التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
-النساء

تفسير المنار

الكلام متصل بعضه ببعض في الأحكام المتعلقة بالنساء، وقد كان منها في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى، وعدد ما يحل من النساء بشرطه. وفي الآية التي قبل هاتين الآيتين ذكر استبدال زوج مكان زوج بأن يطلق هذه وينكح تلك، فلا غرو أن يصل ذلك ببيان ما يحرم نكاحه منهن، وقد بين ما يجب من المعروف في معاشرتهن، وقال البقاعي في نظم الدرر: لما كرر الإذن في نكاحهن، وما تضمنه منطوقا، ومفهوما، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء، وكان الطيب شرعا يحمل على الحل مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك وما يحرم فقال: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء }.
أقول: قدم هذا النكاح على غيره، وجعله في آية خاصة، ولم يسرده مع سائر المحرمات في الآية الأخرى؛ لأنه على قبحه كان فاشيا في الجاهلية، ولذاك ذمه بمثل ما ذم به الزنا للتنفير عنه كما ترى في آخر الآية. أخرج ابن سعد، عن محمد بن كعب، قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته أم عبيد بنت ضمرة، ولم ينفق عليها، ولم يورثها من المال شيئا، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت ولا تنكحوا الآية. ونزلت أيضا { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } أي نزلت هذه الآيات عقب وقوع هذه الحادثة وأمثالها، وتقدم ذكر القصة بلفظ آخر عند تفسير الآية الأولى، وما هي ببعيد.
وقال الواحدي، وغيره ممن تكلم في أسباب النزول: إنها نزلت في محصن المذكور، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.
والنكاح هو الزواج، وقد تقدم في تفسير:
{ { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } [البقرة: 230] أن النكاح له إطلاقان: يطلق على عقد الزوجية، وعلى ما وراء العقد، وما يقصد به، أي مجموعهما، وهو المراد هناك. وقد صرح الفقهاء بأنه يطلق على العقد، وعلى الوطء، واختلفوا في أي الإطلاقين هو الحقيقي، وأيهما المجازي. والظاهر أنه لا يطلق شرعا على الوطء من غير عقد، وإنما كمال معناه الشرعي العقد، وما وراءه كما قلنا، وقد يطلق على العقد وحده. قال الأستاذ الإمام: وهو الذي تمكن معرفته، وتبنى عليه الأحكام في الغالب، بخلاف ما قاله الحنفية من أن حقيقته الوطء، ويؤيد ما اختاره الأستاذ تفسير ابن عباس (رضي الله عنه) النكاح هنا بالعقد. فقد روى ابن جرير، والبيهقي عنه أنه قال: " كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها، أو لم يدخل بها فهي عليك حرام "، وروي ذلك عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والمراد من الآباء ما يشمل بالإجماع.
وقوله - تعالى -: { إلا ما قد سلف } معناه لكن ما سلف من ذلك لا تؤاخذون عليه، وقال بعضهم معناه: إلا ما قد مات منهن، ورووه عن أبي بن كعب، وقالوا: إن المراد به المبالغة في تأكيد التحريم، وقطع عرق هذه الفاحشة وسد باب إباحتها سدا محكما، وهو ليس بظاهر عندي إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا أي إن نكاح حلائل الآباء كان، ولا يزال في الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وأيدتها الشريعة التي هداهم إليها أمرا فاحشا شديد القبح عند من يعقل ومقتا أي ممقوتا مقتا شديدا عند ذوي الطباع السليمة حتى كأنه نفس المقت، وهو البغض الشديد أو بغض الاحتقار، والاشمئزاز، وكانوا يسمون هذا النكاح في الجاهلية نكاح المقت، وسمي الولد منه مقتيا، ومقيتا، أي مبغوضا محتقرا وساء سبيلا أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح الذي اعتادته الجاهلية، وبئس من يسلكه.
وقال الأستاذ الإمام: إن هذا النكاح، وإن كان سبيلا مسلوكا إلا أنه سبيل سيئ، ولم يزده السير فيه إلا قبحا، ومقتا، وقال الإمام الرازي: " مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي، وقد وصف الله - سبحانه - هذا النكاح بكل ذلك، فقوله - سبحانه -: فاحشة إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي، وقوله - تعالى -: { ومقتا } إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله: { وساء سبيلا } إشارة إلى مرتبة قبحه العادي ".
أقول: والظاهر أن الأخير يراد به القبح العادي؛ أي إنه عادة، ولكنها قبيحة وما قبله يراد به القبح الطبعي، أي أن الطباع تمقت هذا لاستقباحها إياه، والأول كما قال الرازي يراد به القبح العقلي كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير العبارات، وفاته هو ذكر القبح الطبعي، وأما ما في ذلك من القبح الشرعي فإنما يعرف بورود الوحي بتحريمه فهو مرتبة رابعة. فالله - تعالى - قد حرم حلائل الآباء، وعلله بما فيه القبائح الثلاث.
هذا ما جرى عليه الجمهور في تفسير الآية، وقال بعضهم: إن ما في قوله: { ما نكح آباؤكم من النساء } مصدرية، أي لا تنكحوا النساء أيها المؤمنون كما كان ينكح آباؤكم في الجاهلية بتلك الطرق الفاسدة كالنكاح بدون شهود. ونكاح الشغار: وهو المبادلة في الزواج بأن يزوج الرجل من له الولاية عليها رجلا آخر على أن يزوجه هذا موليته، ولا مهر لواحدة منهما بل كل منهما تكون كمهر للأخرى.
وعبارة ابن جرير بعد نقل الروايات في تفسير الجمهور للآية، ونقل قول ابن زيد أن المراد بذلك - الزنا - هذا نصها قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم فمضى في الجاهلية فإنه كان فاحشة " إلخ.
