق وإعزازه بانهزام أهل الباطل وخذلانهم فبها ونعمت، وإلا فضل الموت في سبيل إعزاز الحق ورآه خيرا من البقاء مع إذلاله وغلبة الباطل عليه، وقال: إن الخطاب لمن يسبق لهم تمني الموت بعد أن فاتهم حضور وقعة بدر أو الشهادة فيها لبعض من حضرها، ثم جاءت وقعة أحد فكان منهم من انكسرت نفسه في أثناء الوقعة ووهن عزمه، ومنهم من وهن وضعف بعدها عندما ندبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع المشركين معه في حمراء الأسد. كأنه يقول: يا سبحان الله لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الحرب، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم؟ وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون؟ ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه فقوله: { وأنتم تنظرون } للتأكيد لأن الإنسان يرى الشيء أحيانا ولكنه لانشغاله عنه ربما لا يتبينه، فأراد أن يقول: إنكم قد رأيتموه رؤية كان لها الأثر الثابت في نفوسكم لا رؤية من قبيل لمح الشيء مع الغفلة عنه وعدم المبالاة به، قال: وقال بعض المفسرين: إن الجملة مستأنفة، أي أبصرتموه وأنتم الآن تنظرون وتتأملون فيما رأيتموه وتفكرون في علاقته بشئونكم، والذي يظهر هو صحة التأويل الأول يعني أنها مؤكدة.
أقول: وقد جرى صاحب الكشاف والبيضاوي وأبو السعود على أنها حالية، وأن معناه: رأيتم الموت ناظرين إلى وقوعه بكم، واغتياله لإخوانكم متوقعين أن يحل بكم ما حل بهم، قال جماعة وهو توبيخ لهم على تمنيهم الموت وإلحاحهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى الحرب، ونقول: إنه تذكير لمن انهزم وعصى منهم بأن ما سبق من تمنيهم الموت لم يكن عن رسوخ ويقين وتفضيل للشهادة ولقاء الله على الحياة، وإنما كان فيه شائبة من الغرور والزهو، وإرشاد توبيخي لهم ولأمثالهم إلى أن يحاسبوا أنفسهم ويطالبوها بالكمال الذي تأتي فيه الأعمال مصدقة لخواطر النفس وتمنياتها كما تقدم شرحه.
بعد هذا بين الله - تعالى - حكمة أخرى من أعظم الحكم المتعلقة بغزوة أحد وهي إشاعة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان من تأثيرها في المسلمين وما كان يجب أن يكون، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في القصة قبل الشروع في تفسير الآيات التي نزلت فيها فقال: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم }؟ إلخ.
تقدم أنه أشيع عندما فرق خالد جمع المسلمين في أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، وقال بعضهم في سبب ذلك: إن عمرو بن قميئة الحارثي لما رمي الرسول بالحجر فشج رأسه وكسر سنه أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب راية المسلمين يومئذ حتى قتل فظن أنه قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قتلت محمدا. فصرخ بها الصارخ حتى سمعها الكثير من المسلمين وفشت في الناس، فوهن أكثر المسلمين وضعفوا واستكانوا من شدة الحزن، وقال بعض الضعفاء: ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا من أبي سفيان أمانا، وقال قوم من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم، وفي رواية ابن جرير عن السدي: " وفشا في الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة - أي الذين فروا إلى الجبل فقاموا على صخرة منه - ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم " وقال أنس بن النضر ما يأتي عن قريب، وأما المؤمنون الصادقون الموقنون فمنهم من ثبت معه ومن كان بعيدا فرجع إليه، منهم أبو بكر وعلي وطلحة وأبو دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه فكان يقع عليه النبل وهو لا يتحرك.
قال ابن القيم في بيان حكم هذه الواقعة: هذه الآية كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أن توبيخ الذين ارتدوا على أعقابهم بهذه الآية قد ظهر أثره يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ارتد من ارتد على عقبيه وثبت الصادقون على دينه حتى كانت العاقبة لهم.
