التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٤٢
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
١٤٣
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
١٤٤
إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
١٤٥
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
١٤٦
مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
١٤٧
-النساء

تفسير المنار

اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر، فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب، وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم }، تقدم الكلام في مخادعة المنافقين أول سورة البقرة ولكنني لا أتذكره الآن وأنا أكتب هذا في السفر والجزء الأول من التفسير ليس معي فأراجعه، كانت العرب تسند الخداع إلى الضب، كما اشتقت كلمة النفاق من جحره الذي سمي النافقاء، وهو إنما يخدع طالبه بجحره، قيل: لأنه يجعل له بابين، إذا فوجئ من أحدهما هرب من الآخر، وقيل: إنه يعد عقربا فيجعلها في بابه لتلدغ من يدخل يده فيه ; ولذلك قيل: العقرب بواب الضب وحاجبه.
ومن أمثالهم "أخدع من ضب"، ويقولون: طريق خادع وخيدع أي: مضل، كأنه يخدع سالكه فيحسبه موصلا إلى غايته أو قريبا وهو ليس كذلك، والخداع صيغة مشاركة، ومعناه الذي يؤخذ مما ذكرنا من استعمالهم هو إيهامك أن الشيء أو الشخص على ما تحب أو تريد وهو على غير ما تحب وما تريد، كما يوهم جحر الضب من يريد صيده أنه قريب المنال ليس دونه مانع، فإذا مد يده إليه لدغته العقرب، فإن لم يكن هنالك عقرب خرج الضب من الباب الآخر ورجع الصائد بخفي حنين، وكما يوهم الطريق الخيدع سالكه فيضل دون الغاية التي يطلبها.
قال الراغب: " الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه قال تعالى: { يخادعون الله }، أي يخادعون رسوله وأولياءه ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته ; ولذلك قال:
{ { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [الفتح: 10]، وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه، وقول أهل اللغة إن هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتي بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين، أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله، والثاني: التنبيه على عظم المقصود بالخداع وأن معاملته كمعاملة الله وأعاد هنا الاستشهاد بآية المبايعة.
أقول: فسر مخادعة الله عز وجل بمخادعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه وهم الصحابة رضي الله عنهم ; لأن المعاملة كانت بين المنافقين وبينهم ; ولأن المؤمنين بالله لا يقصدون مخادعته، والمعطلين لا يؤمنون بوجوده، والمعدوم لا تتوجه النفس إلى معاملته، فإن قيل: إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم أول سورة البقرة:
{ { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [البقرة: 8]، وقد عزا إليهم المخادعة هنالك في الآية التي بعد هذه الآية وذكرت في تفسيرها عن الأستاذ الإمام أنهم صنف ثالث غير المؤمنين والكافرين الذين ذكروا ثمت في آيات أخرى، وأن المراد بهم أن إيمانهم بالله على غير الوجه الصحيح فلا يعتد به.
ومن كان هذا شأنه لا يبعد أن تصدر عنه مخادعة الله تعالى، كما يفعل الذين يحتالون على منع الزكاة وأكل الربا بتطبيق حيلهم على أقوال لفقهائهم وهم يعلمون أن هذا مخالف لمراد الله تعالى من إيجاب الزكاة ومنع الربا، وهو الرحمة بالفقراء والمساكين ومواساتهم وإعانة سائر أصناف المستحقين للزكاة على الإيمان والبر والخير، وعدم أكل أموال الناس بالباطل.
أقول: إن مثل هذا قد يقع من أهل الإيمان التقليدي غير المطابق للحق، ولكنهم لا يقصدون به مخادعة الله تعالى قصدا، وإنما هو جهل وضلال في معنى المخادعة.
والوجه المعقول للتعبير عن مخادعة الرسول والمؤمنين بمخادعة الله عز وجل، هو أنهم يخادعونهم فيما يقيمون به دين الله ويعملون بما أنزل إليهم منه لا في المعاملات الشخصية الدنيوية كالبيع والشراء والمعاشرة، فإن المخادعة في مثل هذا قد تكون مباحة أو مكروهة إذا لم يكن فيها غش ولا ضرر، والمحرم منها لضرره لا يصل إلى درجة المخادعة في شئون الإيمان وتبليغ دين الله وإقامة كتابه فيكون من قبيل المخادعة له وهذا الوجه يتضمن أيضا تعظيم شأن الرسول والمؤمنين في التعبير عن مخادعتهم بمخادعة الله تبارك وتعالى.