ثم قال: فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم إنما قالوا نزلت هذه الآية في النهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم؟ قيل له: وإنما قلنا: إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل إذ كانت " ما " في كلام العرب لغير بني آدم، وأنه لو كان المقصود بذلك النهي - عن حلائل الآباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ابتداء مثله في الإسلام بنهي الله - جل ثناؤه - لقيل: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، إذ كان " من " لبني آدم، و " ما " لغيرهم، ولا تقل - أي حينئذ - { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فإنه يدخل في ما ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم. فحرم عليهم في الإسلام بهذه الآية ما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم. ومعنى { إلا ما قد سلف } إلا ما قد مضى إلى آخر ما قال.
ثم بين لنا - سبحانه - أنواع المحرمات في النكاح لعلة ثابتة ما في النكاح من الحكمة في صلة البشر بعضهم ببعض، أو لعلة عارضة كذلك. وهذه الأنواع داخلة في عدة أقسام: القسم الأول: ما يحرم من جهة النسب، وهو أنواع:
النوع الأول: نكاح الأصول، وذلك قوله - تعالى -: { حرمت عليكم أمهاتكم } أي حرم الله - تعالى - عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم، فإسناد الفعل إلى المفعول مع العلم بأن الله - تعالى - هو المحرم للإيجاز، والمراد أنه حكم الآن بتحريم ذلك ومنعه، فهو إنشاء حكم جديد. وأمهاتنا هن اللواتي لهن صفة الولادة من أصولنا - ولفظ الأم يطلق على الأصل الذي ينسب إليه غيره كأم الكتاب، وأم القرى - فيدخل فيهن الجدات، وكذلك فهمه جميع العلماء، وأجمعوا عليه.
النوع الثاني: نكاح الفروع، وذلك قوله - سبحانه -: وبناتكم وهن اللواتي ولدن لنا من أصلابنا، وإن شئت قلت من تلقيحنا، أو ولدن لأولادنا، أو لأولاد أولادنا، وإن سلفوا، فيدخل في ذلك كل من كنا سببا في ولادتهن، وأصولا لهن، وهل يشترط أن تكون ولادة البنت بعقد شرعي صحيح؟ قال الشافعية: نعم، وقال غيرهم: لا، فيحرم على الرجل بنته من الزنا، وهذا هو الظاهر المتبادر في حق من علم أنها ابنته، وإن كانت لا ترثه إلا إذا استلحقها؛ لأن الإرث حق تابع لثبوت النسب، وإنما يثبت النسب بالفراش، أو الاستلحاق، وولد الزنا ليس ولد فراش فلا نسب له، ولا إرث ما لم يستلحق؛ إذ لا يمكن إثبات نسبه بالبينة، والدليل على اعتبار الحقيقة في ذلك إذا عرفت هو إجماع الأمة على أن ولد الزانية يلحقها، ويرثها للعلم بأنها أمه. ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه أباح أن ينكح الرجل ابنته من الزنا. والظاهر أنه يجب على الرجل استلحاق ولده من الزنا مع العلم بأنه ولده، بأن يكون زنى بامرأة ليست بذات فراش في طهر لم يلامسها فيه رجل قط، وبقيت محبوسة عن الرجال حتى ظهر حملها. ومما يدل على حرمة البنت من الزنا حرمة البنت من الرضاعة بل تحريم بنت الزنا أولى.
هذا، وإن الفساق لا يبالون أين يضعون نطفهم، ولا أين يضعون نسلهم، فمنهم من يزني بذات الفراش، فيضيع ولده ويلحق بصاحب الفراش من ليس من صلبه، فتكون له جميع حقوق الأولاد عنده عملا بالقاعدة الشرعية المعقولة في بناء الأحكام على الظاهر، وهي " الولد للفراش "، ومنهم من يفسق بمن لا فراش لها، فيحملها على قتل حملها عند وضعه، أو على إلقائه حيث يرجى أن يلتقطه من يربيه ليجعله خادما كالرقيق، أو في بيت من البيوت التي تربى فيها اللقطاء في بعض المدن ذات الحضارة العصرية، ولا يبالي الفاسق أخرج ولده شقيا أم سعيدا، مؤمنا، أم كافرا!! فلعن الله الزناة، ما أعظم شرهم في جماعة البشر، ولعن الله الزواني ما أكثر شرهن وأعظم بهتانهن، فإن الواحدة منهن لتحمل ما لا يحمله من يفجر بها من العناء والشقاء وتوبيخ الضمير، فهو يسفح ماء لا يدري ما يكون وراءه، وهي التي تعلق بها المصيبة فتعاني من أثقال حملها ما تعاني، ثم تلقي حملها على فراش زوجها ولا يمكنها أن تنسى طول الحياة أنها ألقت بين يديها ورجليها بهتانا افترته عليه، وأعطته من حقوق عشيرته ما ليس له، أو تلقيه إلى يد غيرها، وقلبها معلق به قلق عليه لا يسكن له اضطراب إلا أن يسلبها الفسق أفضل عاطفة، وشعور تتحلى بهما المرأة، ومنهن من تستعمل الأدوية المانعة من الحمل، فتضر نفسها وربما أفسدت رحمها.
النوع الثالث: الحواشي القريبة، وذلك قوله - عز وجل -: { وأخواتكم } سواء كن شقيقات لكم، أو كن من الأم وحدها، أو الأب وحده.
النوع الرابع: الحواشي البعيدة من جهة الأب.
النوع الخامس: الحواشي البعيدة من جهة الأم، وذلك قوله تبارك اسمه: وعماتكم وخالاتكم ويدخل في ذلك أولاد الأجداد، وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون، وعمة جده، وخالته، وعمة جدته، وخالاتها للأبوين، أو لأحدهما، إذ المراد بالعمات، والخالات الإناث من جهة العمومية، ومن جهة الخئولة.