أقول: ولا ينافي هذه الحكمة كون الوقعة كانت قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - ببضع سنين - لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة - فإن توطين نفس الأمة الكبيرة على الشيء وإعدادها له لا يكون قبل وقوعه بيوم أو أيام أو شهور بل لا بد فيه من زمن يكفي لتعميمه فيها وصيرورته من الأمور المسلمة المشهورة عندها حتى لا يغيب عن الأذهان.
وحاصل المعنى أن محمدا ليس إلا بشرا رسولا قد خلت ومضت الرسل من قبله فماتوا وقد قتل بعض النبيين كزكريا ويحيى فلم يكن لأحد منهم الخلد وهو لا بد أن تحكم عليه سنة الله بالموت فيخلو كما خلوا من قبله، إذ لا بقاء إلا لله وحده، ولا ينبغي للمؤمن الموحد أن يعتقده لغيره، أفإن مات كما مات موسى وعيسى، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى تنقلبون على أعقابكم، أي تولون الدبر راجعين عما كان عليه، يهديهم الله بهذا إلى أن الرسول ليس مقصودا لذاته فيبقى للناس، وإنما المقصود من إرساله ما أرسل به من الهداية فيجب العمل بها من بعده، كما وجب في عهده، ولله در أنس بن النضر ورضي عنه فإنه في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، واشتد الكرب حتى بلغت القلوب الحناجر، وقال بعض الضعفاء والمنافقين ما قالوا، قد قال: " يا قوم إن محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء " ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل.
قال في الكشاف: " والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم به من أمر الجهاد وغيره، وقيل: الارتداد، وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قوم المنافقين، ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإسلامه " وقال الأستاذ الإمام: إن كلمة { انقلبتم على أعقابكم } من قبيل المثل تضرب لمن رجع عن الشيء بعد الإقبال عليه، والأحسن أن تكون عامة تشمل الارتداد عن الدين الذي جاهر بالدعوة إليه بعض المنافقين، والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحق، وهذا هو الصواب.
قال - تعالى -: { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } لأنه وعد بأن ينصر من ينصره ويعز دينه ويجعل كلمته هي العليا وهو منجز وعده لا يحول دون إنجازه ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم، فإنه يثبت المؤمنين ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص وبهم يقيم دينه؛ ولذلك قال: { وسيجزي الله الشاكرين } له نعمه عليهم بالقوى العقلية والجسدية وبالإيمان والهداية، القائمين بحقوقها في حياة رسوله وبعد موته على سواء، يأتون في كل وقت ما يمكن الإتيان به، لا يألون جهدا، ولا يقصرون في شيء عمدا، إذ لم يكن عملهم لوجه الرسول فيبطل إذا غيبه الموت عنهم، وإنما هو لوجه الله ذي الجلال والإكرام وهو لا يموت ولا يزول.
الأستاذ الإمام: في هذه الآية إرشاد لنا إلى ألا نجعل المصائب الشخصية دليلا على كون من تصيبه على باطل أو على حق، فإن من الجائز عقلا والواقع فعلا أن يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وأن يبتلى صاحب الباطل بالنعم والعطايا، كما أن عكس ذلك جائز وواقع، وتعلمنا أيضا ألا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود المعلم بحيث نتركهما بعد ذهابه أو موته، وإنما نعتمد على معرفتهما والتحقق بهما والسير على منهاجهما في حال وجود المعلم وبعده، فكأن الله - تعالى - يقول: عليكم أن تستضيئوا بالنور وتتقلدوا سيف البرهان اللذين جاءكم بهما محمد، وأما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فلا معنى إذا لتعليق إيمانكم بحياته أو سلامة بدنه مما يعرض له من حيث هو بشر مثلكم، خاضع لسنن الله كخضوعكم.