وأما قوله تعالى: { وهو خادعهم }، فقد قيل: إن معناه يجازيهم على خداعهم، وأنه عبر عن ذلك بالمخادعة للمشاكلة كما قال في آية أخرى:
{ { ومكروا ومكر الله } [آل عمران: 54]، وإنما جعلوه من المشاكلة ; لأن هذا اللفظ كلفظ المكر، وقد استعمل في التعبير عن المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب غالبا أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه وغلب ذلك فيه، وإلا فإن الخداع قد يكون في الخير، ولأجل حماية الحقيقة وإقامة الحق.
وقد أباح الشرع الخداع في الحرب ; لأن الحرب في الإسلام لا تكون إلا للدفاع عن الملة والأمة، ولحماية الدعوة، وفي الحديث الحرب خدعة فيجوز أن يعبر عن سنة الله تعالى في عاقبة أمرهم عاجلها وآجلها من حيث إنها تكون على خلاف ما يحبون وما يريدون بلفظ مشتق من الخديعة، كأنهم بخداعهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق خادع يضلون فيه مطلبهم وينتهون إلى الخزي والنكال، من حيث يطلبون السلامة والفلاح، وهذا يلاقي قوله تعالى في سورة البقرة:
{ { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } [البقرة: 9]، فخداعهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو عين خديعة الله تعالى لهم، إذ كانت سنته فيمن يعمل عملهم ما أشرنا إليه آنفا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ولفظ خادعهم، اسم فاعل من الثلاثي، والذي يسبق إلى ذهني أنه يدل على الغلبة، - وهو ما تضم عين فعله المضارع - أي: وهو تعالى يغلبهم في الخديعة يجعل خداعهم عليهم لا لهم.
هذا شأن المنافقين في كل ملة وأمة، يخادعون ويكذبون، ويكيدون ويغشون، ويتولون أعداء أمتهم، ويتخذون لهم يدا عندهم، يمتون بها إليهم إذا دالت الدولة لهم، وسيأتي في الآية التي بعد هذه بيان ذبذبتهم، ولكن لا يخفى على كل من الأمتين حالهم.
_@_

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فهم يهدمون بناء الثقة بهم بأيديهم، وكأين من منافق كانت خيانته لأمته ومساعدة أعدائها عليها سببا لهلاكه بأيدي أولئك الأعداء أنفسهم، وقولهم: لو كان في هذا خير لكان قومه أولى بخيره منا ونحن أعداؤه وأعداؤهم، فإن كان قد خانهم فستكون خيانته لنا أشد.
والناس يقرءون أخبار هؤلاء الأشرار في كتب التاريخ ولا يعتبرون ويكثر هؤلاء المنافقون في طور ضعف الأمة وقوة أعدائها ; لأنهم طلاب المنافع ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين، وإنما تلتمس المنافع من الأقوياء وإن اقترن التماسها بالعار، والذل والصغار.
{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى }، أي: متثاقلين لا رغبة تبعثهم ولا نشاط ; لأنهم لعدم إيمانهم لا يرجون فيها ثوابا في الآخرة، ولا يبتغون بها تربية ملكة مراقبة الله تعالى وحبه والأنس بذكره ومناجاته لتنتهي نفوسهم بذلك عن الفحشاء والمنكر، وتكون أهلا لرضوان الله الأكبر، كما هو شأن المؤمنين الصادقين.
وإنما هي عندهم كلفة مستثقلة، فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين تركوها، وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام إليها { يراءون الناس } بها، أي: يبتغون بذلك أن يراهم الناس المؤمنون فيعدوهم منهم، فالكسل: التثاقل عما ينبغي النشاط فيه، والمراءاة أن يكون المرء الذي يرائيك بحيث تراه كما يراك، فهو فعل مشاركة من الرؤية { ولا يذكرون الله إلا قليلا }، قيل: معناه أنهم لا ينطقون إلا بالأذكار الجهرية التي يسمعها الناس كالتكبيرات، وقول: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد" عند القيام من الركوع، والسلام، وقيل: إن المراد بالذكر هنا ذكر النفس، وإنما يقع هذا من المرتابين دون الجاحدين، وقيل: إن المراد به الصلاة أي لا يصلون إلا قليلا، وذلك إذا أدركتهم الصلاة وهم مع المؤمنين.
وكل هذه الأقوال قريبة، ويجوز أن تراد كلها من اللفظ عند بعض العلماء، ولعل القول الثاني أقواها.
