التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ
١٥٩
إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٦٠
-آل عمران

تفسير المنار

الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بمعاملتهم يقول لنبيه: { فبما رحمة من الله لنت لهم } قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح: الفاء للتعقيب لأن الكلام في وقعة خالف النبي فيها بعض أصحابه، فكان لذلك من الفشل وظهور المشركين ما كان حتى أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع من أصيب، فكان من لينه في معاملتهم ومخاطبتهم ومن رحمته بهم أن صبر وتجلد فلم يتشدد في عتب ولا توبيخ اهتداء بكتاب الله - تعالى -، فقد أنزل الله عليه آيات كثيرة في الوقعة بين فيها ما كان من ضعف في المسلمين وعصيان وتقصير حتى ما كان متعلقا بالظنون الفكرية والهموم النفسية، ولكن مع العتب اللطيف المقرون بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة وفوائد المصائب، وقد كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن كما ورد في الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
أقول: كأنه يقول: إنه كان من أصحابك يا محمد ما كان، كما دلت عليه الآيات وهو مما يؤاخذون عليه فلنت لهم وعاملتهم بالحسنى، وإنما لنت لهم بسبب رحمة عظيمة أنزلها الله على قلبك وخصك بها فعمت الناس فوائدها، وجعل القرآن ممدا لها بما هداك إليه من الآداب العالية والحكم السامية التي هونت عليك المصائب وعلمتك منافعها وحكمها وحسن عواقبها للمعتبر بها { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } لأن الفظاظة هي الشراسة والخشونة في المعاشرة، وهي القسوة والغلظة، وهما من الأخلاق المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرقون ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه، والتحلق حواليه، وإذا لفاتهم هدايتك، ولم يبلغ قلوبهم دعوتك.
{ فاعف عنهم واستغفر لهم } فلا تؤاخذهم على ما فرطوا واسأل الله - تعالى - أن يغفر لهم ولا يؤاخذهم أيضا، فبذلك تكون محافظا على تلك الرحمة التي خصك الله بها، ومداوما لتلك السيرة الحسنة، التي هداك الله إليها { وشاورهم في الأمر } العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الوقعة (غزوة أحد) وإن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر. قال الأستاذ الإمام: ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أمر الله - تعالى - نبيه أن يقرر سنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل، فكان - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه بغاية اللطف ويصغي إلى كل قول ويرجع عن رأيه إلى رأيهم، وليس عندي عن الأستاذ في هذه المسألة غير هذا.
وأقول: الأمر المعرف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية في سورة الشورى المكية، وهي قوله - تعالى - في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين
{ وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38] فالمراد بالأمر أمر الأمة الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة؛ لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي، إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد والعبادات والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من وضع البشر، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده. وقد روي "أن الصحابة - عليهم الرضوان - كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل الدنيا إلا بعد العلم بأنه قاله عن رأي لا عن وحي كما فعلوا يوم بدر، إذ جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أدنى ماء من بدر فنزل عنده فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه إلخ. ما قال. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد أشرت بالرأي" وعمل برأيه.
أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الركن (الشورى) في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة، فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه، ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها، فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب، فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون ثم الأنصار بالموافقة. واستشارهم جميعا يوم أحد أيضا كما تقدم. وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر من أمور الأمة إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه فينفذه حتما، ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الأماكن البعيدة عن المدينة. وكان في كل قبيلة أو قرية من أولئك المسلمين رجال من أهل المكانة والرأي يمكن أن يقال: إنه قد احتيج إلى وضع قاعدة أو نظام للشورى يبين فيه طرق اشتراك أولئك البعداء عن مكان السلطة العليا فيها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع هذه القاعدة أو النظام لحكم وأسباب:
منها: أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان، وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجا. وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد وأن الله سيفتح لأمته الممالك، ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك. فكل هذا كان مانعا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعده من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي العصر الذي يتلو عصره إذ تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الإسلام أو في سلطان الإسلام، إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم أن يترك - صلى الله عليه وسلم - وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى.