أقول: قد غفل عن هذا من أهمل هداية القرآن من المسلمين (جنسية لا إذعانا ومعرفة) فتراهم إذا ساء اعتقادهم في رجل - كأن خالف تقاليدهم أو أنكر عليهم أهواءهم - يتربصون به الدوائر فإذا أصابته مصيبة زعموا أن الله - تعالى - قد انتقم منه حبا لهم وبغضا فيه! فإن كان مع ذلك متهما بالإنكار على من يعتقدون صلاحهم وولايتهم، قالوا إنهم قد تصرفوا فيه!! ويغفلون عما أصاب النبي في أحد وما أصاب كثيرا من الأنبياء قبله، بل يعمون عما يصيب معتقديهم وأولياءهم في عهدهم. لما حبس الأستاذ الإمام في عاقبة الثورة العرابية قال بعض هؤلاء المغرورين: إنه حبس كرامة للشيخ عليش لأنه - أي الشيخ عليش - كان يكرهه، فبلغه ذلك وكان الشيخ عليش محبوسا أيضا فقال: لماذا أكون حبست كرامة له ولم يكن هو الذي حبس كرامة لي؛ لأنه أساء بي الظن وقال السوء لتصديقه في الوشاة النمامين وأنا لم أقل فيه شيئا؟ السبب في حبس كل منا واحد، فلماذا كان كرامة لواحد وانتقاما من الآخر؟
ولا يخفى على المؤمن العارف أن هذا الاعتقاد يعارض التوحيد الخالص؛ ولذلك كان من المقاصد في الآية والحكم في سببها تقرير التوحيد ببيان أن الأنبياء والرسل كسائر البشر في الخضوع لسنن الله ونظام خلقه.
قال الأستاذ الإمام في بيان مزايا الإسلام من رسالة التوحيد ما نصه:
" ثم أماط (أي الإسلام) اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمة، والمصائب التي يرزءون به، ففصل بين الأمرين فصلا لا مجال معه للخلط بينهما، فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين أو الفقر والضعة والضعف والفقد ربما لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان، كثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة أو الفجرة الفسقة وترك لهم متاع الحياة الدنيا إنظارا لهم حتى يتلقاهم ما أعد من العذاب المقيم في الحياة الأخرى وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقولهم:
{ إنا لله وإنا إليه راجعون } [البقرة: 156] فلا غضب زيد ولا رضا عمرو ولا إخلاص سريرة ولا فساد عمل مما يكون له في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن وضياع السلطان بالظلم، وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر.
" أما شأن الأمم فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية من تصحيح الفكر وتسديد النظرة وتأديب الأهواء وتحديد مطامح الشهوات، والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل - ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } [آل عمران: 145] ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها، يزيد الله النعم بقوته، وينقصها بضعفه حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره، وغير الله عزة القوم بالذلة، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون
{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } [الإسراء: 16]، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجئوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة برسل الفكر والذكر والصبر والشكر { { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } [الأحزاب: 62] وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه: " اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة " على هذه السنن جرى سلف الأمة، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجلية كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه ماض في غلوائه، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا اهـ.
أقول: وفي هذه الآية من الهداية والإرشاد أيضا أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب وعدمه متعلقا بوجود القائد بحيث إذا قتل ينهزم الجيش أو يستسلم للأعداء، بل يجب أن تكون الأعمال والمصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء، وهذا ما عليه نظام الحروب والحكومات في هذا العصر، وقد كان أكثر الناس في العصور القديمة تبعا لرؤسائهم يحيون لحياتهم ويخذلون بموتهم، حتى إنهم يرون أن وجود الجيش العظيم بعد فقد القائد كالعدم.
إن الأمة التي تقدر هذه الهداية حق قدرها تعد لكل علم تحتاج إليه ولكل عمل تقوم مصالحها به رجالا كثيرين، فلا تفقد معلما ولا مرشدا ولا حاكما ولا قائدا ولا رئيسا ولا زعيما إلا ويوجد فيها من يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه، فهي لا تحصر الاستعداد لشيء من الأشياء في فرد من الأفراد، ولا تقصر القيام بأمر من الأمور على نابغ واحد من النابغين، ولا يتجرأ فيها حاكم ولا زعيم على احتكار علم من العلوم أو عمل من الأعمال، بل تتسابق فيها الهمم إلى الاستعداد لكل شيء يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال منه العامل بقدر همته وسعيه وتأييد التوفيق له، فأين نحن معاشر المسلمين من هذه الهداية اليوم؟.
