التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً
٧١
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً
٧٢
وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
٧٣
-النساء

تفسير المنار

الأستاذ الإمام: الكلام من أول السورة إلى قوله تعالى: { { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } [النساء: 36]، في موضوع خاص، وهو ما يكون بين الأهل والأقارب والأزواج واليتامى من المعاملات المالية والمصاهرة والإرث، والآيات من قوله: { واعبدوا الله } الآية إلى هنا في مطالبة المؤمنين بالإخلاص في العبادة وحسن المعاملة بين الأقربين واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب والأرقاء وسائر الناس، وأحكام بعض العبادات وبيان ما فيها من تثبيت النفس على الصدق في المعاملة، وضرب لهم فيها مثل اليهود الذين كان لهم كتاب يهتدون به ونهاهم أن يكونوا مثلهم، وعلمهم كيف يعملون بأمرهم برد الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله.
وأكد أمر طاعة الرسول وبين حال المنافقين الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت، ولا شك أن المسلمين إذا عملوا بهذه الأحكام صلح حالهم فيما بينهم، واستقامت أمورهم وصاروا متحدين متعاونين على الأعمال النافعة وحفظ الجامعة، ووثق بعضهم ببعض في التعاون على مصالحهم والدفاع عن حقيقتهم، فالغرض من هذه الوصايا انتظام شمل المسلمين وصلاح أمورهم الخاصة والعامة.
بعد بيان هذا أراد الله - تعالى - أن يوجه المسلمين إلى أمر آخر يلي اجتماعهم على عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وانتظام شئونهم وصلاح حالهم، وهو ما يتم لهم به الأمن وحسن الحال بالنسبة إلى غيرهم، وذلك أنه كان للمسلمين عند التنزيل أعداء يناصبونهم ويفتنونهم في دينهم، والإنسان لا يتم له نظام في معيشته ولا هناء ولا راحة إلا بالأمنين كليهما: الأمن الداخلي، والأمن الخارجي، فلما أرشدنا الله إلى ما به أمننا الداخلي أرشدنا إلى ما به أمننا مع الخارجين عنا المخالفين لنا في ديننا، وذلك إما بمعاهدات تكون بيننا وبينهم نطمئن بها على ديننا وأنفسنا ومصالحنا، وإما باتقاء شرهم بالقوة، وهذه الآيات في بيان ذلك، وهي كثيرة كما يأتي.
أقول: كان الأظهر عندي أن يقال: إن الله - تعالى - بين لنا أصل الحكومة الإسلامية في آية الأمانات والعدل، وقوله: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } إلخ، وكان قد بين لنا في هذه السورة كثيرا من مهمات الأحكام الدينية والشخصية والمدنية - كما يقال في عرف هذا العصر - ثم شدد النكير على من يرغب عن حكم الرسول إلى حكم غيره من أهل الطغيان، بعد هذا كله شرع يبين لنا بعض الأحكام الحربية والسياسية ويبين لنا الطريق الذي نسير عليه في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول المحكمة الحكيمة من الأعداء الذين يعتدون علينا فقال:
{ ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم } قال الراغب: الحذر - بالتحريك - احتراز عن مخيف، وقال - عز وجل -: خذوا حذركم، أي: ما فيه الحذر من السلاح وغيره اهـ، وظاهره التفرقة بين الحذر بالتحريك والحذر بكسر فسكون، وفي لسان العرب أن الحذر والحذر الخيفة.
ومن خاف شيئا اتقاه بالاحتراس من أسبابه قال في الأساس: رجل حذر متيقظ محترز وحاذر مستعد، وقال الرازي: الحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر والمثل والمثل، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من الخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه، والمعنى: احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم، هذا ما ذكره صاحب الكشاف ثم نقل عن الواحدي فيه قولين، أحدهما: أنه السلاح، والثانية: أن المعنى: احذروا عدوكم، والتحقيق ما قدمناه وهو أن الحذر الخيفة ويلزمه الاحتراز والاستعداد.
