التفاسير

< >
عرض

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ
١٨٥
لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٨٦
-آل عمران

تفسير المنار

الكلام في الآيتين مستقل، ووجه اتصال الآية الأولى منهما بما قبلها هو أن في التي قبلها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب اليهود، وغيرهم له، ببيان طبيعة الناس في تكذيب الأنبياء السابقين وصبر أولئك على المجاحدة، والمعاندة، والكفر. وفي هذه تأكيد للتسلية، كما قال الإمام الرازي: من حيث إن الموت هو الغاية، وبه تذهب الأحزان ومن حيث إن بعده دارا يجازى فيها كل ما يستحق، وقال الأستاذ الإمام: إنها تسلية أخرى، كأنه يقول: لا تضجر، ولا تسأم لما ترى من معاندة الكافرين، فإن هذا منته، وكل ما له نهاية فلا بد من الوصول إليه، فالذي يصير إليه هؤلاء المعاندون قريب، فيجازون على أعمالهم، ولا تنتظر أن يوفوا جزاء عملهم السيئ كله في هذه الدار، كما أن أجرك على عملك لا توفاه في هذه الحياة، فحسبك ما أصبت من الجزاء الحسن، وحسبهم ما أصيبوا، وما يصابون به من الجزاء السيئ في الدنيا. واعلم أنه لا يوفى أحد جزاءه في هذه الدار لأن توفية الأجور إنما تكون في الآخرة.
قال: ويصح وصلها بما قبلها من قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون } إلخ. أي إن أولئك البخلاء الذين يمنعون الحقوق، وأولئك المتجرئين على الله والظالمين لرسله والذين عاندوا خاتم النبيين - كل أولئك سيموتون كما يموت غيرهم، ويوفون أجورهم يوم القيامة - وكذلك لا يحسبن أحد من المؤمنين الذين يقاومون هؤلاء، ويلقون منهم في سبيل الإيمان ما يلقون أنهم يوفون أجورهم في الدنيا، كلا، إنهم إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.
وأقول: إن الكلام في الآيتين هو تصريح بما في ضمن الآية السابقة من التسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن اتبعه، والتفات إلى خطابهم، فإن توفية الأجور متبادرة في الخير، فهذه الآية تمهيد لما بعدها ليسهل على المسلمين وقع إنبائهم بما يبتلون به.
ثم قال - تعالى -: { كل نفس ذائقة الموت } والمعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو: أن كل حي يموت، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه، ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين؛ لذلك قال الأستاذ الإمام: لكلمة نفس استعمالات يصح في بعض المواضع منها ما لا يصح في موضع آخر، والمتبادر هنا أن المراد بالنفس ما به الحياة المعروفة في الحيوان، ولا يصح أن تكون هنا بمعنى الذات (أي فيقال: إنه يدخل في عمومها البارئ - تعالى - لإضافة لفظ النفس إليه - عز وجل)، واستشكلوا موت النفس مع أنها باقية؛ لأنها تبعث يوم القيامة، وإنما يبعث الموجود، ولو عدمت النفس لما صح أن يقال: إنها تبعث، وإنما كان يقال توجد. وأجابوا عنه: كونها باقية لا ينافي كونها تذوق الموت، فإن الذي يذوق هو الموجود، والميت لا يذوق لأن الذوق شعور، فالحالة المخصوصة التي هي مفارقة الروح للبدن إنما تشعر بها النفس، وأما البدن فلا شعور له لأنه يموت، ومن العبث، والجهل البحث في تعريف الموت، فالموت هو الموت المعروف لكل أحد، وهناك جواب آخر أبسط من هذا وأظهر، وهو أن الخطاب هنا على العرف المعهود في التخاطب المتبادر لكل عربي، وهو أن كل حي يموت.
{ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } وفاه أجره: أعطاه إياه وافيا بالعمل لم ينقصه منه شيئا، ومهما نال الإنسان من أجر على عمله في الدنيا فإنه لا يوفاه إلا في الآخرة، والقيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين في الحياة التي بعد الموت. واستدل بالآية من ينكر عذاب القبر ونعيمه، أي ما تذوقه هذه النفوس في البرزخ الذي بين هذه الحياة القصيرة، وتلك الحياة الطويلة، وهو ينسب إلى المعتزلة، ولكن الزمخشري - وهو من أساطينهم - يرد استدلالهم، قال في الكشاف: فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم؛ لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور اهـ.