بعد هذه القاعدة - قاعدة الاعتماد على التحقق بالعلوم والنهوض بالأعمال دون الاتكال على أفراد الرجال - هدانا الله جل شأنه إلى قاعدتين أخريين فقال: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } الآية. قال الأستاذ الإمام ما مثاله: تلك قضية وهذه قضية أخرى، ووجه الاتصال بينهما أن المراد بتلك لوم المؤمنين على ما وقع منهم إذ بلغهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد بهذه بيان أنه لو قتل لما كان قتله إلا بإذن الله ومشيئته، فهو توبيخ لمن اندهش من خبر موته كأنهم بسبب زلزالهم وزعزعة عقائدهم قد جعلوا موته جناية منه، فأذاقهم - تعالى - بهذه العبارة مرارة خطئهم وأراهم بها قبح جهلهم؛ كأنه يقول: إن محمدا يدعوكم إلى الله - أي لا إلى نفسه - فلو كان هذا الموت يقع بدون إذن الله لكان الانقلاب صوابا، ولكن إذا كان هذا الموت لا يقع إلا بإذنه - تعالى - إذ ليس لأحد في العالم سلطان يقهره ويوقع في ملكه شيئا بالكره منه، فلا معنى لزلزلة ثقتكم عن المضي فيما كنتم عليه مع النبي في حياته؛ لأن الله لم يزل حيا باقيا عليما حكيما.
قال: وفي الآية معنى آخر، وهو أنه مادام محيانا ومماتنا بيد الله فلا محل للجبن والخوف، ولا عذر في الوهن والضعف، وفيها تأكيد لما تقدم بيانه في الآية التي قبلها، وهو أن الموت لا يدل على بطلان ما كان عليه من يموت ولا على حقيته، وذكر أن صاحب الكشاف جعل الجملة تمثيلا، فنذكر عبارته في حلها قال:
" المعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفسا إلا بإذن الله. وهو على معنيين: (أحدهما) تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك. (الثاني) ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل " انتهى قول الكشاف.
وقال أبو السعود: " في الجملة كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله - عليه الصلاة والسلام - ببيان أن موت كل نفس منوط بمشيئة الله - إلى أن قال في قوله: { إلا بإذن الله } - استثناء مفرغ من أعم الأسباب، أي وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى، وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التي لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى، أو بتنزيل إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرام; فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى " اهـ.
أقول: وقد بين صاحب الكشاف في غير هذا الموضع أن النفي في مثل هذا التعبير للشأن لا لمجرد الفعل، وهو يفسر مثل " ما كان الله ليفعل كذا " بنحو قوله: ما صح منه وما استقام له، أي ليس ذلك من شأنه الصحيح المعهود ولا من سننه المستقيمة المطردة، ولكنه (أي صاحب الكشاف) لم يبين ذلك بقاعدة واضحة يجري عليها بتعبير يؤدي المعنى بذاته في كل موضع. وأوضح ما يقال في هذه التعبيرات وأصحه: أنه بيان لكون هذا المنفي ليس من شأن الله ولا من سننه في خلقه، فمعنى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه ومشيئته التي يجري بها نظام الحياة وارتباط الأسباب فيها بالمسببات، وسيأتي مثل هذا التعبير في آيات أخرى من هذا السياق فتؤكد أن هذا هو المعنى العام في مثلها.
وأما قوله: { كتابا مؤجلا } فهو مؤكد لمضمون ما قبله، أي كتبه الله كتابا مؤجلا، أي أثبته مقرونا بأجل معين لا يتغير: ومؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، فالمؤجل ذو الأجل، والأجل المدة المضروبة للشيء قال - تعالى -:
{ { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } [الأنعام: 128] ومنه الدين المؤجل الذي ضرب له أجل، أي مدة يؤدى في نهايتها، وقد يتوهم بعض أصحاب العقول المقيدة، والأفهام الضيقة، أن كون الموت مؤجلا بأجل محدود في علم الله ينافي كونه بأسباب تجري على سنن الله؛ وليس لهذا التوهم أدنى شبهة من العقل فيرد بالدلائل النظرية، ولا من الوجود فيفسر بالسنن الاجتماعية، إلا أن كون الموت لا يكون إلا بالأجل أظهر من كونه لا يكون إلا مقرونا بالسبب، فإن الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب والتعرض لعدوى الأمراض، والتصدي لأفاعيل الطبيعة، ثم قد يسلم في الحرب الشجاع المقدم، ويقتل الجبان المخلف. ويفتك المرض بالشاب القوي، من حيث تعدو عدواه الغلام القميء، وتغتال فواعل الحر والبرد الكهل المستوي، وتتجاوز عن الشيخ الضعيف، ولكل عمر أجل ولكل أجل قدر، والأقدار هي السنن التي بها يقوم النظام، والحكم فيها مرتبطة بالأحكام، وإن خفي بعضها على بعض الأفهام.
