التفاسير

< >
عرض

فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً
١٦٠
وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٦١
لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
١٦٢
-النساء

تفسير المنار

بين الله لنا في الآيات السابقة ما كان من اليهود من نقض العهد، والكفر، وقتل الأنبياء.... ثم بين في هذه الآيات جزاءهم على ما دون ذلك من سيئاتهم، فقال:
{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } أي فإذا كان هؤلاء اليهود قد استحقوا بظلم ما ظلموا به أنفسهم أن نحرم عليهم طيبات كانت أحلت لهم ولمن قبلهم، فحرمناها عليهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، فكيف لا يستحقون أكبر الخزي والنكال في الدنيا والآخرة بنقضهم ميثاق ربهم، وقتلهم لأنبيائه ورسله، وكفرهم بالمسيح وبهتهم لأمه، وتبجحهم بدعوى قتله وصلبه؟ فتعليل تحريم الطيبات عليهم بظلم مبهم منهم، وبما ذكر بعده من المعاصي عطفا عليه زائدا عنه، أو بيانا له - يدل على العقاب العظيم والخزي الكبير الذي يستحقونه على نقض الميثاق الأكبر، وما عطف عليه من الكفر والموبقات، وهو المتعلق المحذوف لقوله، تعالى: { فبما نقضهم ميثاقهم } إلخ. فهو قد حذف ذلك المتعلق، ثم ذكر عقابهم في الدنيا على ما دون ذلك، وهو تحريم بعض الطيبات عليهم. فعلم منه أن ذلك المتعلق المحذوف يشمل كل ما أصابهم في الدنيا من الخزي والنكال وفقد الاستقلال، وختم الآيات بذكر عذابهم في الآخرة.
أما الطيبات التي حرمها الله عليهم فهي مبينة بقوله، عز وجل، في سورة الأنعام:
{ { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [الأنعام: 146] الآية، هكذا ذهب بعض المفسرين، وتوقف بعضهم فلم يجزم بتعيين ما حرم عليهم، ولم يعرف ما نكره الكتاب. وفي الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين (الأحبار) تفصيل ما حرم عليهم في التوراة من حيوانات البر والبحر وهي كثيرة جدا، وكانت قد أحلت لهم بقاعدة كون الأصل في الأشياء الحل، وبإحلالها لسلفهم، كما ورد في قوله، تعالى: { { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } [آل عمران: 93] فليراجع تفسير هذه الآية في أول جزء التفسير الرابع.
وتقديم فبظلم على حرمنا يفيد الحصر، أي حرم عليهم ذلك بسبب الظلم لا بسبب آخر، وقد أبهم ما حرم عليهم هنا; لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم الظلم الذي كان سببا له; ليعلم القارئ والسامع أن أي نوع من الظلم يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة، هذا إذا لم يكن ما عطف عليه بيانا له.
والعقاب قسمان: دنيوي وأخروي، ولكل منهما أقسام سيأتي بسطها، ومن الدنيوي: التكاليف الشرعية الشاقة في زمن التشريع، والجزاء الوارد فيها على الجرائم من حد أو تعزير، وما اقتضته سنن الله - تعالى - في نظام الاجتماع، من كون الظلم سببا لضعف الأمم، وفساد عمرانها، واستيلاء أمة أخرى على ملكها.
وأما قوله، تعالى: { وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } فهو عطف على قوله فبظلم وقد أشرنا آنفا إلى احتمال أنه هو وما عطف عليه مبين له - أي للظلم - وهو حينئذ لا ينافي الحصر; لأن العطف على المعمول المتقدم على عامله، ينافي الحصر إذا كان المعطوف مغايرا له، وأما إذا كان مبينا له فهو عينه، ويجوز أن يكون عطف مغايرة وأن يكون تقديم ذكر الظلم للاهتمام ببيان قبح قليله وكثيره واقتضائه العقاب لا للحصر.
وقيل إن (بصدهم) متعلق بمحذوف، أي: وبسبب صدهم عن سبيل الله إلخ شددنا عليهم في أحكام وتكاليف أخرى كالبقرة التي أمروا بذبحها في حادثة القتيل التي تقدمت في الجزء الأول. وعلى الأول يكون من البيان والتفصيل بعد الإبهام والإجمال، وهو أوقع في النفس، وأبلغ في العبرة والموعظة.