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين، ولذلك قال الصحابة في اختيار أبي بكر حاكما: رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فإن قيل: كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف فيها عند الحاجة بالنسخ والتغيير والتبديل نقول: إن الناس قد اتخذوا كلامه - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أمور الدنيا دينا مع قوله:
" "أنتم أعلم بأمر دنياكم " رواه مسلم. وقوله: " "ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به" رواه أحمد. وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل، وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة والخاصة في مثل ذلك يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة وإن أجاز لها تغييره، بل يقولون: إنه أجاز ذلك تواضعا منه وتهذيبا لنا حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا، ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال. وقريب مما نحن فيه تقديم الإمام أحمد -رحمه الله تعالى - العمل بالحديث الضعيف والمرسل على القياس وتعليله بما علله به.
ومنها: أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه - صلى الله عليه وسلم - لكان غير عامل بالشورى، وذلك محال في حقه لأنه معصوم من مخالفة أمر الله، ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفا لرأيه - صلى الله عليه وسلم -، فهل يرضى - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم - كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح - في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها؟ أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم؟
بلى، وقد تبين كنه ذلك الاستعداد بعد ذلك وأنه كان غير كاف لوضع قانون كافل لقيام المصلحة، ولذلك بادر عمر إلى مبايعة أبي بكر (رضي الله عنهما) خوف الخلاف المهلك للأمة؛ وصرح بعد ذلك بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها لا يجوز العود إلى مثلها، وكذلك استشار أبو بكر كبراء الصحابة في العهد إلى عمر، فلما علم رضاهم عهد إليه حتى لا يكون للتفرق والخلاف مجال كما يأتي قريبا. ولو كان الصديق - رضي الله عنه - يعتقد أن الأمة مستعدة لإقامة الشورى على وجهها مع الأمن من التفرق والخلاف، لترك لها الأمر، ولم يحاول جمع كلمة أولي الأمر منها في حياته على من يراه هو الأصلح حتى يموت آمنا عليها من تفرق الكلمة.
يقول قوم: إن بيعة عمر كانت بالعهد لا بالشورى التي هي الأساس للحكومة الإسلامية بنص الكتاب العزيز، وهذا العهد رأي صحابي لا يصح أن يكون ناسخا للقرآن ولا مخصصا ولا مقيدا له، فكيف عمل به جمهور الصحابة واتخذه الفقهاء قاعدة شرعية؟ إذا أورد هذا السؤال شيعي أو غير شيعي من الباحثين المستقلين على أحد المشتغلين بالفقه يجيبه بناء على قواعده: إنه رأي قبله الصحابة وأجمعوا عليه، والإجماع حجة مستقلة يجب العمل بها، ونحن نعلم أن الشيعة والمستقلين بالعلم من غيرهم لا يقنعهم هذا الجواب، فهم ينازعون في حصول هذا الإجماع وفي جواز مثله مع النص وكونه في مسألة قطعية لا تقوم المصلحة بدونها، ويقولون على فرض التسليم: كيف أقدم أبو بكر على هذا الأمر المخالف للنص ولم يكن مجمعا عليه حينئذ لأنكم تدعون أنه إنما أجمع عليه بعد ذلك؟
والصواب أن بيعة عمر كانت بالشورى، ولكن هذه الشورى حصلت في عهد أبي بكر وهو الذي تولاها بنفسه كما قلنا آنفا، وإنما تعجل ذلك لخوفه على الأمة فتنة التفرق والخلاف من بعده، فشاور أهل الرأي والمكانة من الصحابة فيمن يلي الأمر بعده؛ فرأى الأكثرين منهم يوافقونه على أن أمثلهم عمر، ورأى بعضهم يخاف من شدته، فكان يجتهد في إزالة ذلك من قلوبهم بمثل قوله: " إنه يراني كثير اللين فيشتد " أي لأجل أن يكون من مجموع سيرتهما الاعتدال أو ما هذا مغزاه، حتى إنه تكلف صعود المنبر قبل وفاته وتكلم في المسألة بما أقنع القوم، فعهد إليه في الأمر في حياته، فكان ذلك كتوكيل له في مرضه وترشيح له من بعده، وإنما العمدة في جعله أميرا على مبايعة الأمة، والمبايعة لا تتوقف صحتها على الشورى، ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة، فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب المعروف الآن في الحكومة الجمهورية وما هو في معناها حصل المقصود، وما سبق لأبي بكر من المشاورة والإقناع في تولية عمر أغنى عن المشاورة بعد وفاته، فاتفق الجميع على مبايعته وصدق عليه أنه اتفاق بعد شورى أو بسبب الشورى.