هذه هي القاعدة الأولى في الآية. وأما الثانية فهي قوله - تعالى -: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منه }ا وإننا نذكر في تفسير العبارة صفوة ما قالوه ثم نبين القاعدة. قالوا: إنها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه. وإن معناها أن من قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها. وصرح الرازي بأنها في معنى حديث:
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" " الحديث المشهور.
وقال الأستاذ الإمام: هذه قضية أخرى وفيها وجهان: (الوجه الأول) أنها رد لاستدلال من استدل بما حل بالمسلمين على أن ما هم عليه غير الحق، فهي من هذا الوجه فرع من فروع قوله:
{ { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137] فهو يقول: إن لنيل ثواب الدنيا سننا ولنيل ثواب الآخرة سننا، فمن سار على سنن واحدة منهما وصل إليها؛ فإذا كان المشركون قد استظهروا على المسلمين في هذه المرة فلأنهم طلبوا بعملهم الدنيا وأخذوا له أهبته من حيث قد قصر المسلمون في اتباع السنن في ذلك بمخالفة الرسول كما تقدم. (والوجه الثاني) أنه يقول لأولئك الذين ضعفوا وفشلوا وانقلبوا على أعقابهم: ما الذي تريدونه بعملكم هذا؟ إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك، وما عليكم إلا أن تسلكوا طريقه، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا والمعول فيه على ما في الآخرة. فالمسألة معكم بين أمرين: إرادة الدنيا وإرادة الآخرة، كل يريد أمرا ولكل أمر سنن تتبع، ولكل دار طريق تسلك.
أقول: وسيأتي في هذا السياق قوله - تعالى -: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وهو يؤيد الوجه الثاني مما أورده الأستاذ الإمام وفي معناه قوله - تعالى -:
{ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من } [الشورى: 20]. وقد تقدم لهذا البحث نظير في تفسير قوله - تعالى -: { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } [البقرة: 200] إلخ. وفيه بيان أن من يطلب الدنيا وحدها ولا يعمل للآخرة عملها فليس له في الآخرة من خلاق، وأن من هدي الإسلام أن يطلب المرء خير الدنيا وخير الآخرة ويقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة فالإنسان يطلب ويريد بحسب سعة معرفته، وعلو همته، ودرجة إيمانه، وله ما يريد كله أو بعضه بحسب سنن الله وتدبيره لنظام هذه الحياة.
وفي سورة الإسراء تفصيل وتقييد في هذه المسألة قال - تعالى -:
{ { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } [الإسراء: 18 - 21]، ولا تنسين التقاليد الشائعة قارئ هذه الآيات عن سنن الله التي أثبتها في كتابه، فيظن أن عطاءه - تعالى - وتفضيله لبعض الناس على بعض يكون جزافا، بل الإرادة تجرى على السنن التي اقتضتها الحكمة { وكل شيء عنده بمقدار } [الرعد: 8] ولإرادة الإنسان دخل في تلك السنن والمقادير؛ ولذلك قال: { من كان يريد } { ومن أراد } فاعرف قيمة إرادتك واعرف قبل ذلك قيمة نفسك، فلا تجعلها كنفوس الحشرات التي تعيش زمنا محدودا، ثم تفنى كأن لم تكن شيئا مذكورا.