الأستاذ الإمام: الحذر والحذر: الاحتراز والاستعداد لاتقاء شر العدو وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته، وإذا كان الأعداء متعددين فلا بد من أخذ الحذر من معرفة ما بينهم من الوفاق والخلاف، وأن تعرف الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا، وأن يعمل بتلك الوسائل. فهذه ثلاثة لا بد منها، وذلك أن العدو إذا أنس غرة منا هاجمنا، وإذا لم يهاجمنا بالفعل كنا دائما مهددين منه، فإن لم نهدد في نفس ديارنا كنا مهددين في أطرافها، فإذا أقمنا ديننا أو دعونا إليه عند حدود العدو فإنه لا بد أن يعارضنا في ذلك، وإذا احتجنا إلى السفر إلى أرضه كنا على خطر، وكل هذا يدخل في قوله: { خذوا حذركم } كما قال في آية أخرى:
{ { وأعدوا لهم ما استطعتم } [الأنفال: 60]، إلخ، وعلى النفوس المستعدة للفهم أن تبحث في كل ما يتوقف عليه امتثال الأمر من علم وعمل.
ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه وبلاده، طرقها ومضايقها وجبالها وأنهارها، فإننا إذا اضطررنا في تأديبه إلى دخول بلاده فدخلناها ونحن جاهلون لها كنا على خطر، وفي أمثال العرب: " قتلت أرض جاهلها "، وتجب معرفة مثل ذلك من أرضنا بالأولى حتى إذا هاجمنا فيها لا يكون أعلم بها منا.
ويدخل في الاستعداد والحذر معرفة الأسلحة واتخاذها واستعمالها، فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال فيجب تحصيل كل ذلك كما هو الشأن في هذه الأيام، ذلك أنه أطلق الحذر، أي: ولا يتحقق الامتثال إلا بما تتحقق به الوقاية والاحتراز في كل زمن بحسبه، يريدرحمه الله - تعالى -: أنه يجب على المسلمين في هذا الزمان اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيه من المدافع بأنواعها والبنادق والبوارج المدرعة وغير ذلك من أنواع السلاح وآلات الهدم والبناء وكذلك المناطيد الهوائية والطيارات، وأنه يجب تحصيل العلم بصنع هذه الأسلحة والآلات وغيرها وما يلزم لها، والعلم بسائر الفنون والأعمال الحربية وهي تتوقف على ما أشار إليه من العلوم الأخر كتقويم البلدان وخرت الأرض.
قال: وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله تعالى عنهم - عارفين بأرض عدوهم، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عيون وجواسيس في مكة يأتونه بالأخبار، ولما أخبروه بنقض قريش العهد استعد لفتح مكة، ولما جاء أبو سفيان لتجديد العهد لظنه أنهم لم يعلموا بنكثهم لم يفلح وكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة له واحدا. وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح "، وهذه كلمة جليلة، فالقول وعمل النبي وأصحابه كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته.
أقول: تعرض الرازي هنا لمسألة القدر وما عسى أن يقال من عدم نفع الحذر وكونه عبثا، قال: وعنه قال عليه الصلاة والسلام:
"المقدور كائن والهم الفضل" ، وقيل أيضا: "الحذر لا يغني من القدر"، فنقول: إن صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع ; فإنه يقال: إذا كان الإنسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الإيمان، وإن كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الإيمان والطاعة، فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية، والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الأمر بالحذر أيضا داخلا في القدر، فكان قول القائل: " أي فائدة في الحذر " كلاما متناقضا لأنه لما كان الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر؟ انتهى كلام الرازي.
أقول: إن المسلمين قد ابتلوا بمسألة القدر كما ابتلي بها من قبلهم، وقد شفي غيرهم من سم الجهل بحقيقتها، فلم يعد مانعا لهم من استعمال مواهبهم في ترقية أنفسهم وأمتهم، ولما يشف المسلمون، وقد كشفنا الغطاء عن وجه المسألة غير مرة ولم نر بدا مع ذلك من العود إليها في مثل هذا الموضع، لا لأن مثل الرازي ذكرها بل لأن المسلمين أمسوا أقل الناس حذرا من الأعداء، حتى إن أكثر بلادهم ذهبت من أيديهم وهم لا يتوبون ولا يذكرون، ولا يتدبرون أمر الله في هذه الآية وما في معناها ولا يمتثلون، ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في وجهك كلمة القدر، ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي.