النوع السادس: الحواشي البعيدة من جهة الإخوة، وهو قوله - تعالى -: { وبنات الأخ وبنات الأخت } أي من جهة أحد الأبوين أو كليهما، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك كله في تفسير الآيات التالية:
القسم الثاني: ما حرم من جهة الرضاعة وهو أنواع كالنسب بينها - تعالى - بقوله { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } فسمى المرضعة أما للرضيع، وبنتها أختا له، فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاعة كجهة النسب تأتي فيها الأنواع التي جاءت في النسب كلها، وقد فهم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -
"فقال لما أريد على ابنة عمه حمزة، أي أن يتزوجها: إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" رواه الشيخان من حديث ابن عباس، ورويا من حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" وفي صحيحهما أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك" وكانت امرأته أرضعت عائشة. وعلى هذا جرى جماهير المسلمين جيلا بعد جيل، فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله، وفروعه، ولو من غير المرضعة؛ لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه أي الرضيع، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية (أي بنتا)، والأخرى غلاما، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ " قال: لا! اللقاح واحد " رواه البخاري في صحيحه، ولولا هذه الأحاديث لما فهمنا من الآية إلا أن التحريم خاص بالمرضعة، وينتشر في أصولها، وفروعها لتسميتها أما، وتسمية بنتها أختا، ولا يلزم من ذلك أن يكون زوجها أبا من كل وجه بأن تحرم جميع فروعه من غير المرضعة على ذلك الرضيع، كما أن تسمية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين لا يترتب عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأمهات فالتسمية يراعى فيها الاعتبار الذي وضعت لأجله، ومن رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءا منه؛ لأنه تكون من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته، وصار أولادها إخوة له؛ لأن لتكوين أبدانهم أصلا واحدا هو ذلك اللبن، وهذا المعنى لا يظهر في أولاد زوجها من امرأة أخرى إلا من بعد، بأن يقال: إن هذا الرجل الذي كان بلقاحه سببا لتكون اللبن في المرأتين قد صار أصلا لأولادهما، إذ في كل واحد منهما جزء من لقاحه تناوله مع اللبن فاشتركا في سبب اللبن، أو في هذا الجزء من اللبن الذي تكون بعض بدنهما منه فكانا أخوين لا يحل أحدهما للآخر إذا كان أحدهما ذكرا، والآخر أنثى؛ ولهذا المعنى قلنا فيما سبق: إن حرمة الرضاعة تدل على حرمة بنت الزنا على والدها بالأولى.
وقد روي عن بعض الصحابة، والتابعين عدم التحريم من جهة زوج المرضعة دونها. فقد صح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام. قالت زينب: وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول: أقبلي علي فحدثيني، أرى أنه أبي، وما ولد منه فهم إخوتي، إن عبد الله بن الزبير أرسل إلي يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير، وكان حمزة للكلبية، فقلت لرسوله: وهل تحل له، وإنما هي ابنة أخته؟ فقال عبد الله: إنما أردت بهذا المنع من قبلك، أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك، وما كان من غيرها فليسوا لك بإخوة، فأرسلي فاسألي عن هذا، فأرسلت فسألت - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون - فقالوا لها: إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا. فأنكحتها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها، " قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابة - رضي الله عنهم -. وروي القول بهذا - أي بأن الرضاعة من جهة المرأة لا من جهة الرجل - عن الزبير من الصحابة، وعن بعض علماء التابعين منهم سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وأبو قلابة، فالمسألة لم تكن إجماعية. وقد حمل الجمهور قول المخالفين في ذلك على عدم وصول السنة الصحيحة إليهم فيه، أو على تأويل ما وصل إليهم لقيام ما يعارض حمله على ظاهره عندهم، ويقال على الأول: إن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وعلى الثاني إنه اجتهاد منهم عارضته عندنا النصوص الظاهرة، ومتى ثبتت السنة الصحيحة امتنع العدول عنها لاجتهاد المجتهدين. وهذا ما جرى عليه علماء الإسلام في هذه المسألة وغيرها، فقد روي عن الأعمش أنه قال: كان عمارة، وإبراهيم، وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس، أي فأخذوا به ورجعوا عن رأيهم الأول.
فالذي جرى عليه العمل هو أن المرضعة أم لمن رضع منها، وجميع أولادها إخوة له، وإن تعددت آباؤهم، وأصولها أصول له، فتحرم عليه أمها كما تحرم بنتها وإخوتها خئولة له فتحرم عليه أخواتها. وأن زوج هذه المرضعة أب للرضيع أصوله أصول له، وفروعه فروع له، وإخوته عمومة له، فيحرم عليه أن يتزوج أمه كما يحرم عليه أن يتزوج أية بنت من بناته سواء كن من مرضعته، أو غيرها، فإن أولاده من المرضعة إخوة أشقاء للرضيع، ومن غيرها إخوة لأب كما أن أولادها هي من زوج آخر غير صاحب لقاح اللبن الذي رضع منه الرضيع إخوة لأم. ويحرم عليه أن يتزوج أحدا من بنات هؤلاء الإخوة، أو الأخوات من الرضاعة، وكذلك تحرم عليه عماته من الرضاعة، وهن إخوة أبيه بالرضاعة، فالسبع المحرمات بالنسب - وقد ذكرن بالتفصيل - محرمات بالرضاعة أيضا. وأما إخوة الرضيع، وأخواته فلا يحرم عليهم أحد ممن حرم عليه؛ لأنهم لم يرضعوا مثله فلم يدخل في تكوين بنيتهم شيء من المادة التي دخلت في بنيته فيباح للأخ أن يتزوج من أرضعت أخاه، أو أمها، أو بنتها، ويباح للأخت أن تتزوج صاحب اللبن الذي رضع منه أخوها، أو أختها، أو أباه، أو ابنه مثلا.