والصدود والصد يستعمل لازما ومعناه المنع أي صدودهم أنفسهم عن سبيل الله مرارا كثيرة، بما كانوا يعصون موسى، عليه السلام، ويعاندونه، أو صدهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقال بعض المفسرين: إن المراد: صدهم الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأوقعوا أنفسهم بهذا التفسير في الإشكال وحار بعضهم في الخروج منه، ونسوا أنهم كانوا في غنى عن الدخول فيه حتى عد بعضهم الآية من أكبر المشكلات; لأن تحريم تلك الطيبات على بني إسرائيل كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الصد عن الإيمان به سببا لها، والسبب يجب أن يكون قبل المسبب؟ ويتفصى بعضهم من الإشكال بجعل هذا الصد متعلقا بفعل محذوف كما تقدم، وتساءل بعضهم: من حرم ذلك عليهم ومتى كان؟ وبمثل هذه الأفهام الضعيفة، وتقليد بعضهم لبعض، يولدون لنا شبها على القرآن وأصل الدين، ينقلها الكافرون به عنهم، ويطعنون بها في بلاغته وبيانه، والصواب ما جرينا عليه أولا، وأن صدهم عن سبيل الله هو إعراضهم عن هداية دينهم غواية وإغواء، وذلك مفصل في كتبهم الدينية.
{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم، ولكن التوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم، ومن إخوتهم دون الأجانب; ففي سفر الخروج (22: 35 إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي. لا تضعوا عليه ربا) وفي سفر اللاويين (الأحبار) (25: 35 وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك، فاعضده غريبا أو مستوطنا فيعيش معك 36 لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة. بل اخش إلهك فيعيش أخوك معك 37 فضتك لا تعطه بالربا، وطعامك لا تعطه بالمرابحة) وفي سفر تثنية الاشتراع (23: 19 لا تقرض أخاك بربا; ربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شيء ما مما يقرض بربا 20 للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا).
ونحن لا نسلم أن هذا هو نص التوراة التي كتبها موسى، عليه السلام; لأن نسخة موسى فقدت بإجماع اليهود والنصارى، وهذه التي عندهم قد كتبت بعد السبي، وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة، والظاهر أن عبارة " للأجنبي تقرض بربا " قد أخذها الذي كتب التوراة - عزرا أو غيره - من مفهوم الأخ; لأنه كتب ما حفظ منها بالمعنى. وهذا من مفهوم المخالفة الذي لا يحتج به جمهور علماء الأصول إذا كان مفهوم لقب. على أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا، والنهي عنه إطلاقا، فلم يقيدوه بشعب إسرائيل، ولا بإخوتهم; كقول داود، عليه السلام، في المزمور الخامس عشر: وهو الرابع عشر، في نسخة الجزويت: " وفضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة من البريء " وكقول سليمان، عليه السلام، في سفر الأمثال: (28: 8 المكثر ماله بالربا والمرابحة، فلمن يرحم الفقراء يجمعه) وقول حزقيال مما أوحاه إليه الرب في صفات البار: (18: 7 بذل خبزه للجوعان، وكسا العريان ثوبا، ولم يعط بالربا، ولم يأخذ مرابحة) وشريعة هؤلاء الأنبياء هي التوراة فلا بد أن يكونوا أخذوا إطلاق تحريم الربا منها.
{ وأكلهم أموال الناس بالباطل } كالرشوة والخيانة وغير ذلك; فإن من أخذ من مال آخر شيئا بغير مقابل فقد أكله بالباطل، وإنما يعتد بالمقابل إذا كنت تملكه، ولا يجب عليك بذله بغير عوض.
ثم بين - تعالى - جزاءهم في الآخرة على هذه الذنوب بعد بيان بعض جزائها في الدنيا فقال: { وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } عذاب النار المؤلم أعتده الله: أي هيأه للذين كفروا منهم بأي رسول من رسله، ولا سيما عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهم الذين بين الله حالهم في هذا السياق وغيره.
لما أطلق القول في هذا السياق ببيان سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم، وكان ذلك يوهم أن ما ذكر عنهم عام مستغرق لجميع أفرادهم، جاء الاستدراك عقبه في بيان حال خيارهم، الذين لم يذهب عمى التقليد ببصيرتهم، وهو: { لكن الراسخون في العلم منهم } أي: لكن أهل العلم الصحيح بالدين من اليهود، الآخذون فيه بالدليل دون التقليد، الراسخون أي: الثابتون فيه ثبات الأطواد، بحيث لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه { والمؤمنون } من عامتهم، أو من أمتك أيها الرسول، إيمان إذعان يبعث على العمل، لا إيمان دعوى وعصبية وجدل، كما هو المعروف عن المقلدة في كل الملل، كل منهم { يؤمنون بما أنزل إليك } أيها الرسول، من البينات والهدى في القرآن { وما أنزل من قبلك } على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام، لا يفرقون بين الله ورسله بالهوى والعصبية.
روى عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة أنه قال في هذه الجملة: استثنى الله منهم، فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم، وما أنزل على نبي الله، يؤمنون به ويصدقون به، ويعلمون أنه الحق من ربهم. وروى ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه قال في الآية: نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، حين فارقوا يهود وأسلموا.