{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } زحزح عن النار: نحي وأبعد عنها، واختطف دونهما قبل أن تلتهمه، قال في الكشاف: الزحزحة تكرير الزح، وهو الجذب بعجلة، والذي يهم بمواقعها مرة بعد مرة (لما في نفسه من الشوائب التي تجذب إليها) فينحى عنها في كل مرة (بغلبة تأثير حسناته المضاعفة على سيئاته) إلى أن يدخل الجنة فائزا فوزا عظيما. وذكر الفوز مطلقا غير متعلق به شيء يفيد أنه الفوز العظيم الذي يشمل كل ما يطلبه المرء من سلامة من مكروه، وفوز بمحبوب، وناهيك بالسلامة من النار، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار.
الأستاذ الإمام: ذكر توفية الأجور، ثم بين ذلك بأبلغ عبارة موجزة إيجازا معجزا فأعلم أن هنالك جنة ونارا، وأن من الناس من يلقى في تلك ومنهم من يدخل في هذه، وأبان عظيم هول النار، وشدتها بالتعبير عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها، وأن مجرد الزحزحة عنها فوز كبير، وفيه إيماء إلى أن أعمال الناس سائقة لهم إلى النار؛ لأنها حيوانية في الغالب حتى لا يكاد يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يكون زحزح عما كان صائرا إليه من السقوط في النار، أما هؤلاء المزحزحون فهم الذين غلبت في نفوسهم الصفات الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم، وفي أعمالهم، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى لم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله في عمل من الأعمال. أفاد هذا الإيجاز كل هذه المعاني، ولم يحتج في هذه الآية إلى مثل ما ذكر في آيات أخرى من وصف الجنة والنار لما يقتضيه السياق هنالك من الإطناب، والتعريف بشيء من أمور عالم الغيب، وعبر بالفاء في قوله: "فمن زحزح" للترتيب، وبيان السبب. كذا كتبت عنه، وكتبت بجانبه " وفيه نظر " ولعلي كنت أريد مراجعته فيه فنسيت، والظاهر أن هذه الفاء عاطفة، وفيها معنى الترتيب دون السبب، وما بعدها تفصيل لتوفية الأجور.
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } الدنيا صفة للحياة، وهي مؤنث الأدنى، والمتاع ما يتمتع به أي ينتفع به زمنا ممتدا امتدادا طويلا، أو قصيرا لأنه من المتوع، وهو الامتداد، يقال متع النهار ومتع النبات: إذا ارتفع وامتد، ويقال للآنية: متاع، قال - تعالى -:
{ { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع } [الرعد: 17] وقال في إخوة يوسف: { ولما فتحوا متاعهم } [يوسف: 65] وهو الأوعية بما فيها من الميرة، والطعام، والغرور: الخداع، وأصله إصابة الغرة أي الغفلة ممن تخدعه وتغشه. قال في الكشاف: شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغر حتى يشتريه، ثم يتبين له فساده ورداءته.
الأستاذ الإمام: الحياة الدنيا هي السفلى، أو القربى، والمراد منها حياتنا هذه، أي معيشتنا الحاضرة التي نتمتع فيها باللذات الحسية كالأكل، والشرب، أو المعنوية كالجاه، والمنصب، والسيادة، هذه الحياة هي أقرب الحياتين، وأدناهما، وأحطهما، وهي على كل حال متاع الغرور؛ لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب، ويشقى لتوهم السعادة، ويتعب نقدا ليستريح نسيئة، والعبارة جاءت بصيغة الحصر فهي تشمل حياة الأبرار الذين يصرفون أعمالهم في نفع الناس حبا بالخير، وتقربا إلى الله - عز وجل - من حيث هم متمتعون فيها، إما من حيث أن لذتهم فيما هم فيه قهرية، وإما على معنى أنها لا بقاء لها، أو يقال: إن ما كان من عمل الخير والطاعة ليس من متاع الدنيا، والحصر بحسب ما عليه الغالب.
وأقول: حاصل معنى الجملة أن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغر الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف الحقيقية، والأخلاق المرضية التي ترقى بروحه فتعدها لسعادة الآخرة، فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه، فإن أي نوع منه قد يشغله وينسيه نفسه، وإن لم يكن الاشتغال به ضروريا، ولا من حاجات المعيشة المعتدلة، أما ترى المغرمين فيها باللعب واللهو كالشطرنج، والنرد، وما في معناهما - وهو كثير في هذا الزمان - كيف يسرفون في حياتهم، ويفنون أعمارهم بين جدران بيوت اللهو كالقهاوي والحانات. كل حزب بما لديهم فرحون؛ لأنهم مغرورون مخدوعون إلا من وفقه الله لصرف معظم زمنه في علم يرقى به عقله، وعبرة تتزكى بها نفسه، وعمل صالح ينتفع به، وينفع به عباد الله - تعالى - مع النية الصالحة، والقلب السليم، وما أحسن وصية الحلاج الأخيرة لمريده قبيل قتله: " عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك ".