ومما يجب التنبيه له أن الناس قد غلب عليهم التساهل في أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة، أو من عدة نسوة، ولا يعنون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها، ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام كحرمة النكاح، وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب، فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته، أو عمته، أو خالته من الرضاعة، وهو لا يدري.
وظاهر الآية أن التحريم يثبت بما يسمى إرضاعا في عرف أهل هذه اللغة، قل أو كثر، ولكن ورد في الحديث المرفوع لا تحرم المصة والمصتان وفي رواية لا تحرم الإملاجة والإملاجتان - والإملاجة: المرة من أملجته ثديها إذا جعلته يملجه أي يمصه - والحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة، وروي عنها أيضا أنها قالت: " كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن " وقد اختلف علماء السلف والخلف في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى الأخذ بظاهر الآية من التحريم بقليل الرضاعة ككثيرها، ويروى هذا عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، والزهري، وقتادة، والحكم، وحماد، والأوزاعي، والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، ورواية عن أحمد. وذهب آخرون إلى أن التحريم بأقل من خمس رضعات، ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس، وهو إحدى ثلاث روايات عن عائشة وهو مذهب الشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وابن حزم. وذهب فريق ثالث إلى قول بين القولين، وهو أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا تحرم المصة والمصتان" فانحصر التحريم فيما زاد عليهما. وروي هذا عن أبي ثور، وأبي عبيدة، وابن المنذر، وداود بن علي، وهو رواية عن أحمد. وهنالك مذهب رابع، وهو أن التحريم لا يثبت إلا بعشر رضعات، ويروى عن حفصة أم المؤمنين، وهو الرواية الثانية عن عائشة، ومذهب خامس وهو أنه لا يثبت بأقل من سبع، وهو الرواية الثالثة عن عائشة.
ورواية الخمس هي المعتمدة عن عائشة، وعليها العمل عندها، وبها يقول أكثر أهل الحديث، ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث فيه إلى القول بنسخ شيء منها، فهي تتفق مع حديث منع تحريم المصتين والإملاجتين، ويعد تقييدا لنص القرآن وللأحاديث المطلقة كحديث الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما" قالوا: وتقييد بيان لا نسخ ولا تخصيص.
قال الذاهبون إلى الإطلاق أو إلى التحريم بالثلاث فما فوقها: إن عائشة نقلت رواية الخمس نقل قرآن لا نقل حديث فهي لم تثبت قرآنا؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ولم تثبت سنة فنجعلها بيانا للقرآن، ولا بد من القول بنسخها لئلا يلزم ضياع شيء من القرآن، وقد تكفل الله بحفظه، وانعقد الإجماع على عدم ضياع شيء منه، والأصل أن ينسخ المدلول بنسخ الدال إلا أن يثبت خلافه، وعمل عائشة به ليس حجة على إثباته، وظاهر الرواية عنها أنها لا تقول بنسخ تلاوته فيكون من هذا الباب، ويزداد على ذلك أنه لو صح أن ذلك كان قرآنا يتلى لما بقي علمه خاصا بعائشة، بل كانت الروايات تكثر فيه، ويعمل به جماهير الناس، ويحكم به الخلفاء الراشدون، وكل ذلك لم يكن بل المروي عن رابع الخلفاء وأول الأئمة الأصفياء القول بالإطلاق كما تقدم. وإذا كان ابن مسعود قد قال بالخمس فلا يبعد أنه أخذ ذلك عنها، وأما عبد الله بن الزبير فلا شك في أن قوله بذلك اتباع لها؛ لأنها خالته، ومعلمته، واتباعه لها لا يزيد قولها قوة ولا يجعله حجة. ثم إن الرواية عنها في ذلك مضطربة، فاللفظ الذي أوردناه في أول السياق رواه عنها مسلم - كما تقدم - وكذا أبو داود، والنسائي، وفي رواية لمسلم " نزل في القرآن عشر رضعات معلومات ثم نزل أيضا خمس معلومات " وفي رواية الترمذي " نزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك " وفي رواية ابن ماجه " كان فيما أنزل الله - عز وجل - من القرآن ثم سقط: لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات " فهي لم تبين في شيء من هذه الروايات لفظ القرآن، ولا السورة التي كان فيها إلا أن يراد برواية ابن ماجه أن ذلك لفظ القرآن. وقولها في رواية الترمذي: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي والأمر على ذلك " ظاهره أن الحكم، والعمل كان على ذلك، وقد علمت أنه ليس عندنا نقل يؤيد ذلك كما أنه ليس عندنا نقل يؤيد الرواية الأخرى القائلة: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وآية الخمس الرضعات مما يتلى من القرآن "، ويحتمل أن يراد بالأمر التلاوة، ولكنه يتبعه الحكم، والعمل، وظاهر رواية ابن ماجه أن العشر، والخمس ذكر في آية واحدة، ووصف الخمس بالمعلومات قال: ثم سقط أي نسخ فبطل حكم الخمس بذلك، وهذا يخالف مذهبها، وهو العمل بتحريم الخمس. ولها فيه حديث سهلة بنت سهيل وسيأتي قريبا، وفيه أنه واقعة حال، وأن العدد لا مفهوم له، وأنه ليس فيه ما يدل على الحصر، وأنه مخالف لروايتها في حديث الصحيحين إنما الرضاعة من المجاعة وستأتي، وأنه مخالف لما جرى عليه الجماهير سلفا وخلفا، فلا يعمل به القائلون بالخمس كالشافعية. ووصف الخمس بالمعلومات في رواية ابن ماجه دون العشر مخالف لما رواه سالم وأصحاب السنن الثلاثة من وصف العشر بها أيضا، فإنه لا يصح أن يقال: إن المراد عشر رضعات معلومات، أو خمس معلومات؛ لأن ذكر العشر حينئذ يكون لغوا، وهو غير جائز فلا بد من تقدير وصف للعشر يتفق مع السياق ويرتضيه الأسلوب. فعلم مما تقدم أن الروايات مضطربة يدل بعضها على بقاء التلاوة، وبعضها على نسخها، وبعضها على أن حكم العشر والخمس نزل مرة واحدة في جملة واحدة، وبعضها على أن حكم العشر نزل أولا ثم تراخى الأمر والعمل عليه حتى نزل حكم الخمس ناسخا لما زاد عليه.