إنك قد خلقت للبقاء ولك في الوجود طوران: طور عاجل قصير وهو طور الحياة الدنيا، وطور آجل أبدي وهو طور الحياة الآخرة، وسعادتك في كل من الطورين تابعة لإرادتك وما توجهك إليه من العمل في حياتك، فأعمال الناس متشابهة، ومشقتهم فيها متقاربة، وإنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد؛ لأنها هي التي تكون تارة علة وتارة معلولا لطهارة الروح وعلو النفس وسمو العقل ورقة الوجدان، وهي هي المزايا التي يفضل بها إنسان على إنسان.
يحارب قوم حبا في الربح والكسب، أو ضراوة بالقتل والفتك؛ فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل، ويحارب آخرون دفاعا عن الحق، وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فهل يستوي الفريقان، إذا استوى في البداية العملان! وهما في القصد والإرادة متباينان؟
يكسب الرجل طلبا لللذات، وحبا في الشهوات، فيغلو في الطمع، ويوغل في الحيل، ويأكل الربا أضعافا مضاعفة، حتى يجمع القناطير المقنطرة، فإذا هو يمنع الماعون، ويدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ولهو إذا سئل البذل في المصالح العامة أشد بخلا، وأكز يدا وأقبض كفا، ويكسب الرجل طلبا للتجمل في معيشته وحبا للكرامة في قومه وعشيرته، فيجمل في الطلب، ويتحرى الحلال من الربح، ويلتزم الصدق والأمانة، ويتوقى الغش والخيانة، ثم هو ينفق من سعته فيواسي البائس الفقير. ويعين العاجز والضعيف، وتكون له اليد في بناء المدارس والمعابد والمستشفيات والملاجئ، فهل يستوي الرجلان وهما في الثروة سيان؟ وفي ظاهرة العمل متشابهان أن يفضل أحدهما الآخر بحسن الإرادة؟
الإرادة تصغر الكبير وتكبر الصغير. وترفع الوضيع وتضع الرفيع، وبها تتسع دائرة وجود الشخص حتى تحيط بكرة الأرض، بل تكون أكبر من ذلك بما يتبوأ من منازل الكرامة في عالم المعقول والأرواح، وإذا كان يريد بعمله دار البقاء فإن وجوده يكون كبيرا بحسب كبر إرادته وواسعا بسعة مقصده؛ وبذلك تعلو نفسه على نفوس من أخلدوا إلى الشهوات وكأن حظهم من علمهم كحظ الحشرات وغيرها من الحيوانات: أكل وشرب وسفاد وبغي من القوي على الضعيف.
قس على هذا وجود من يريد بعمله القرب من الله والتخلق بأخلاقه والتحقق بتجليات أسمائه وصفاته، القرب من الواسع العليم، الخلاق الحكيم، الرحمن الرحيم بسعة القلب، وبسطة العلم، وإقامة النظام والحكمة، ونصب ميزان العدل وبسط بساط الرحمة، ألا تراه يكون أشرف وجود بشري وأعلاه بحسب إرادته وسنن الله؟
لست بهذا الرمز إلى مكانة إرادة البر من تصريف أعمالهم وتوجيهها إلى سعادتهم أو شقائهم بخارج عن موضوع تفسير الآية الكريمة؛ فإن رب العزة قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم ولا يقدر هذا حق قدره إلا قليل منهم، فهم في حاجة إلى مثل هذا التذكير بل إلى أكثر منه.
إذا فقهت معنى قوله: { وسيجزي الله الشاكرين } أي الذين يعرفون نعمة الله عليهم بقوة الإرادة ويستعملونها فيما يعرج بهم إلى مستوى الكمال، فتكون أعمالهم صالحة رافعة لنفوسهم ونافعة لغيرهم. وأبهم هذا الجزاء لتعظيم شأنه.
قال الأستاذ الإمام: كأنس بن النضر وأمثاله الذي جاهدوا وصبروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظهم قوة إراداتهم، فكانوا السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين. وخصهم بالذكر الذي يعينه الوصف تنويها بهم ووعدا لهم بالجزاء، وهو من التفصيل لإجمال من يريد الآخرة.