وما جرينا عليه من جعل ما تقدم جملة تامة ظاهر يسيغه الفهم بغير غصة، ولا يعترض الذهن فيه شبهة ولا كبوة، واختار بعضهم أن جملة " يؤمنون " إلخ. حالية أو معترضة لا خبرية، أو أن الخبر هو جملة " أولئك سنؤتيهم " في آخر الآية. وقد راجعت تفسير الرازي بعد كتابة ما تقدم فإذا هو يجزم بأن الراسخون مبتدأ، خبره يؤمنون وإذا هو يفسر الراسخين بالمستدلين، وعلل ذلك بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك ألبتة، وأورد في قوله والمؤمنون وجهين; أحدهما: أنهم المؤمنون منهم، وثانيهما: أنهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار، وهذا أظهر، وإلا لقال: " لكن الراسخون في العلم والمؤمنون منهم " إلخ. والمعنى أن الراسخين في العلم منهم، هم ومؤمنو المهاجرين والأنصار سواء في كونهم يؤمنون بما أنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل إلى من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يفرقون بينهم.
وأما قوله، تعالى: { والمقيمين الصلاة } فهو جملة مستقلة، و " المقيمين " فيه منصوب على الاختصاص، أو المدح، على ما قاله النحاة البصريون سيبويه وغيره، والتقدير: أعني أو أخص المقيمين الصلاة منهم الذين يؤدونها على وجه الكمال، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان.
والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة، وكون إقامتها آية كمال الإيمان. على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى التأمل فيها، ويهدي الفكر إلى استخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة، ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته وكيفية أدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها; كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها، وقد عد مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصح الكلام وأبلغه. وقيل: إن المقيمين معطوف على المجرور قبله، والمعنى: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك على الرسل، وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء أنفسهم، فإن الله - تعالى - قال في الأنبياء
{ { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة } [الأنبياء: 73] أي: إقامتها، أو الملائكة; فإنه - تعالى - حكى عنهم قولهم: { { وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون } [الصافات: 165، 166] ووصفهم بقوله: { { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [الأنبياء: 20] والإيمان بهم من أركان الإيمان كالإيمان بالرسل.
وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة، وإن عده الجاهل أو المتجاهل غلطا أو لحنا، وروي أن الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة (والمقيمون الصلاة) فإن صح ذلك عنه، وعمن قرأها مرفوعة; كمالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي كانت قراءة، وإلا فهي كالعدم. وروي عن عثمان أنه قال: إن في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، وقد ضعف السخاوي هذه الرواية، وفي سندها اضطراب وانقطاع; فالصواب أنها موضوعة، ولو صحت لما صح أن يعد ما هنا من ذلك اللحن; لأنه فصيح بليغ، وإنني بعد كتابة ما تقدم، راجعت الكشاف، فإذا هو يقول: نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من ينصره في الكتاب أي كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم. اهـ.
{ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر } يجوز أن يكون هذا عطفا على الراسخون وعلى ضمير يؤمنون بما أنزل إليك وأن يكون مبتدأ خبره محذوف; أي والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك. أو كذلك، أي مثل أولئك المؤمنين، أو مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع، وإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس، فإن الذي يقيم الصلاة لا يمكن أن يمنع الزكاة; لأن الصلاة تعلي همته، وتزكي نفسه، فيهون عليه ماله، وقد قال، تعالى:
{ { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين } [المعارج: 19 - 22] إلخ.
وقد يرد ههنا سؤال، وهو أن من سنة القرآن أن يذكر الإيمان بالله قبل العمل الصالح، سواء ذكر الإيمان غفلا مطلقا، أو ذكرت أركانه كلها أو بعضها كقوله، تعالى:
{ { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } [الكهف: 107] ومثلها كثير وكقوله: { { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم } [البقرة: 62] والجواب: أن القاعدة الأساسية في التقديم والتأخير هي أن يقدم الأهم; الذي يقتضيه السياق لا الأهم في ذاته; ولذلك قال - تعالى - في سياق تخطئة المفاخرين بدينهم بالأماني { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } [النساء: 124].
بعدما قال في الآية التي قبلها
{ { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } [النساء: 123] فالسياق لبيان أن العبرة بالعمل بالدين، لا بالانتماء إليه وإلى الرسول الذي جاء به والفخر بذلك، فقدم ذكر العمل على الإيمان، والسياق الذي نحن فيه هو بيان أحوال أهل الكتاب في عصر نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكان المهم أولا بيان إيمان خيارهم بما أنزل إليه كإيمانهم بما أنزل إلى أنبيائهم من قبله، ثم كون هذا الإيمان إذعانيا يترتب عليه العمل، واكتفى منه بأعلى أنواع العبادات البدنية والمالية، ثم ختم الكلام بوصفهم بأول صفات الكمال; أي بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويجوز أن يراد بالمؤمنين هنا: المهاجرون والأنصار، وبالمؤمنين في أول الآية: المؤمنون من أهل الكتاب.
{ أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } أي أولئك الموصوفون بما ذكر كله سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما، لا يدرك كنهه في الدنيا أحد منهم.