وإذا رجحنا هذا الأخير برواية مسلم، والثلاثة له فلا بد أن نقول: إن هذا كان في سياق بيان محرمات النكاح؛ لأنه مقامه اللائق به، ولا يوجد سياق آخر يناسب أن توضع فيه تلك العبارة ثم تحذف منه، فالأقرب في تصوير ذلك إذا أن يكون أصل الآية (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم عشر رضعات معلومات)، ثم نزل بعد طائفة من الزمن عمل فيها الناس بقصر التحريم على عشر - استبدال لفظ " خمس " بلفظ " عشر "، وبقي الناس يقرءونها هكذا إلى ما بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا سأل سائل لماذا لم تثبت حينئذ في القرآن؟ أجابه الجامدون على الروايات من غير تمحيص لمعانيها بجوابين:
أحدهما، أنهم لم يثبتوها لأن الذين تلقوها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفي وهم يتلونها لم يبلغوا عدد التواتر!. ولا يبالي أصحاب هذا الجواب بمخالفته لإجماع من يعتد بإجماعهم على عدم ضياع شيء من القرآن، ولقوله - تعالى -:
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9].
ثانيهما: أنهم لم يثبتوها لعلمهم بأنها نسخت. وقول عائشة: إنها كانت تقرأ يراد به أنه كان يقرؤها من لم يبلغهم النسخ. وهذا الجواب أحسن وأبعد عن مثار الطعن في القرآن برواية آحادية، ولكنه خلاف المتبادر من الرواية. وإذا قال السائل: إذا صح هذا: فما هي حكمة نسخ العشر بالخمس عند عائشة، ومن عمل بروايتها، ونسخ الخمس أيضا عند من قبل روايتها وادعى أن الخمس نسخت أيضا بنسخ التلاوة لأنه الأصل، ولم يثبت خلافه؟ لعل أظهر ما يمكن أن يجاب به عن هذا هو أن الحكمة في هذا هي التدريج في هذا التحريم كما وقع في تحريم الخمر، بل لا يخطر في البال شيء آخر يمكن أن يقولوه، وإذا أنصفوا رأوا الفرق بين تحريم الخمر، وتحريم نكاح الرضاع واسعا جدا، فإن شرب الخمر يؤثر في العصب تأثيرا يغري الشارب بالعودة إليه حتى يشق عليه تركه فجأة، ولا كذلك ترك نكاح المرضعة أو بنتها مثلا، ثم إذا كانت علة التحريم بالرضاعة - وهي كون بعض بنية الرضيع مكونة من اللبن الذي رضعه - تتحقق بالرضعة، أو الثلاث، أو الخمس فكيف يجعلها العليم الحكيم عشرا، ثم خمسا، كما روي عن عائشة، ثم أقل من ذلك كما يقول ذلك من يقبل هذه الرواية عنها، ويدعي نسخها؟ وبعد هذا وذاك يقال: من استفاد من هذا التدريج فتزوج من رضع هو منها، أو بنت من رضع هو منها تسعا، أو ثماني أو سبعا أو ستا؟ ثم ماذا فعل هؤلاء بعد نسخ العشر؟ هل فارقوا أزواجهم، أم عفي عنهم، وجعل التحريم بما دون العشر خاصا بغيرهم؟
الحق أنه لا يظهر لهذا النسخ حكمة، ولا يتفق مع ما ذكر من العلة، وإن رد هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف، والخلف بها كما علمت، فإن لم نعتمد روايتها فلنا أسوة بمثل البخاري، وبمن قالوا باضطرابها خلافا للنووي، وإن لم نعتمد معناها فلنا أسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك كالحنفية وهي عند مسلم من رواية عمرة، عن عائشة، أو ليس رد عمرة، وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة، ولا فائدة، تم نسخه، أو سقوطه، أو ضياعه، فإن عمرة زعمت أن عائشة كانت ترى أن الخمس لم تنسخ، وإذا لا نعتد بروايتها، وإذا كان الأمر كذلك، فالمختار التحريم بقليل الرضاع وكثيره إلا المصة والمصتين إذ لا تسمى رضعة في الغذاء، وبمعناها الإملاجة والإملاجتان، فإنه من ملج الوليد الثدي إذا مصه وأملجته إياه جعلته يملجه، فإن رضع رضعة تامة ثبتت بها الحرمة وبهذا يجمع بين الأحاديث.