ثم إنه بعد هذا البيان المنبه لهم إلى استعدادهم ضرب لهم هذا المثل في غيرهم كما ضرب لهم المثل قبل ذلك في أنفسهم بتمنيهم الموت فقال: { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } "كأين" بمعنى " كم " الخبرية، ومعناها أن ما دخلت عليه كثير، وفيها لغتان فصيحتان مشهورتان " كائن " بوزن فاعل مبنية على السكون، وبها قرأ ابن كثير، و " كأين " بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة وسكون النون - التي قالوا: إن أصلها التنوين أثبت له صورة في الخط كما ينطق به في هذه الكلمة الخاصة - وبها قرأ الباقون. وقالوا: إن أصلها " أي " الاستفهامية دخلت عليها كاف التشبيه فصارت كلمة مستقلة لا معنى فيها للتشبيه ولا للاستفهام. والربيون قال في الكشاف: هم الربانيون " وقرئ بالحركات الثلاث، فالفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النسب " وقد تقدم ذكر الربانيين في آية 79 من هذه السورة، وهو جمع رباني نسبة إلى الرب، وزيادة الألف والنون فيها كزيادتها في جسماني. وقيل غير ذلك، وقول الكشاف " من تغييرات النسب " معناه: أن العرب قد تغير الاسم المنسوب، كما قالوا في النسبة إلى البصرة بصري بكسر الباء، وإلى الدهر دهري بضم الدال. وقال الفراء: الربيون الأولون. وقال الزجاج: هم الجماعات الكثيرة وأحدها ربي، قال ابن قتيبة: أصله من الربة وهي الجماعة، ويروى مثله عن ابن عباس. وقال ابن زيد: الربانيون الأئمة والولاة، والربيون الرعية وهم المنتسبون إلى الرب، والأول هو الظاهر المختار، وتقدم معنى الوهن والضعف. والاستكانة: ضرب من الخضوع هو عبارة عن سكون الإنسان لخصمه ليفعل به ما يريد.
والمعنى: أن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير من المؤمنين بهم المنتسبين إلى الرب تعالى في وجهة قلوبهم وفي أعمالهم، المعتقدين أن النبيين والمرسلين هداة ومعلمون لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله أي ما ضعف مجموعهم بما أصاب بعضهم من الجرح وبعضهم من القتل، وإن كان المقتول هو النبي نفسه؛ لأنهم يقاتلون في سبيل الله وهو ربهم لا في سبيل شخص نبيهم، وإنما حظهم من نبيهم تبليغه عن ربهم وبيانه لهدايته وأحكامه
{ { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } [الكهف: 56] وما ضعفوا عن جهادهم ولا استكانوا ولا ولوا بالانقلاب على أعقابهم، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حياته؛ لأن علة الثبات في الحالين واحدة، وهي كون الجهاد في سبيل الله، أي في الطريق التي يرضاها الله كحفظ الحق وحمايته وتقرير العدل وإقامته، وما يتبع ذلك ويلزمه.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " قتل معه "؛ ولذلك رسمت الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف لتوافق القراءتين، أي استشهدوا في القتال معه أو قتلوا كما قتل هو، وزعم بعضهم أنه لم يقتل نبي في الحرب، وهو نفي غير مسلم لا سيما في النبيين غير المرسلين، ومن ذا يتجرأ على الإحاطة بالرسل علما والله يقول لنبيه:
{ { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك } [النساء: 164] ومن التفسير المأثور قول قتادة: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم، وما استكانوا أي ما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم. وقال ابن إسحاق: فما وهنوا لقتل النبي وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله للناس وعن دينهم، وذلك هو الصبر { والله يحب الصابرين } اهـ. وقد تقدم معنى حب الله للناس في أوائل هذه السورة.