هذه حال منافقي الصدر الأول، ومنافقو هذا العصر الأخير شر منهم لا يقومون إلى الصلاة ألبتة، ولا يرون للمؤمنين قيمة في دنياهم فيراءوهم فيها، وإنما يقع الرياء بالصلاة من بعضهم إذا صاروا وزراء وحضروا مع السلاطين والأمراء بعض المواسم الدينية الرسمية، وقلما يحضرون معهم غير المواسم المبتدعة كليلة المعراج وليلة النصف من شعبان وليلة المولد النبوي.
"~{ مذبذبين بين ذلك }، قال الراغب: الذبذبة حكاية صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير لكل اضطراب وحركة، قال تعالى: { مذبذبين بين ذلك } أي: مضطرين مائلين تارة إلى المؤمنين، وتارة إلى الكافرين "، وقيل: بين الكفر والإيمان، ويقوي الأول قوله: { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }، أي: لا يخلصون في الانتساب إلى واحد من الفريقين ; لأنهم يطلبون المنفعة ولا يدرون لمن تكون العاقبة، فهم يميلون إلى اليمين تارة وإلى الشمال أخرى، فمتى ظهرت الغلبة التامة لأحد الفريقين ادعوا أنهم منه، كما بينه تعالى في الآية التي قبل هاتين الآيتين: { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }، أي: ومن قضت سنة الله في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون ضالا عن الحق موغلا في الباطل فلن تجد له أيها الرسول أو أيها السامع سبيلا للهداية برأيك واجتهادك، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول.
هذا هو معنى إضلال الله تعالى الذي يتفق به نصوص كتابه بعضها مع بعض، وتظهر به حكمته في التكليف والجزاء، وليس معناه أنه ينشئ فطرة بعض الناس على الكفر والضلال فيكون مجبورا على ذلك لا عمل له ولا اختيار فيه كعمل المعدة في الهضم، والقلب في دورة الدم، كما توهم من لا عقل له ولا علم.
ومن مباحث اللفظ في الآيتين قولهم: إن جملة: { ولا يذكرون الله }، حال من فاعل { يراءون } وكذا { مذبذبين } وقيل: إن هذا منصوب على الذم.
{ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين }، فإن هذا من فعل المنافقين، يوالونهم وينصرونهم من دون المؤمنين ; لأنهم لا يكرهون أن يكون لهم النصر والسلطان، وأن يلحقوا بهم، ويعدوا أنفسهم منهم، ولا يكون هذا من مؤمن، حذر الله تعالى المؤمنين أن يحذو بعض ضعفائهم حذو المنافقين في ولاية الكافرين من دون المؤمنين أي: من غير المؤمنين وفي خلاف مصلحتهم، يبتغون عندهم العزة، ويرجون منهم المنفعة، فإنه ربما يخطر في بال صاحب الحاجة منهم أن ذلك لا يضر، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنهم ; لأن له عندهم أهلا ومالا.
فالأولياء جمع ولي من الولاية، بكسر الواو وهي النصرة، وأما الولاية بفتح الواو فهي تولي الأمر، وقيل: يطلق اللفظان على كلا المعنيين.
والمراد هنا النصرة بالقول أو الفعل فيما ينافي مصلحة المسلمين، ومثله قوله تعالى في سورة المائدة:
{ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } [المائدة: 51]، إلخ، وإن عمم بعض المفسرين في هذه، والله تعالى يقول بعدها: { { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } [المائدة: 52]، وهؤلاء هم المنافقون، فالخوف من إصابة الدائرة، وذكر الفتح وندمهم إذا جعله الله للمؤمنين، مما يدل على أن الولاية هنا ولاية النصرة لليهود والنصارى الذين كانوا حربا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فهو لا يشمل من ليسوا كذلك كالذميين إذا استخدمتهم الدولة، في أعمالها الحربية أو الإدارية بل لهؤلاء حكم آخر.
ولما كنت في الآستانة سنة 1328 هـ أحببت أن أعرف حال التعليم الديني في دار الفنون التي هي المدرسة الجامعة في عاصمة الدولة، فلما دخلت الحجرة التي يقرأ فيها التفسير ألفيت المدرس يفسر آية المائدة هذه وعمدته تفسير البيضاوي، وهو الذي يقرؤه أكثر المسلمين في مدارسهم الدينية، وهو يفسر الآية بعدم الاعتماد على اليهود والنصارى وعدم معاشرتهم معاشرة الأحباب " وهذا من أغرب أغلاطه "، فلما قرر ذلك المفسر بالتركية قام أحد الطلبة وقال له: إذن كيف جعلتهم دولتنا في مجلسي المبعوثين والأعيان وفي هيئة الوكلاء؟ أي: وزراء الدولة ففاجأ المدرس الحصر وخرج العرق من جبينه.