وأما جعل عمر الشورى في نفر معينين فهو اجتهاد منه في إقامة هذا الركن مع اتقاء فتنة الخلاف التي تخشى من تكثير عدد المتشاورين، فأولئك النفر الذين جعلها فيهم هم أهل الرأي والمكانة في الأمة الذين تخضع لرأيهم إذا اتفقوا وتتعصب لهم إذا اختلفوا؛ لأن لكل واحد منهم عصبة يرونه أهلا للإمارة على المسلمين. وكان هؤلاء الذين اختارهم عمر (رضي الله عنه) هم أولي الأمر أو خواص أولي الأمر وزعماءهم، وهم الأحق بالشورى كما يؤخذ من الأمر في الكتاب العزيز بطاعة أولي الأمر مع قوله - عز وجل -:
{ { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83] ومن المشهور أن للمفسرين في أولي الأمر قولين: أحدهما أنهم الأمراء الحاكمون، وثانيهما: أنهم العلماء، ومن الناس من يعبر بكلمة " الفقهاء " ومن المعلوم أنه لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراء حاكمون ولا صنف يسمى الفقهاء، وإنما المراد بـ أولي الأمر الذين ترد إليهم مسائل الأمن والخوف وما في معناها من الأمور العامة: أهل الرأي والمكانة في الأمة وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها والمقبولة آراؤهم عند عامتها، فما فعله أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - هو منتهى ما يمكن أن يعمل في إقامة الشورى بحسب حال الأمة واستعدادها في زمنهما.
ثم إن المسلمين بادروا بعد قتل عثمان إلى مبايعة علي من غير اهتمام بالتشاور؛ لأن الكفاءة التي يرونها فيها لم تكن تقبل شركة تدعو إلى إجالة الرأي، فمبايعة الخلفاء الراشدين كانت من الأمة برضاها، وكانوا يستشيرون أهل العلم والرأي في كل شيء إلا أن بني أمية قد أحاطوا بعثمان وغلبوا الأمة على رأيها عنده، فكان من عاقبة ذلك ما كان من الفتن حتى استقر الأمر فيهم بقوة العصبية والدهاء، لا باستشارة الدهماء؛ فهم الذين هدموا قاعدة الحكم بالشورى في الإسلام بدلا من إقامته ووضع القوانين التي تحفظها، وتجعل استفادة الأمة منها تابعة لتقدم العلوم والمعارف وأعمال العمران فيها، ولولا هذا لكان ذلك الملك الذي وسعوا دائرته بالفتوحات أثبت في نفسه ولهم، ولكان شأن الإسلام أعظم، وانتشاره أكثر وأعم، على أن هذا الاستبداد منهم قد كان معظمه مصروفا إلى المحافظة على سلطتهم وبقاء الملك في أسرتهم، قلما يتسرب منه شيء إلى الإدارة والقضاء. وكانت حرية انتقاد الحكام والإنكار عليهم على كمالها حتى تبرم منها عبد الملك بن مروان فقال على المنبر: من قال لي اتق الله ضربت عنقه - كما روي عن بعض المؤرخين - ولكنهم كانوا يتصرفون في بيت المال بأهوائهم في الغالب، ولما أفضى الأمر إلى وارث الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى - أراد أن يخرجه من قومه، فلم يتيسر له ذلك.
ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين لما كان للأعاجم من السلطان في ملكهم وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك وجاراهم عليه علماء الدين بعد ما كان لعلماء السلف الصالح من الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية وأوائل زمن العباسيين، فظن البعيد عن المسلمين وكذا القريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية، وأن الشورى محمدة اختيارية، فيالله العجب: أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك أمرا ثابتا مقررا، ويأمر نبيه - المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه - بأن يستشير حتى بعد أن كان ما كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة كما تقدم بيانه مرارا كثيرة؟ هذا، وقد بلغ ملكوهم من الظلم والاستبداد مبلغا صاروا فيه عارا على الإسلام بل على البشر كله، إلا من يتبرأ منهم، ويبذل جهده في راحة العالم من شرهم. وسنعود إلى موضوع الحكومة الإسلامية عند الكلام على أولي الأمر في سورة النساء إن شاء الله - تعالى -.
قال - تعالى - بعد أمر نبيه بالمشاورة: { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجحه الشورى وأعددت له عدته فتوكل على الله في إمضائه، وكن واثقا بمعونته وتأييده لك فيه، ولا تتكل على حولك وقوتك، بل اعلم أن وراء ما أتيته وما أوتيته قوة أعلى وأكمل يجب أن تكون بها الثقة وعليها المعول، وإليها اللجأ إذا تقطعت الأسباب وأغلقت الأبواب. وقال الأستاذ الإمام ما معناه: إن العزم على الفعل وإن كان يكون بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة، فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه؛ لأن الموانع الخارجية له والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله - تعالى -، فلا بد للمؤمن من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.
{ إن الله يحب المتوكلين } على حوله وقوته مع العمل في الأسباب بسنته، أقول: ومن أحبه الله عصمه من الغرور باستعداده، والركون إلى عدته وعتاده، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك حتى لا يقدره قدره ولا يحكم فيه أمره، فبدلا من أن يكون نظره في الأمور بعين العجب والغرور واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء ومباشرته لها بيد التهاون يلقي السمع وهو شهيد، وينظر بعين العبرة فبصره حينئذ حديد، ويبطش بيد الحزم فبطشه قوي شديد؛ ذلك بأنه يسمع ويبصر ويعمل للحق لا للباطل الذي يزينه الهوى ويدلي به الغرور، فيكون مصداقا للحديث القدسي:
" "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها"
". الآية صريحة في وجوب إمضاء العزيمة المستكملة لشروطها - وأهمها في الأمور العامة حربية كانت أو سياسية أو إدارية المشاورة - وذلك أن نقض العزيمة ضعف في النفس وزلزال في الأخلاق لا يوثق بمن اعتاده في قول ولا عمل، فإذا كان ناقض العزيمة رئيس حكومة أو قائد جيش كان ظهور نقض العزيمة منه ناقضا للثقة بحكومته وبجيشه، ولا سيما إذا كان بعد الشروع في العمل؛ ولذلك لم يصغ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قول الذين أشاروا عليه بالخروج إلى أحد حين أرادوا الرجوع عن رأيهم خشية أن يكونوا قد استكرهوه على الخروج - وكان قد لبس لأمته وخرج - وذلك شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها - كما تقدم تفصيله - فعلمهم بذلك أن لكل عمل وقتا وأن وقت المشاورة متى انتهى جاء دور العمل، وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز له أن ينقض عزيمته ويبطل عمله، وإن كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأي - كما كان يرى - صلى الله عليه وسلم - في مسألة الخروج إلى أحد كما تقدم - ويمكن إرجاع ذلك إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وأي ضرر أشد من فسخ العزيمة وما فيه من الضعف والفشل وإبطال الثقة؟
وإننا نرى أهل السياسة والحرب يجرون على هذه القاعدة في هذا العصر، ومن الوقائع التي توجب العبرة في ذلك أن الأستاذ الإمام لما كان في لندرة عاصمة انكلترا سنة 1301هـ. ذاكره وزراء الإنكليز في أمور مصر والسودان التماس خدمته لبلاده وقد سأله يومئذ رئيس الوزراء أو غيره منهم (الشك مني) عن رأيه في حملة هكس باشا التي أرسلوها لمحاربة مهدي السودان الذي ظهر في ذلك الوقت فبين له بعد مراجعة طويلة أن هذه الحملة لا تنجح بل يقضي عليها السودانيون. ثم عاد الأستاذ من أوربا إلى بيروت، وبعد عودته جاءت الأخبار بقتل هكس باشا وتنكيل السودانيين بحملته، فبعث الأستاذ الإمام برسالة " برقية " إلى الوزير الإنكليزي يذكره فيها برأيه وكيف صدق. فجاءه الجواب في ذلك اليوم من الوزير ومعناه: قد علمنا أن ما قلته لنا معقول وجيه ولكن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.