أي وإذا كان يحب الصابرين أمثالهم فعليكم أن تعتبروا بحالهم، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة؛ ولذلك هديتم إلى السنن وأمرتم بمعرفة عاقبة من سبقكم من الأمم، فاقتدوا بعمل الصادقين الصابرين، وقولوا مثل قول أولئك الربيين:
{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } أي ما كان لهم من قول في تلك الحال التي اعتصموا فيها بالصبر والثبات، وعزة النفس، وشدة البأس إلا ذلك القول المنبئ عن قوة إيمانهم، وصدق إرادتهم، وهو الدعاء بأن يغفر الله لهم بجهادهم ما كانوا ألموا به من الذنوب والتقصير في إقامة السنن، أو الوقوف عند ما حددته الشرائع، { وإسرافنا في أمرنا } بالغلو فيه، وتجاوز الحدود التي حددتها السنن له { وثبت أقدامنا } على الصراط المستقيم الذي هديتنا إليه حتى لا تزحزحنا عنه الفتن، وفي موقف القتال، حتى لا يعرونا الفشل: { وانصرنا على القوم الكافرين } بك، الجاحدين لآياتك، المعتدين على أهل دينك، فلا يشكرون لك نعمك بالتوحيد والتنزيه، ولا بفعل المعروف وترك المنكر، ولا يمكنون أهل الحق من إقامة ميزان القسط، فإن النصر بيدك، تؤتيه من تشاء بمقتضى سننك، ومنها أن الذنوب والإسراف في الأمور من أسباب البلاء والخذلان، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح؛ ولذلك سألوا الله أن يمحو من نفوسهم أثر كل ذنب وإسراف، وأن يوفقهم إلى دوام الثبات، ولا شك أن الدعاء والتوجه إلى الله - تعالى - في مثل هذه الحال مما يزيد المؤمن المجاهد قوة وعزيمة ومصابرة للشدائد؛ ولذلك يعترف علماء النفس والأخلاق بأن المؤمنين أشد صبرا وثباتا في القتال من الجاحدين كما تقدم في تفسير
{ { ولما برزوا لجالوت } [البقرة: 250] الآية.
{ فآتاهم الله ثواب الدنيا } بالنصر والظفر بالعدو، والسيادة في الأرض، وما يتبع ذلك من الكرامة والعزة، وحسن الأحدوثة وشرف الذكر { وحسن ثواب الآخرة } بنيل رضوان الله وقربه، والنعيم بدار كرامته، وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر - كما ورد في الخبر - أخذا من قوله - تعالى -:
{ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17] وما آتاهم ذلك إلا بحسن إرادتهم، وما كان لها من حسن الأثر في نفوسهم وأعمالهم، إذا أتوا البيوت من أبوابها، ولبوا المقاصد بأسبابها والله يحب المحسنين لأنهم خلفاؤه في الأرض يقيمون سنته، ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم حكمته، فيكون عملهم لله بالله كما ورد في صفة العبد الذي يحبه الله "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" " أي إن مشاعره وأعماله لا تكون مشغولة إلا بما يرضي الله ويقيم سننه ويظهر حكمه في خلقه.
وإنما جمع لهم بين ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة؛ لأنهم أرادوا بعملهم سعادة الدنيا والآخرة، وإنما الجزاء على حسن الإرادة، وهذا هو شأن المؤمن كما تقدم آنفا (ص138) وهو حجة على الغالين في الزهد، وخص ثواب الآخرة بالحسن للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عند الله تعالى، كذا قالوا. وقال الأستاذ الإمام: ثواب هؤلاء حسن على كل حال، ولكن ذكر الحسن في ثواب الآخرة مزيد في تعظيم أمره، وتنبيه على أنه ثواب لا يشوبه أذى،؟ فليس مثل ثواب الدنيا عرضة للشوائب والمنغصات، ولا يعترض على ما أثبتته الآية بمثل وقعتي الرجيع وبئر معونة من حيث إن من قتلوا هنالك لم يؤتوا ثواب الدنيا؛ فإن إيثار ثواب الدنيا مشروط باتباع السنن والأخذ بالأسباب، وفي وقعة الرجيع قد اختلفوا في النزول على حكم المشركين، فكان ذلك تقصيرا منهم، وفي وقعة بئر معونة قد قصروا في الاحتياط إذ أمنوا لمن لا يصح أن يؤمن لهم، فكان ذلك جزاء التقصير وموعظة للمؤمنين ليكونوا دائما حذرين محتاطين غير مقصرين ولا مسرفين.
وقد صرح بما اتفق عليه المفسرون من كون الآيات تأديبا للمؤمنين وتوبيخا لمن فرط منهم ما فرط، والأمر ظاهر كالشمس في الضحى أو أشد ظهورا.