فإنه إذا قال: إن عمل الدولة هذا مخالف لنص القرآن خاف على نفسه من ديوان الحرب العرفي أن يحكم عليه بالإعدام، ولم يظهر له في الآية غير ما قاله البيضاوي، وهل للمقلد إلا نقل ما يراه في الكتاب؟ فقلت له: أتأذن لي أن أجيب هذا الطالب؟ قال: نعم.
فقمت واقفا وبينت معنى الولاية وكيف كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين مع أهل الكتاب وغيرهم في صدر الإسلام، وتحقيق كون الولاية المنهي عنها في الآية، وهي ولاية النصرة والمعونة لهم وكانوا محاربين، وكون استخدام الذميين منهم في الحكومة الإسلامية لا يدخل في مفهومها بل له أحكام أخرى، والصحابة قد استخدموهم في الدواوين الأميرية، والعباسيون جعلوا إسحاق الصابي وزيرا فاقتنع السائل، وأفرخ روع المدرس، ولما علم بذلك مدير قسم الإلهيات والأدبيات في دار الفنون اتخذه وسيلة لإصدار أمر من ناظر المعارف بقراءة درس التفسير وكذا درس الحديث بالعربية في بعض السنين، وأراد أن يجعل ذلك وسيلة لجعلي مدرسا للتفسير إن أقمت في الآستانة.
{ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا }، أي: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم يوم القيامة حجة بينة على استحقاقكم لعذابه إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين ; لأن هذا من عمل المنافقين، فالسلطان بمعنى الحجة والبرهان.
وقيل: إنه بمعنى السلطة ومعناه أن يسلطهم عليكم بذنوبكم، ولكن وصف السلطان بالمبين أظهر في المعنى الأول.
ويستعمل المبين بمعنى البين في نفسه، ومعنى المبين لغيره، ثم بين تعالى جزاء المنافقين بعد بيان أحوالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال:
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }، الدرك بسكون الراء وبه قرأ الكوفيون وبفتحها وبه قرأ الباقون عبارة عن الطبقة أو الدرجة من الجانب الأسفل ; لأن هذه الطبقات متداركة متتابعة، ودل هذا على أن دار العذاب في الآخرة ذات دركات بعضها أسفل بعض، كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض، نسأل الله أن يجعلنا مع المقربين من أهلها
{ { فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى } [طه: 75، 76].
وإنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ; لأنهم شر أهلها بما جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الله والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح وأنفسهم أخس الأنفس، وأكثر الكفار قد أفسد فطرتهم التقليد، وغلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره، باتخاذهم شفعاء عنده، ووسطاء بينهم وبينه، قياسا على معاملة ملوكهم المستبدين، وأمرائهم الظالمين، وهم لا يرضون لأنفسهم النفاق في الدين ومخادعة الله والمؤمنين، والإصرار على الكذب والغش، ومقابلة هذا بوجه وذاك بوجه، فلما كان المنافقون أسفل الناس أرواحا وعقولا كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل من النار { ولن تجد لهم نصيرا }، ينقذهم من عذابها أو يرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.
{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله }، استثنى الله تعالى من ذلك الجزاء الشديد الذي أعده للمنافقين من تابوا من النفاق والكفر بالندم على ما كان منهم مع تركه والعزم على عدم مقارفته وعززوا هذه التوبة بثلاثة أمور:
(أحدها): الإصلاح، وهو إنما يكون بالاجتهاد في أعمال الإيمان التي تغسل ما تلوثت به النفس من أعماق النفاق، كالتزام الصدق والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والأمانة التامة، والوفاء، وإقامة الصلاة بالخشوع والحضور، ومراقبة الله تعالى وما أشبه ذلك:
(ثانيها): الاعتصام بالله، وهو إنما يكون بالتمسك بكتابه، تخلقا بأخلاقه وتأدبا بآدابه، واعتبارا بمواعظه، ورجاء في وعده وخوفا من وعيده، وانتهاء عن منهياته، وائتمارا بأوامره بحسب الاستطاعة، قال تعالى في سورة آل عمران
{ { واعتصموا بحبل الله } [آل عمران: 103]، وقال في سورة النساء { { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما } النساء: 174، 175]، أي: اعتصموا بهذا النور الذي أنزل إليهم وهو القرآن المجيد، وهو حبل الله في الآية الأخرى.