وليس لمتاع الدنيا غاية ينتهي العامل إليها فتسكن نفسه، ويطمئن قلبه بل المزيد منه يغري بزيادة الإسراف في الطلب، فلا ينتهي أرب منه إلا إلى أرب، قال الشاعر:

فما قضى أحد منا لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب

فمن هدي الدين تنبيه الناس إلى ذلك حتى لا تغلب عليهم الحيوانية فيكونوا من الهالكين.
{ لتبلون في أموالكم وأنفسكم } قال الرازي: اعلم أنه - تعالى - لما سلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { كل نفس ذائقة الموت } زاد في تسليته بهذه الآية، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول، والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الإيذاء بالنفس، والإيذاء بالمال، والغرض من هذا الإعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر، وترك الجزع، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه، فإذا نزل البلاء شق ذلك عليه، أما إذا كان عالما بأنه سينزل، فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
أقول: وعبارة الكشاف خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على ما سيلقون من الأذى، والشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
الأستاذ الإمام: يصح اتصال هذه الآية بما قبلها من قوله - تعالى -: { ولا يحسبن الذين يبخلون } الآيات، فإن فيها ذكر البخل بالمال، وذكر حال اليهود، وهذه تذكر البلاء بالمال، وما سيلاقي المؤمنون من أولئك اليهود، وغيرهم، ويصح أن يكون على ما قاله بعضهم متصلا بما هو قبل ذلك من أول وقعة أحد إلى هنا، كأنه يقول: إن ما وقع من الابتلاء في الأنفس، والأموال، والطعن في تلك الوقعة ليس آخر الابتلاء، بل لا بد أن تبلوا بعد ذلك بكل هذه الضروب منه وتجري فيكم سنته - تعالى - في خلقه، فلا تظنوا أنكم جلستم على عرش العزة واعتصمتم بالمنعة، وأمنتم حوادث الكون؛ فإنه لا بد أن يعاملكم الله - تعالى - كما يعامل الأمم معاملة المختبر المبتلي لا ليعلم ما لم يكن يعلم من أمركم فهو علام الغيوب، بل ليميز الخبيث من الطيب من بعد، كما ماز الكثيرين في وقعة أحد.
قال: والابتلاء في الأموال يفسر بفرض الصدقات، وبالبذل في سبيل الله - وهو كل ما يوصل إلى الخير - وبالجوائح والآفات وهذا الجمع أولى مما ذهب إليه بعضهم من تخصيصه بالأول، وبعضهم من تخصيصه بالثاني. والابتلاء في الأنفس يكون بتكليف بذلها في سبيل الله، وبموت من يحب الإنسان من الأهل والأصدقاء (أقول: وكذا الابتلاء بالمصائب البدنية كالأمراض والجروح)، والابتلاء بالتكليف هو أهم الابتلاءين، وذلك أن الله - تعالى - لم يكفل للمسلمين الحفظ، والنصر، والسيادة لأنهم مسلمون، وإنما يكلفهم الجري على سنته - تعالى - كغيرهم، فلا بد لهم من الاستعداد للمدافعة دائما، وذلك يقتضي بذل المال، والنفس، ومن هنا تعلم غلط الذين يفسرون الابتلاء بالمال، والأمر ببذله، والجهاد به كل ذلك بالزكاة، وما الزكاة إلا نوع من أنواع الحقوق التي جعلها الله في المال وهي كثيرة تشمل كل ما به صلاح الأمة، ورفع شأنها من الأعمال، وكل ما يدفع عنها الأعداء، ويرد عنها المكاره والأسواء، (يعني كالأعمال التي تعمل للوقاية من الأمراض والأوبئة)، ومن ذلك الابتلاء في المدافعة عن الحق سواء كان بالمال، أو بالنفس، فهو يوطن نفوسهم على الأخذ بالاحتياط في الأمور العامة، والاستعانة عليها بالمال، وتحمل المكاره، ويحذرهم من الشره، والطمع في المال حتى إذا طمعوا، أو قصروا في الاحتياط - كما وقع لهم في أحد - علموا أنهم ما أصيبوا إلا بما كسبت أيديهم، أو قصرت فيه هممهم فلا يتعللون، ولا يقولون كيف أصبنا ونحن مسلمون؟ وقدم ذكر المال لأنه هو الوسيلة التي يكون بها الاستعداد لبذل النفس، فبذل المال يحتاج إليه قبل بذل النفس، أو لأن الإنسان كثيرا ما يبذل نفسه دفاعا عن ماله، فالذين قالوا إن المال شقيق الروح لاحظوا الغالب، ومن غير الغالب أن يقدم الإنسان ماله على نفسه. علمنا أن فائدة الابتلاء هي تمييز الخبيث من الطيب، وأما الإخبار به ففائدته التعريف بالسنن الإلهية، وتهيئة المؤمن لها، وحمله على الاستعداد لمقاومتها، فإن من تحدث له النعمة فجأة على غير استعداد ولا سعي ترجى هي من ورائه تدهشه وتبطره، وربما تهيج عصبه فيقع في داء أو يموت فجأة، وكذلك من تقع به المصيبة فجأة على غير استعداد يعظم عليه الأمر، ويحيط به الغم حتى يقتله في بعض الأحيان، أما المستعد فإنه يكون ضليعا قويا.