وفي الرضاع المحرم للنكاح بحث آخر يتعلق بسن الرضيع، فقد ذهب بعض علماء الأمة إلى أن الرضاع لا يؤثر إلا في سنه، ومدته المحدودة بقوله - تعالى -:
{ { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } [البقرة: 233] وصح هذا القول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر من علماء الصحابة وهو مذهب الشافعي وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد، ورواية عنه، ومذهب جمهور الظاهرية. وروي عن جماعة من علماء التابعين كسعيد بن المسيب، والشعبي، وقال بعضهم: إن الرضاع المحرم ما كان قبل الفطم، فإن فطم الرضيع، ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه، وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين، ولم يفطم كان رضاعه محرما، وصح هذا القول عن أم سلمة من أمهات المؤمنين، وعن ابن عباس في الرواية الأخرى، وروايته عن علي لم تصح، وقال به من التابعين الزهري، والحسن، وقتادة، وهو مذهب الأوزاعي على تفصيل له في الفطام لحول ثم الرضاع في أثناء الثاني، قال: إن تمادى فيه كان محرما، وإلا فلا. وقال بعضهم: إن الرضاع يؤثر في الصغر دون الكبر، ولم يذكروا تحديدا، وهذه الأقوال متقاربة.
وذهب بعض السلف، والخلف إلى التحريم برضاع الكبير، وإن كان شيخا، وهذا مذهب عائشة، ويروى عن علي أيضا، وقال به عروة، وعطاء، والليث بن سعد، وأبو محمد بن سعد، وعمدتهم في ذلك حديث عائشة عند مسلم، وأبي داود في واقعة سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي، وهو مروي بعدة ألفاظ مختصرة في مسلم، ومفصلة في سنن أبي داود، وفي التفصيل فائدة تبين ما في الواقعة من الإجمال، وتجلي ما قاله العلماء فيها، فيعرف أمثلها، وهو أن " أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة، فكان يدعى ابنه، فلما حرم الإسلام التبني صار سالم أجنبيا من أبي +++حذيفة وأهله فشق عليهم فراقه، وشق عليه وصار من الحرج دخوله على بيت أبي حذيفة كما كان يدخل، وامرأته في مهنتها لا تستغني عن إبداء شيء من زينتها التي حرم الله إبداءاها لغير المحارم، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا (أي في فضل الثياب التي تلبس وقت الشغل، أو النوم)، وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ هذا سياق أبي داود، وفي لفظ لمسلم أنها قالت: وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، وفي رواية: إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم تعني من حل دخوله بعد تحريم التبني لا من الريبة، وسوء الظن في عفته، فإنه كان منهم مكان الابن من قوة دينه، وتقواه في الإسلام، وكذلك كانت هي، وهي من المهاجرات الفاضلات. فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترضعه خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. قال بعضهم: لعل المراد أنها سقته لبنها في إناء.
يعارض هذا الحديث في معناه ما أخذ به الجمهور من حديث عائشة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنما الرضاعة من المجاعة" وحديث أم سلمة الذي صححه الترمذي وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام ومعنى " في الثدي " في زمنه أي سن الرضاعة، وحديث ابن مسعود عند أبي داود وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم" " يروى " أنشر " بالراء أي بسطه، ومده، وأنشز بالزاي ومعناه رفعه. وبسط العظام وارتفاعها كلاهما يكونان بنموها، والكبير لا تنمو عظامه، وترتفع بالرضاع، وإن كان له فيه شيء من الغذاء - وحديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" رواه الدارقطني في سننه بإسناد صحيح. وأفتى بذلك غير واحد من علماء الصحابة.
قال بعض الذاهبين إلى عدم تحريم الرضاع في الكبر لاسيما بعد الحولين: إن حديث سهلة بنت سهيل منسوخ؛ لأنه كان في أول الهجرة حين حرم التبني، وإن خفي نسخه عن عائشة، وقال بعضهم: إنه خاص بسالم، والتخصيص معهود في كل الحكومات المقيدة بالقوانين ويسمونه الاستثناء. وقال ابن تيمية: ليس حديث سهلة بمنسوخ، ولا مخصوص بسالم، ولا عام في حق كل أحد، وإنما هو رخصة لمن كان حاله مثل حال سالم مع أبي حذيفة، وأهله في عدم الاستغناء عن دخوله على أهله؛ أي مع انتفاء الريبة. ومثل هذه الحاجة تعرض للناس في كل زمان فكم من بيت كريم يثق ربه برجل من أهله، أو من خدمه قد جرب أمانته، وعفته، وصدقه معه فيحتاج إلى إدخاله على امرأته، أو إلى جعله معها في سفر، فإذا أمكن صلته به، وبها بجعله ولدا لهما في الرضاعة بشرب شيء من لبنها مراعاة لظاهر أحكام الشرع مع عدم الإخلال بحكمتها ألا يكون أولى! بلى وإن هذا اللبن ليحدث في كل منهم عاطفة جديدة.
القسم الثالث: محرمات المصاهرة، أي التي تعرض بسبب الزواج، وتحته الأنواع الآتية قال تعالى: { وأمهات نسائكم } يدخل في الأمهات أم المرأة التي يتزوجها الرجل وجداتها، ويدخل في النساء من يدخل بها الرجل بملك اليمين، كما تدخل في مثل قوله - تعالى -:
{ { نساؤكم حرث لكم } [البقرة: 223] وقوله: { { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } [البقرة: 187] وقوله: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } [النساء: 21] وإن لم تدخل في قوله: { وإذا طلقتم النساء } [البقرة: 231] ولا قوله: { للذين يؤلون من نسائهم } [البقرة: 226] لأن الطلاق، والإيلاء خاص بالزوجات، ولا يشترط في تحريم أم المرأة دخوله بها؛ لأن القرآن لم يشترط الدخول هنا كما اشترطه في بنتها كما يأتي، وهي بمجرد العقد تكون من نسائه، وبهذا قال جمهور الصحابة، ومن بعدهم من علماء الملة ومنهم أئمة الفقه الأربعة. وروي عن بعض الصحابة أن من عقد على امرأة فماتت، أو طلقها قبل أن يدخل بها جاز له أن يتزوج أمها، منهم ابن عباس، وزيد بن ثابت في إحدى الروايتين عنهما. وأما المملوكة فلا تعد من نسائه إلا إذا استمتع بها وحينئذ تحرم عليه أمها.