أما حديث: المقدور كائن إلخ، فلا أذكر أنني رأيته في كتب المحدثين بهذا اللفظ، ولكن روى البيهقي في الشعب والقدر مرفوعا: لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك وهو ضعيف، وأما الحديث الثاني الذي عبر عنه بقوله: " وقيل أيضا " فقد رواه الحاكم عن عائشة بلفظ: لا يغني حذر من قدر وصححه وما أراه يصح، وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، والرازي ليس من رجال الحديث ولكنه رأى بالعقل أنه مخالف للآية أو مضعف من تأثير الأمر فيها، وكيف يقول الله: خذوا حذركم، ويقول رسوله: إن الحذر لا ينفع لأن العبرة بالقدر الذي لا يتغير!
وإني على استبعادي لصحة الحديث، وميلي إلى أنه من وضع المفسدين الذين أفسدوا بأس الأمة بأمثال هذه الأحاديث، أقول: إنه لا يناقض الآية، فإن الله أمرنا بالحذر لندفع عنا شر الأعداء ونحفظ حقيقتنا لا لندفع القدر ونبطله، والقدر عبارة عن جريان الأمور بنظام يأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده.
ثم فرع على أخذ الحذر ما هو الغاية له والمقصد منه أو المتمم له، فقال: { فانفروا ثبات أو انفروا جميعا }، النفر: الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كالفزع عن الشيء وإلى الشيء، كما قال الراغب، ومن الأول
{ { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا } [الاسراء: 41]، وهم إنما ينفرون عن القرآن لا إليه، ومن الثاني النفر إلى الحرب وفيه آيات، وكانوا إذا استنفروا الناس للحرب يقولون: النفير النفير، والثبات: جمع ثبة بضم ففتح، وهي الجماعة المنفردة، والمعنى فانفروا جماعة في إثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا، وهو الذي يتعين إذا كان الجيش كثيرا أو كان موقع العدو يقتضي ذلك وهو الغالب، أو انفروا كلكم مجتمعين، إذا قضت الحال بذلك، أو المعنى فانفروا سرايا وطوائف على قدر الحاجة، أو نفيرا عاما، ويجب هذا إذا دخل العدو أرضنا كما قال الفقهاء.
الأستاذ الإمام: النفر مستعمل في الخروج إلى الحرب ثبات جماعات، ولا تتقيد الجماعة بعدد معين، و جميعا يراد به جميع المؤمنين على الإطلاق، وهذا على حسب حال العدو، وإن أخذ الحذر ليشمل مع ما تقدم كيفية سوق الجيش وقيادته وهو النفر، ولما كان هذا مما قد يتساهل فيه خصه بالذكر فأمر به بهذا التفصيل، ولو لم يصرح به لكان الاجتهاد في أخذ الحذر مما قد يقف دونه فلا يصل إليه، وهو أن النفر على حسب الحاجة إلى مقاومة العدو، وهو أن يرسل الجيش جماعات وفرقا كما عليه العمل حتى الآن، فإذا احتيج في المقاومة إلى نفر جميع أفراد الأمة وخروجهم للجهاد وجب وهو قوله: { أو انفروا جميعا } وليس المراد أن يكون النفر على كيفيتين الأولى: أن يقسم الجيش إلى فرق وسرايا، والثانية: أن يسير خميسا واحدا، ليس هذا هو المراد، وإنما المراد الأول.