{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } الكلام استئناف مسوق لبيان وجه وجوب التوكل على الله - تعالى - بعد المشاورة والعزيمة المبنية على أخذ الأهبة والاستعداد بما يستطاع من حول وقوة، أي إن ينصركم الله بالعمل بسننه وما يكون لكم من القوة والثبات بالاتكال على توفيقه ومعونته، فلا غالب لكم من الناس الذين نصبهم حرمانهم من التوكل عليه - تعالى - غرضا للقنوط واليأس وإن يخذلكم بما كسبت أيديكم من الفشل وعصيان القائد فيما حتمه من عمل - كما جرى لكم في أحد - أو بالإعجاب بالكثرة، والاعتماد على الاستعداد والقوة، وهو مخل بالتوكل - كما جرى يوم حنين - { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } أي من بعد خذلانه؛ أي لا أحد يملك لكم حينئذ نصرا، ولا أن يدفع عنكم ضرا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ولا يتوكلوا على غيره؛ لأن النصر بيده وهو الموفق لأسبابه وأهبه. وقد بينا أكثر من مرة أسباب النصر الحسية والمعنوية (راجع لفظ " نصر " في الأجزاء السابقة).
قد علم مما تقدم أن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وأن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح، والإنسان مسوق إليه بمقتضى
{ { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [الروم: 30] ومأمور به في الشرع. قال - تعالى -: { { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [الملك: 15] وقال: { { ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم } [النساء: 71] وقال: { { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } [الأنفال: 60] وقال: { { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } [البقرة: 197] - راجع تفسيرها - وقال لنبيه لوط - عليه السلام -: { { فأسر بأهلك بقطع من الليل } [هود: 81] وقال لنبيه موسى - عليه السلام -: { { فأسر بعبادي ليلا } [النساء: 23] وقال في الحكاية عن نبيه يعقوب لنبيه يوسف - عليهما السلام -: { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [يوسف: 5] وقال حكاية عنه أيضا: { يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } [يوسف: 67] فأمرهم بالحذر مع التنبيه على أنه متوكل على الله والتذكير بوجوب التوكل عليه، فجمع بين الواجبين، وبين أنه لا تنافي بينهما، ولا غناء للمؤمن عنهما.
ذلك بأن الإنسان إذا توكل ولم يستعد للأمر ويأخذ له أهبته بحسب سنة الله في الأسباب والمسببات يقع في الحسرة والندم عندما يخيب ويفوته غرضه فيكون ملوما شرعا وعقلا، كما قال - تعالى - في مسألة الإسراف في المال:
{ { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } [الإسراء: 29] وإذا هو استعد وأخذ بالأسباب واعتمد عليها غافلا قلبه عن الله - تعالى - فإنه يكون عرضة للجزع والهلع إذا خاب سعيه ولم ينل مراده فيفوته الصبر والثبات اللذان يهونان عليه الأمر، حتى لا يدري كيف يستفيد من الخيبة ويتدارك أمره فيها، وربما وقع في اليأس الذي لا مطمع معه في فلاح ولا نجاح؛ ولذلك قرن الله الصبر بالتوكل في عدة آيات من كتابه، قال - تعالى - حكاية عن الرسل - عليهم السلام - في محاجة أقوامهم: { { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } [إبراهيم: 12] وذكروا أن الله هداهم سبله وهي سننه في الأسباب وأنهم موطنون أنفسهم على الصبر لأنهم متوكلون عليه - تعالى -. ووصف الذين هاجروا من بعد ما ظلموا بقوله: { { الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } [النحل: 42] وقال: { نعم أجر العاملين * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } [العنكبوت: 58 - 59] فوصفهم بالعمل وأسند إليهم الصبر والتوكل، وقال لخاتم أنبيائه ورسله: { فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون } [المزمل: 9 - 10] كما قال له: { ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } [الأحزاب: 48] فهاهنا قرن أمره بالتوكل بنهيه عن العمل بقول من لا يوثق بقوله لأنه يغش ولا ينصح، كما أنه قرنه بالأمر بالمشاورة في الآية السابقة من الآيات التي نحن بصدد تفسيرها أعني قوله: { وشاورهم في الأمر } وكل ذلك من اتخاذ الأسباب سلبا وإيجابا.