وقوله - عز وجل -: { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } يدخل فيه تحريم بنات امرأة الرجل عليه إذا كان قد دخل بها، والمراد بالدخول بالمرأة يعرفه كل عربي حتى عامة المولدين، ويدخل في ذلك بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإن سفلن؛ لأنهن من بناتها في عرف أهل اللغة، ولا يدخل في هذا التحريم أم زوجة الابن وبنتها، والربائب: جمع ربيبة، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره، سمي ربيبا له لأنه يربه كما يرب ولده أي يسوسه، فهو معنى مربوب، والقاعدة أن يقال في مؤنثه ربيب كمذكره، وإنما قيل ربيبة لأنه جعل اسما. والجماهير على أن قوله - تعالى -: { اللاتي في حجوركم } وصف لبيان الشأن الغالب في الربيبة، وهو أن تكون في حجر زوج أمها (والحجر بالفتح والكسر الحضن، وهو مكان ما يحجره ويحوطه الإنسان أمام صدره بين عضديه وساعديه) كما قال:
{ { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [الإسراء: 31] لأن الغالب أنهم لم يكونوا يقتلونهم إلا من خشية الفقر، أو من الفقر وذلك ليس قيدا للنهي، فلو قتلوهم بسبب آخر كان محرما أيضا. ويقال: فلان في حجر فلان أي في كنفه ورعايته، قالوا وهو المراد في الآية، وفيه مع ذلك إشارة إلى جواز جعل الربيبة في الحجر حقيقة أو تجوزا، كأن تكون في غاية القرب من زوج أمها يخلو بها، ويسافر معها، ويعاملها بكل ما يعامل به بنته، وقال الأستاذ الإمام: ذكر هذا الوصف لإشعار الرجل بالمعنى الذي يوضح له علة التحريم، ويقررها في نفسه، وهو كون بنت زوجته في مكان بنته؛ لأن زوجته كنفسه ففرعها كفرعه، فهو وصف يحرك عاطفة الأبوة في الرجل، وهو كون الربيبة في حجره يحنو عليها حنوه على بنته، وليس عندي عنه في الآية غير هذه العبارة. وقالت الظاهرية: إن هذا الوصف قيد، وإن الرجل لا تحرم عليه ابنة امرأته إذا لم تكن في حجره، وروي هذا عن بعض الصحابة، فقد روى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال: " كان عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها " (أي حزنت) فلقيني علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة فقال: لها بنت؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، قال: انكحها. قلت: فأين قوله - تعالى -: { وربائبكم اللاتي في حجوركم }؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك " ويروى أن ابن مسعود كان يقول بذلك، ثم رجع عنه، ويمكن أن يقال: إن التي لا تكون في حجره لا تكون ربيبة له في الواقع؛ لأنه لا يربها ولا يسوسها، ويمكن أن يقال أيضا: إنه لا يجد لها في نفسه عاطفة الأبوة التي تفنى فيها، أو لا تجتمع معها عاطفة الشهوة، فالاحتياط عندي ألا يتزوجها، ولا يخلو بها، ولا سيما إذا لم يجد لها في نفسه عاطفة الأبوة، وقد استدل بعضهم بقوله - تعالى -: { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } على أن الربيبة تحرم، وإن لم تكن في حجر الزوج؛ لأنه تفريع لبيان مفهوم ما قيد به التحريم، فلو كان الكون في الحجور قيدا أيضا لقال: فإن لم تكونوا دخلتم بهن، أو لم تكن ربائبكم في حجوركم فلا جناح عليكم. والجناح فسروه بالإثم، وعندي أن تفسيره بالتضييق، والأذى أحكم، وأولى، قال صاحب اللسان: " والجناح ما تحمل من الهم، والأذى، أنشد ابن الأعرابي:

ولاقيت من جمل وأسباب حبها جناح الذي لاقيت من تربها قبل

وقال أيضا: وقيل في قوله: فلا جناح عليكم أي لا إثم عليكم ولا تضييق " اهـ. والحاصل أن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة، ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها.
وذهبت الحنفية إلى أن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذلك إذا لمسها بشهوة، أو قبلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة، بل قالوا أيضا: إذا لمس يد أم امرأته في حال الشهوة، ولو خطأ فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا وألحقوا ذلك بحرمة المصاهرة بالقياس وتوسعوا في ذلك توسعا ضيقوا فيه تضييقا! ورد عليهم بأن الزنا ومقدماته ليس فيها شيء من معنى المصاهرة التي جعلها الشارع كالنسب في بعض الأحكام، وبأن لفظ الآية ينافي ذلك فاللواتي يزنى بهن، أو يلمسن، أو يقبلن، أو ينظر لهن بشهوة لا يصرن من نساء الزناة، أو المتمتعين منهن بما دون الزنا، فعبارة القرآن لا تدل على ذلك بنصها، ولا فحواها، وحكمة حرمة المصاهرة وعلتها لا تظهر فيها، ثم إن ما ذكروه من الأحكام في ذلك هو مما تمس إليه الحاجة وتعم به البلوى أحيانا، وما كان الشارع ليسكت عنه فلا ينزل به قرآن، ولا تمضي به سنة، ولا يصح فيه خبر، ولا أثر عن الصحابة، وقد كانوا قريبي العهد بالجاهلية التي كان الزنا فيها فاشيا بينهم، فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركا في الشرع، أو تدل عليه علله، وحكمه لسألوا عن ذلك وتوفرت الدواعي على نقل ما يفتون به.