قال: ويتوقف امتثال هذا الأمر على أن تكون الأمة كلها مستعدة دائما للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرنوا عليها بالعمل، فيظهر أن المعافاة من الخدمة العسكرية ليست شرفا بل هي إباحة لترك ما أوجبه الله في كتابه. أقول: ويدخل فيه اقتناء السلاح مع العلم بكيفية استعماله والتمرن على الرمي بالمدافع وببندق الرصاص في هذا الزمان، كما كانوا يتمرنون على رمي السهام، وقد قصر المسلمون في هذا وسبقهم إليه من يعيبونهم بأنهم أمة حربية، فصارت أمة السلام بدعواها قدوة لأمة الحرب في الحرب وآلاته، فيجب على الحكومة الإسلامية أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى فيه عالة على غيرها، ويجب على الأمة أن تواتيها وتساعدها عليه، وأن تلزمها إياه إذا هي قصرت فيه.
{ وإن منكم لمن ليبطئن } الخطاب لمجموع المؤمنين في الظاهر وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء وهم الأقل، فالمنافقون يرغبون عن الحرب لأنهم لا يحبون بقاء الإسلام وأهله فيدافعوا عنه ويحموا بيضته، فكان هؤلاء يبطئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والآخرون يبطئون بأنفسهم فقط، والتبطؤ يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء معا، والبطء التأخر عن الانبعاث في السير.
قال الأستاذ: أي: يبطئ هو عن السير إبطاء لضعف في إيمانه، والإتيان بصيغة التشديد للمبالغة في الفعل وتكراره، وليس معناه أن يحمل غيره على البطء، فإن الخطاب للمؤمنين وهذا لا يصدر عن مؤمن، ويقال في اللغة: " بطأ " بالتشديد (لازم) بمعنى أبطأ وقد شرح الله حال هذا القسم من الضعفاء توبيخا لهم وإزعاجا إلى تطهير نفوسهم وتزكيتها فقال:
{ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } فشكره لله على عدم شهوده لتلك الحرب دليل على ضعف إيمانه { ولئن أصابكم فضل من الله } كالظفر والغنيمة { ليقولن } - { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } - { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } أي ليقولن قول من ليس منكم، ولا جمعته مودة بكم: يا ليتني كنت معهم فأفوز بذلك الفضل فوزهم، فهو قد نسي أنه كان أخا لكم، وكان من شأنه أن يخرج معكم، وما منعه أن يخرج إلا ضعف إيمانه، ثم إن تمنيه بعد الظفر أو الغنيمة لو كان معكم دليل على ضعف عقله وكونه ممن يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وهم الذين تشير إليهم الآية التالية.
هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في الآية وهو أحد قولين للمفسرين، رجحوه بكون الخطاب للذين آمنوا ثم بقوله: { وإن منكم } ولم يقل: " فيكم "، وبما في معناه من قوله:
{ { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [التوبة: 38]. والقول الثاني: أن هؤلاء المبطئين هم المنافقون ; لأن هذه الصفات لا تكون إلا لهم، فإن المؤمن مهما كان ضعيف الإيمان لا يقول هذا القول عند مصيبة المؤمنين، ولا يعد من نعم الله عليه أنه لم يكن معهم شهيدا، بل يستحي من الله - عز وجل - ويلوم نفسه إن أطاعت داعي الجبن ويستغفر ربه من ذلك، ولا يكون شديد الشره والحرص على المشاركة في الفوز والغنيمة.
فالآية في المنافقين سواء كان التبطؤ فيها لازما بمعنى الإبطاء أو متعديا بمعنى حمل الناس عليه، وقد أسند الله - تعالى - كلا المعنيين إلى المنافقين في عدة آيات، والظاهر هنا معنى الإبطاء عن الخروج ; إذ لو بطأ غيره وخرج هو لكان قد شهد الحرب فلا معنى لسروره إذا أصيبوا، ولا لتمنيه لو كان معهم إذا ظفروا، ويصح أن يقال: إن من أبطأ يبطئ غيره بإبطائه إذ يكون قدوة رديئة لمثله من منافق أو جبان، ويبطئه أيضا بقوله حتى لا ينفرد بهذا الذنب، فإن الفضيحة والمؤاخذة على المنفرد أشد، وإذا كثر المذنبون يتعسر أو يتعذر عقابهم، ولأجل هذا تتألف العصابات في هذا الزمان للأعمال التي يعاقب عليها الحكام، ولفظ التبطئ يدل على كونه يبطئ غيره بسبب إبطائه، فهو أبلغ من غيره.