(ثالثها): إخلاص الدين لله عز وجل بأن يتوجه إليه وحده فلا يدعى من دونه أحد، ولا يدعى معه أحد، لا لكشف ضر ولا لجلب نفع، ولا يتخذ من دونه أولياء يجعلون وسطاء عنده، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة - وأعظمها وأهم أركانها الدعاء - خالصا له وحده، لا تتوجه فيه النفس إلى غيره ولا يسأل اللسان سواه، ولا يستعان فيما وراء الأسباب العامة بين البشر بمن عداه إياك نعبد وإياك نستعين.
هذا هو أهم ما يقال في إخلاص الدين لله قال تعالى في أول سورة الزمر:
{ { فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [الزمر: 2، 3]، فالمنافقون في الدرك الأسفل من الهاوية إلا من استثني.
{ فأولئك مع المؤمنين } الذين هم لتلك الأعمال عاملون، يكونون مع المؤمنين لأنهم منهم، يؤمنون إيمانهم ويعملون عملهم، ثم يجزون جزاءهم، وهو ما عظم الله تعالى شأنه بقوله { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما }، أي: سوف يعطيهم في الآخرة أجرا لا يعرف أحد كنهه
{ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } [السجدة: 17].
{ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم }، استفهام إنكاري بين الله لنا به أنه سبحانه لا يعذب أحدا من عباده تشفيا منه ولا انتقاما بالمعنى الذي يفهمه الناس من الانتقام بحسب استعمالهم إياه فيما بينهم، وإنما ذلك جزاء كفرهم بنعم الله عليهم بالحواس والعقل والوجدان والجوارح، باستعمالها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها إلى تكميل نفوسهم بالعلوم والفضائل والأعمال النافعة، وكفرهم بالله تعالى باتخاذ شركاء له، وإن سماهم بعضهم وسطاء وشفعاء، فبكفرهم بالله تعالى وبنعمه عليهم في الآفاق وفي أنفسهم تفسد فطرتهم، وتتدنس أرواحهم فتهبط بهم في دركات الهاوية ويكونون هم الجانين على أنفسهم.
ولو شكروا وآمنوا فطهرت أرواحهم من دنس الشرك والوثنية، وظهرت آثار عقولهم وسائر قواهم بالأعمال الصالحة المصلحة لمعاشهم ومعادهم، لعرجت بهم تلك الأرواح القدسية إلى المقام الكريم، والرضوان الكبير في دار النعيم، وقدم الشكر هنا على الإيمان ; لأن معرفة النعم والشكر عليها طريق إلى معرفة المنعم والإيمان به.
{ وكان الله شاكرا عليما }، يثيب المؤمنين الشاكرين المصلحين على حسب علمه بحالهم، لا أنه يعذبهم، بل يعطيهم أكثر مما يستحقون على شكرهم وإيمانهم، قال عز وجل:
{ { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } [إبراهيم: 7] سمى ثباتهم على الشكر شكرا، وهم إنما يحسنون بشكره إلى أنفسهم، وهو غني عنهم وعن شكرهم وإيمانهم، ولكن قضت حكمته، ومضت سنته، بأن يكون للإيمان الصحيح والأعمال الصالحة أثر صالح في النفس، يترتب عليه الجزاء الحسن والعكس بالعكس، فنسأله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الشاكرين. وأن يشكر لنا ذلك في الدارين والحمد لله رب العالمين.
تم الجزء الخامس من التفسير، وقد نشر في المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من المنار. بدأت بكتابة هذا الجزء وأنا في القسطنطينية سنة 1328 هـ، ففاتني تصحيح ما طبع منه في أثناء رحلتي تلك، وأتممته في أثناء رحلتي هذا العام [1330 هـ] إلى الهند فمنه ما كتبته في البحر ومنه ما كتبته في المدن والطرق بالهند، ومنه ما كتبته في مسقط والكويت والعراق، وقد أتممته في المحجر الصحي بين حلب وحماة في أوائل شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف، ونشر آخره في جزء المنار الذي صدر في آخر رمضان، ولم أقف على تصحيح شيء مما كتبته في أثناء هذه الرحلة أيضا. وفي أثناء هذا الجزء انتهت دروس الأستاذ الإمام عليه الرحمة والرضوان، وسنسير في تتمة التفسير إن شاء الله على الطريقة التي أخذناها عنه ونهتدي بهديه فيها إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.