وجاء ذكر التوكل في مقام ذكر الحرمان من الرزق أو من سعته، كما جاء في مقام الصبر على إيذاء المعتدين كقوله - تعالى -:
{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 2 - 3] وقوله في مقام وجوب نبذ الاغترار بسعة الرزق خشية الغفلة عن الآخرة: { { فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } [الشورى: 63] وحسبنا هذه الآيات في هداية القرآن وتحقيقه في مقام الجمع بين الأسباب والتوكل، وأما الأحاديث الشريفة فأصح ما ورد في التوكل منها حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وقد رواه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس مرفوعا، وقد روي بعدة ألفاظ منها: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" رواه الشيخان معا عن عمران بن حصين والبخاري عن ابن عباس، ومسلم عن أبي هريرة، والطبراني عن خباب، وكذا الدارقطني في الأفراد وزاد بعد قوله: (ولا يتطيرون): (ولا يعتافون) ذكره في كنز العمال. وأنت ترى أنه قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها، فهو لم ينف من الأعمال إلا الاستشفاء بالرقية، وهي ليست من الأسباب الحقيقية للشفاء، وإنما يطلبها طلابها عند الجهل بالأسباب والعجز عنها على أنها من المؤثرات الغيبية، وإنما المطلوب شرعا وطبعا ونقلا وعقلا أن يطلب الشيء من سببه الحقيقي الذي يستوي فيه كل من تعاطاه، وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير ونحوه، الاعتياف وهو: التفاؤل والتشاؤم بالألفاظ كقول الشاعر:

ألا قد هاجني فازددت وجدا بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي على غصنين من غرب وبان

إلى أن قال:

فكان البان أن بانت سليمى وفي الغرب اغتراب غير دان

والطيرة والعيافة من سنة الجاهلية التي نسختها السنة النبوية؛ لأنها من مفسدات الفطرة البشرية، وكذلك الرقية كانت معروفة في الجاهلية. فكان أناس معروفون يرقون اللديغ، وإلا الكي بالنار وهو مما كانوا يتداوون به في الجاهلية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهه لأمته ويعده من الأسباب الضعيفة المؤلمة المستبشعة التي تنافي التوكل؛ ولذلك قال: "لم يتوكل من استرقى أو اكتوى" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني من حديث المغيرة بن شعبة.
ويلي هذا الحديث:
"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم أيضا وأقره الذهبي، وقد استدل به على أن التوكل يكون مع السعي؛ لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق وهي خماص لفراغها وترجع ممتلئة البطون، ولم يقل إنما تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه.
وفي الباب حديث الرجل الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يترك ناقته وفي رواية أنه قال: أأعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"اعقلها وتوكل" رواه الترمذي من حديث أنس، وأنكره ابن القطان من هذا الطريق. وروي من حديث عمرو بن أمية الضمري بإسناد جيد أخرجه ابن حبان في صحيحه وفيه: أن الرجل قال: أرسل ناقتي وأتوكل. ورواه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب وجعلا القائل عمرا نفسه. ورواه ابن خزيمة والطبراني بلفظ "قيدها وتوكل" .