هؤلاء الذين اختاروا أن المبطئ هو المنافق قد أجابوا عن جعله من المؤمنين بقوله - تعالى - لهم: منكم بأنه منهم بالزعم والدعوى أو في الظاهر دون الباطن ; لأنه كان يعامل معاملة المؤمنين وتجري عليه أحاكمهم، وزاد بعضهم وجها ثالثا وهو أنه منهم في الجنس والنسب والاختلاط وليس بشيء.
يجزم هؤلاء بأن الإيمان ينافي ما ذكر من التبطئ عن القتال بكل من معنييه مع ذينك القولين عند المصيبة، وعند الظفر والغنيمة، فإن من يبطئ ويقول ذلك لا يكون له هم ولا عناية بأمر دينه، وإنما أكبر همه شهواته وربحه من الدين حتى إنه يعد مصيبة المسلمين نعمة إذا لم يصبه سهم منها، فليحاسب المسلمون في هذا الزمان أنفسهم، وليزنوا بهذه الآيات إيمانهم.
ثم إن قوله تعالى: { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } جملة معترضة بين القول ومقوله، وذكر المودة هنا نكرة منفية في سياق التشبيه في أوج البلاغة الأعلى فهي كلمة لا تدرك شأوها أخرى ولا تنتهي إلى غورها في التأثير.
ذلك بأن قائل ذلك القول الذي لا يقوله من كان بينه وبين المؤمنين مودة ما معدود من المؤمنين الذين هم بنص كتاب الله إخوة بعضهم أولياء بعض، وبنص حديث رسول الله: تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم، وهم كأعضاء الجسم الواحد، وكالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا كان هذا مكان كل مؤمن من سائر المؤمنين، فكيف يصدر عن أحد منهم مثل ذلك القول وذلك التمني الذي يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله وفضله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه، وهو لا يعقل أن يصدر عمن كان بينه وبينهم مودة ما ولو قليلة في زمن ما ولو بعيدا.
أعني أن قليلا من المودة كان في وقت ما ينبغي أن يمنع عن مثل ذلك التمني، وفي هذا من التقريع والتوبيخ بألطف القول وأرق العبارة ما لا يقدر على مثله بلغاء البشر، ومن فوائده: أن يؤثر في نفس من يذوقه التأثير الذي لا يدنو من مثله النبز بالألقاب والطعن بهجر القول، التأثير الذي يحمل صاحبه على التأمل والتفكر في حقيقة حاله، ومعاتبة نفسه، فإن كان فيه بقية من الرجاء تاب إلى ربه ورجع كله إلى حقيقة دينه، هذه هي فائدة تلك الجملة المعترضة، وبالله ما أعجب التشبيه فيها ونفي الكون وتنكير المودة إنك إن تعط ذلك حقه من التأمل، ويؤتك ذوق الكلام قسطه من البلاغة، فقد أوتيت آية من آيات الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوقين، وكشف لك عن سر من أسرار عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا الكتاب المبين.
قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { كأن لم تكن } بالتاء، والباقون " يكن " بالياء، ومثل ذلك معروف في التنزيل وكلام العرب، فتأنيث الفعل هو الأصل لأن المسند إليه مؤنث، ولكن التأنيث فيه لفظي لا حقيقي، ولهذا جاز تذكير الفعل وحسن، ويكثر مثله ولا سيما في حال الفصل أي: إذا فصل بين الفعل وفاعله أو اسمه فاصل، ومن الأول قوله:
{ { قد جاءتكم موعظة من ربكم } [يونس: 57]، ومن الثاني: { { فمن جاءه موعظة من ربه } [البقرة: 275]، ذكر الفعل، وقد فصل بينه وبين فاعله بالضمير الذي هو المفعول.