ثم قال - سبحانه -: { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } الحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة، ويقال للرجل: حليل، واللفظ مأخوذ من الحلول؛ فإن الزوجين يحلان معا في مكان واحد وفراش واحد، وقيل: من الحل بالكسر، أي كل منهما حلال للآخر، وقيل: من حل الإزار (بفتح الحاء)، ويدخل في الحلائل الإماء اللواتي يستمتع بهن، واللفظ يصدق عليهن بكل معنى قيل في اشتقاقه. ويدخل في الأبناء أبناء الصلب مباشرة، وبواسطة كابن الابن، وابن البنت، فحلائلهما تحرم على الجد. ولا يدخل فيه الابن من الرضاعة؛ لأنه ليس من صلبه لا بالذات، ولا بالواسطة فهو يخرج بهذا القيد بحسب المتبادر منه، وبذلك قال بعض علماء الملة: ولكن المروي عن أئمة الفقه الأربعة - إلا ما روي من قول للإمام الشافعي - أن ابن الرضاع تحرم حليلته إما لدخوله في الأبناء هنا، وجعل القيد لإخراج الدعي الذي يتبنى، وإما لما تقدم من أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. ورد عليهم الآخرون بأن حرمة امرأة الابن لا تحرم بالنسب، وإنما تحرم بالمصاهرة، فهذا حجة عليكم، وبأن الدعي ليس ابنا فيحتاج إلى إخراجه لا حقيقة كما هو بديهي، ولا شرعا، ولا عرفا، فإن الله - تعالى - لما أنزل:
{ { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [الأحزاب: 4] بطل هذا العرف في الإسلام. قال الإمام ابن القيم في تقرير حجة المخالفين للمذاهب الأربعة في هذه المسألة ما نصه:
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فهو من أكبر أدلتنا، وعمدتنا في المسألة؛ فإن تحريم حلائل الآباء، والأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه وهو الصهر، فيجب الاقتصار بالتحريم على مورد النص. (قالوا): والتحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب لا على تحريم المصاهرة، فتحريم المصاهرة أصل قائم بذاته، والله - سبحانه - لم ينص في كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب، ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر ألبتة بنص، ولا إيماء، ولا إشارة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب، وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهر، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والصهر. (قالوا): وأيضا فالرضاع مشبه بالنسب، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه، وهو الحرمة، والمحرمية فقط دون التوارث، والإنفاق، وسائر أحكام النسب، فهو نسب ضعيف، فأخذ بحسب ضعفه بعض أحكام النسب، ولم يقو على سائر أحكام النسب، وهي ألصق به من المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه، وأما المصاهرة، والرضاع فإنه لا نسب بينهما، ولا شبهة نسب، ولا بعضية، ولا اتصال. (قالوا): ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة، ويقطع العذر، فمن الله البيان وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، والانقياد، فهذا منتهى النظر في هذه المسألة، فمن ظفر فيها بحجة فليرشد إليها، وليدل عليها؛ فإنا لها منقادون، وبها معتصمون، والله الموفق للصواب " انتهى كلامهرحمه الله .
ولما بين تبارك اسمه ما يحرم بالأسباب الثابتة، وقدم الأقوى في علته، وحكمته على غيره بين بعد ذلك ما يحرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم فقال: وأن تجمعوا بين الأختين أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الاستمتاع الذي يراد به الولد سواء كان بعقد النكاح، أو ملك اليمين. هذا ما عليه جمهور الصحابة، وعلماء التابعين، ومن تبعهم، وهو المتبادر، وروي عن بعضهم الخلاف في الجمع بين الأختين بملك اليمين مع إطلاق إباحة الاستمتاع بما ملكت الأيمان على الإطلاق، وروي عن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وحجة الجمهور أن سائر ما في الآية من المحرمات عام في النكاح، والملك، فلا وجه لاستثناء هذا وحده منها. وأن إطلاق إباحة ما ملكت الأيمان إنما هو بيان لسبب الحل دون شروطه التي تعلم من نصوص أخرى، فمن ملك إحدى محارمه لا يحل له الاستمتاع بها، ولو جاز الجمع بين الأختين في استمتاع الملك لجاز الجمع بين الأم، وبنتها في ذلك، ومن يقول بذلك؟ والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين في ملك اليمين، وكذلك الجمع بينهما بالنكاح، والملك، كأن يكون مالكا لإحداهما، ومتزوجا الأخرى، فيحرم عليه أن يستمتع بهما معا. ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه، كأن يعتق المملوكة، أو يهبها، ويسلمها للموهوبة له، والتفصيل في كتب الفقه، ويدخل في ذلك الأختان من الرضاعة، وقد فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من تحريم الجمع بين الأختين ما في معناه وهو الجمع بين المرأة، وعمتها، أو خالتها قال العلماء: والضابط في هذا أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى: وهو الذي تظهر فيه العلة وتنطبق عليه الحكمة.
ثم قال - عز وجل -: { إلا ما قد سلف } أي حرم عليكم ما ذكر لكن ما سلف لكم قبل التحريم لا تؤاخذون عليه، وكانوا يجمعون بين الأختين في الجاهلية وقيل: إلا ما سلف في الشرائع السابقة. وورد في حديث أحمد، وأبي داود، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه
"عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: طلق أيتهما شئت" { إن الله كان غفورا رحيما } لا يؤاخذكم بما سلف منكم في زمن الجاهلية إذا أنتم التزمتم العمل بشريعته في الإسلام، فمن مغفرته أن يمحو من نفوسكم أثر تلك الأعمال المنكرة التي تنافي سلامة الفطرة، ومن رحمته بكم أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لكم، وتوثيق روابط القرابة، والصهر، والرضاع بينكم لتتراحموا، وتتعاطفوا، وتتعاونوا على البر، والتقوى فتنالوا تمام الرحمة في الدنيا والآخرة.