وكلام السلف الصالح في ذلك كثير مستفيض. روي أن رجلا قال للإمام أحمد (رحمه الله تعالى) أريد الحج على التوكل، فقال له: فاخرج في غير القافلة، قال: لا، قال: على جرب الناس توكلت. وقد تقدم أن قوله - تعالى -: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } [البقرة: 198] نزل في تخطئة من قالوا مثل هذا القول. وقال عبد الله بن الإمام أحمد قلت لأبي: هؤلاء المتوكلون يقولون: نقعد وأرزاقنا على الله - عز وجل -. فقال: ذا قول رديء خبيث، يقول الله - عز وجل -: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" [الجمعة: 9] وقال أيضا: سألت أبي عن قوم يقولون: نتكل على الله ولا نكتسب، فقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب، هذا قول إنسان أحمق. وروي عن ولده صالح أنه سأله عن التوكل فقال: التوكل حسن، ولكن ينبغي للرجل ألا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني أهله وعياله ولا يترك العمل. قال: وسئل أبي - وأنا شاهد - عن قوم لا يعملون، ويقولون: نحن متوكلون، فقال: هؤلاء مبتدعة. قال الجلال راوي ما ذكر: وأخبرني المروزي أنه قال لأبي عبد الله: إن ابن عيينة كان يقول: هم مبتدعة، فقال أبو عبد الله: هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا. وروي عنه غير ذلك، ولا سيما في الحث على الكسب وعدم توقع الصلة والنوال.
وقال أبو حفص عمر بن مسلم الحداد شيخ الجنيد في التصوف: أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت السوق، كنت أكتسب في كل يوم دينارا ولا أبيت منه دانقا، ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام. وقال الغزالي: الخروج عن سنة الله ليس شرطا في التوكل، وأحفظ هذه العبارة عنه أو عن غيره بلفظ: " ليس من التوكل الخروج على سنة الله - تعالى - أصلا " وهذه أحسن وأصح. وقال في بيان أعمال المتوكلين عند الكلام عن الأسباب المقطوع بها: " وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف، كما أن الطعام إذا كان موضوعا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إليه سعي وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء. ثم قال: وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله - تعالى - نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه "
ثم ذكر أن الأسباب التي لا تعد قطعية مطردة كالتزود للسفر لا يشترط تركها في التوكل، ولكنه يجوز ويعد من أعلى التوكل، وكلامه في هذا الباب وأمثاله كالزهد والفقر لا يسلم من نقد وخطأ؛ لمبالغته في الميل إلى الانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة: ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه وقد تقدم ذكر إنكار القرآن على من أرادوا أن يحجوا من غير زاد. وسنوفي هذا المقام حقه في تفسير: { لا تغلوا في دينكم } [النساء: 171] ولغلبة هذا الميل على أبي حامد (رحمه الله) راج عنده كثير من الأخبار والآثار الواهية والموضوعة، بل راج عنده ما دونها من كلام جهلة المتصوفة وتخيلات الشعراء كقول الشاعر:

جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين

فانظر كيف ينسي الإنسان ميله وحبه للشيء علمه وفقهه حتى يستحسن ما يخالفهما، وإلا فإن جهالة هذا الشاعر لا تخفى على من دون أبي حامد علما وفقها؛ فإن جريان قلم القضاء بما يكون لا يقتضي كون الحركة والسكون سببين؛ لأن الواقع في كل زمان ومكان هو ما جرى به القضاء، ومنه نعلم أن سنة الله في الحركة غير سنته في السكون، وسنن الله لا تتغير ولا تنقض، وكونهما كذلك يناقض كونهما سببين، ولو كان قضاء الله - تعالى - كما زعم الشاعر الجاهل لما قال - تعالى -: { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [الملك: 15] ولما قال: { { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [الجمعة: 10] والمشي والانتشار في الأرض من الحركة لا من السكون، وما جاء به من الجهل في البيت الثاني أبعد عن الصواب مما في البيت الأول، فإنه قاس حياة الرجل العاقل القادر على حياة الجنين، وسنة الله فيهما مختلفة كما هو معلوم بالضرورة، ولو صح هذا القياس لصح أيضا قياس الإنسان على النبات من نجم وشجر؛ فإن غذاء الجنين أشبه بغذاء النبات منه بغذاء الحيوان. فأي الفريقين أحق باسم الجنون؟ أمن يقول إن سنة الله في الجنين يتكون في بطن أمه كسنته في الرجل الذي بلغ أشده وجعل له الله رجلين يمشي بهما ويدين يبطش بهما وسمعا وبصرا يسمع بهما ويبصر، وعقلا به يفكر ويدبر؟ أم من يقول إن سنته - تعالى - فيهما مختلفة؟