أقول: يعني أنه يحمل البلاء بلا تبرم، ولا سآمة، فإن ظفر لا يفرح فرح البطر الفخور، وإن خسر لا يشقى شقاء البئوس الكفور، فهذا الإعلام تربية من الله لعباده المؤمنين فما بالهم في هذا العصر عن التذكرة معرضين
{ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } [المؤمنون: 68]؟ هذا وإن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر الأولى، والظاهر أن هذه الآيات نزلت في السنة الرابعة بعد غزوة بدر الآخرة - كما يأتي - فالظاهر أن المراد بالابتلاء فيها بالمال هو الحاجة والقلة كما حصل في غزوة الأحزاب، ثم في غزوة تبوك، راجع تفسير { ولنبلونكم بشيء من الخوف } [البقرة: 155] ص27 ج 2 تفسير ط [الهيئة المصرية العامة للكتاب]، وتقرأ بيانه لنا بعد خمسة أسطر.
وأما قوله: { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } فهو ابتلاء آخر، وقد نزلت هذه الآية بعد أن كان المشركون وأهل الكتاب ملئوا الفضاء بكلامهم المؤذي للرسول، والمؤمنين، فلماذا صرح الكتاب بهذا، وهو ما ألفه المسلمون واعتادوا؟ بل قال الأستاذ الإمام: إن مثل هذا يدخل في الابتلاء في الأنفس، وإنما خصه بالذكر لأنه من الأهمية بمكان.
أقول: نبه بهذه العبارة على عظم شأن هذا النبإ، وليس عندي شيء عنه في سببه، والمراد منه، ولا أذكر أنني رأيت ذلك في شيء من الكتب التي اطلعت عليها، فيجب الرجوع في ذلك إلى التاريخ؛ أي سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فإذا تذكرنا أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر الآخرة التي سبق ما ورد فيها من الآيات بعد الكلام في غزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد - وتذكرنا أن ذلك كان في شعبان من سنة أربع، وتذكرنا ما كان في سنة خمس من حديث الإفك، وقذف عائشة الصديقة - برأها الله تعالى - ومن تألب اليهود، ونقض عهودهم، ومحاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أجلاهم، وأمن شر مجاورتهم إياه بالمدينة، ومن تألبهم مع المشركين، وجمع الأحزاب من الفريقين، وزحفهم على المدينة لأجل استئصال المسلمين، وما كان في ذلك من البلاء الشديد، والجوع الديقوع، والحصار الضيق الذي قال الله فيه كله:
{ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } [الأحزاب: 10 - 11] - إذا تذكرنا هذا كله علمنا أن الآية تمهيد له، وإعداد للمسلمين لتلقيه لعل وقعه يخف عليهم؛ ولذلك قال: { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } يعني إن تصبروا على البلاء الكبير الذي سيحل بكم في أموالكم وأنفسكم وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى، وتتقوا ما يجب اتقاؤه في الاستعداد لذلك قبل نزوله، ومكافحته عند وقوعه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله أن يكون؛ أي من عزمات قضائه التي لا بد من وقوعها.
ومن تدبر هذا علم ضعف رواية ابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت فيما كان بين أبي بكر، وفنحاص، وقد سردنا الرواية من عهد قريب، فإن هذه الوصية المؤكدة للمؤمنين كافة، وما سبقها من التمهيد أكبر من ذلك - وإن حسنها من رواها - ويرجح ما اخترناه في الآية السابقة من كونها في المؤمنين لا في الكافرين. وفي رواية عند عبد الرزاق، عن عبد الرحمن بن كعب أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهذه أضعف من الأولى، فإن كعب بن الأشرف قتل قبل غزوة أحد، وكفى الله المسلمين كيده وقوله.
قال الأستاذ الإمام: الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال، وكظم النفس عليه مع الروية في دفعه، ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركب من أمرين: دفع الجزع، ومحاولة طرده، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس، وإنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه، فمن لا يحس به لا يسمى صابرا، وإنما هو فاقد للإحساس يسمى بليدا، وفرق بين الصبر والبلادة، فالصبر وسط بين الجزع والبلادة، وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة، وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلا، وتركا عن باعث القلب، وذلك من عزم الأمور؛ أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة، وتصح فيها النية وجوبا محتما لا ضعف فيه.