هذا وإن كل ما ورد في الكسب حجة على كون التوكل لا ينافي العمل والسعي للدنيا، وقد تقدم ذكر بعض الآيات في ذلك ومنها قوله - تعالى -:
{ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } [هود: 61] وقوله: { { وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين } [الحجر: 20] وقوله: { { وجعلنا النهار معاشا } [النبأ: 11] ومن الأحاديث الشريفة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الكسب كسب العامل إذا نصح" رواه أحمد بسند حسن، والبيهقي والديلمي وابن خزيمة بلفظ: كسب يد العامل وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء" رواه الترمذي من حديث أبي سعيد وحسنه. ولابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر مرفوعا: "التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء" قال الحاكم: حديث صحيح. ويروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة" " وقال أيضا: " ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب علي من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري" " ذكرهما في القوت والأحياء. كان أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن وطلحة - رضي الله عنهم - تجارا حتى إن أبا بكر لما استخلف أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد؟ قال السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فهل كان غير متوكل؟ ثم إن الصحابة فرضوا له ما يكفيه ليستغني عن الكسب ولم يقولوا له: توكل على الله وهو يرزقك بغير عمل.
وقد بلغ من توكل الصديق - رضي الله عنه - أن كان يسلي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ويخفف عنه، ففي السيرة الهاشمية عن ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل الصفوف يوم بدر ثم رجع إلى العريش الذي بنوه له فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق ليس معه فيه غيره ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك " والحديث مروي في كتب الحديث وفي بعض الروايات ما ينبئ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يومئذ في مقام الخوف، وأن الصديق كان وادعا مطمئنا، ولعله تكلف ذلك لتسليته - صلى الله عليه وسلم -، وقد يتوهم ضعيف العلم أنه ينبغي رفض هذه الرواية لعدم صحة معناها من حيث إنه يدل على أن أبا بكر كان أشد توكلا وثقة بوعد الله من رسوله الأكرم - صلى الله عليه وسلم -، والصواب أن هذه الدلالة غير صحيحة، وإنما يعلم بعد ما بين درجة النبي العليا في التوكل ودرجة صاحبه العالية فيه مما ورد في الهجرة الشريفة
{ { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } [التوبة: 40] فهذا مقام التوكل وهذا أثره، وما كان - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر إلا أعلى إيمانا وتوكلا؛ لأنه كان يزداد كل يوم إيمانا وعلما بربه وبسنته في خلقه كما كان يدعوه بأمره { { وقل رب زدني علما } [طه: 114] وإنما ظهر - صلى الله عليه وسلم - في كل حال بما يليق بها؛ ففي يوم الهجرة كان خارجا من قوم بالغوا في إيذائه وليس له من الأسباب ما يكفي لمقاومتهم ومدافعتهم، والعرب كلها إلب واحد مع قومه عليه، فكان المقام مقام التوكل الكامل؛ لأنه مقام العجز عن الأسباب بالمرة؛ ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - وادعا ساكنا، وكان الصديق - على رجائه وتوكله - مضطربا، وفي يوم بدر كان قادرا على اتخاذ الأسباب لمقاومة أولئك القوم الذين زحفوا عليه من مكة، فكان التوكل فيه لا يصح إلا بعد اتخاذ كل ما يمكن من الأسباب؛ ولذلك لم يلجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء ومناشدة ربه المعونة والنصر إلا بعد أن فعل كل ما أمكن من الأسباب مع المشاورة واتباع رأي أهل الخبرة، ولعله كان يظن أنه يجوز أن يكون بعض أصحابه مقصرا فيما يجب من الأسباب فيفوت النصر لذلك فلجأ إلى الدعاء، ويؤيد هذا أنهم لما قصروا في الأسباب يوم أحد حل بهم وبه - صلى الله عليه وسلم - ما هو معلوم - وقد ذكر مفصلا في تفسير آيات هذا السياق - والصديق - رضي الله عنه - لم يصل علمه إلى ما وصل إليه علم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.