التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٣
-المائدة

تفسير المنار

أخرج أحمد والبخاري ومسلم، عن ابن عمر قال: " إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نسخم وجوههما ويخزيان. قال: كذبتم، إن فيها الرجم { { فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [آل عمران: 93] فجاءوا بالتوراة، وجاءوا بقارئ لهم - وفي رواية أحمد زيادة: " أعور " يقال له ابن صوريا - فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا هي تلوح (أي آية الرجم) فقالوا: يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فلقد رأيته يجنأ عليها (أي ينحني) يقيها الحجارة بنفسه.
ولفظ مسلم: نسود وجوههما (وهو بمعنى التسخيم هنا والتحميم في رواية أخرى; فالأول من السخام وهو سواد القدر، والثاني من الحمة وهي الفحمة) ونحملهما ونخالف بين وجوههما; أي نركبهما ونجعل وجوههما إلى مؤخر الدابة، وهو المراد من الخزي; أي الفضيحة. وفيها أن الذي أمر القارئ أن يرفع يده هو عبد الله بن سلام.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: اللهم لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه "، وأمر به فرجم، فأنزل الله: { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إلى قوله: { إن أوتيتم هذا فخذوه } يقول: ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل:
{ { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [المائدة: 44] { { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [المائدة: 45] { { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [المائدة: 47]. قال: هي في الكفار كلها.
هذا أصح ما ورد في سبب نزول الآيات، وهاك تفسيرها:
{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } الخطاب بوصف الرسول تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد إلا في هذا الموضع، وفي موضع آخر من هذه السورة، وسيأتي، ومثله { يا أيها النبي } وورد في بضع سور.
وفي هذا التشريف والتكريم تعليم وتأديب للمؤمنين يتضمن النهي عن مخاطبته باسمه والأمر بأن يخاطبوه بوصفه، وكذلك كان يدعوه أصحابه: يا رسول الله، وجهل هذا الأدب بعض الأعراب; لما كانوا عليه من سذاجة البادية وخشونتها، فكانوا ينادونه باسمه " يا محمد " حتى أنزل الله تعالى:
{ { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [النور: 63] فلم يعد إلى دعائه باسمه أحد، ولكن المفسرين يغفلون عن هذا، فيكرر كثير منهم كلمة " يا محمد " عند تفسيرهم لخطاب الله لرسوله بمثل: { { إنا أعطيناك الكوثر } [الكوثر: 1] وما أشبهه من الخطاب، وأخذه عنهم قراء التفسير، فيكادون يقولونه في تفسير كل خطاب، وإن لم يذكر النداء في الكتاب.
والحزن ضد السرور، وهو ضرب من آلام النفس يجده الإنسان عند فوت ما يحبه، ويستعمل الفعل الثلاثي منه متعديا بـ " على " كحزن فلان على ولده، ومتعديا بنفسه; كحزنه الأمر، وهذه لغة قريش. وتميم تعديه بالهمزة فتقول: أحزنه موت ولده.
والحزن مذموم طبعا وشرعا مهما كان سببه; ولهذا نهى الله تعالى عنه في هذه الآية، وفي آيات أخرى، وجعل التجرد منه ومن مقابله، وهو فرح البطر والخفة بالأشياء المحبوبة، غاية لكمال الإيمان في قوله:
{ { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } [الحديد: 23].
وأما الفرح والسرور بالحق والفضل، دون أعراض الدنيا ولذاتها، فهو محمود
{ { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } [يونس: 58] كما أن حزن الرحمة والرأفة عن موت الولد وغيره من الصفات الفطرية الشريفة، لا ما تكلفه المرء من لوازمه.
فإن قيل: إن الحزن ألم طبيعي يعرض للإنسان عند فوت ما يحبه، وليس أمرا اختياريا؛ فكيف نهى الله تعالى عنه؟ قلنا: إن النهي عن الحزن يراد به النهي عن لوازمه التي يفعلها كثير من الناس مختارين، فتكون محركة لذلك الألم ومجددة له ومبعدة أمد السلوى، والأمر بضدها من تكلف الأعمال التي تشغل النفس وتصرفها عن التذكر والتفكر فيما حزنت لأجله احتسابا ورضاء من الله تعالى، وهذه الأفعال تكون بدنية نفسية، وتكون نفسية فقط أو بدنية فقط.
وفسروه هنا بقولهم: أي لا تهتم، ولا تبال بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون في الكفر; أي في إظهاره بالتحيز إلى أعداء المؤمنين من أهله عندما تسنح لهم الفرصة، ويجدون قوة يعتصمون بها من التبعة، فإن الله يكفيك شرهم، وينصرك عليهم، وعلى من يتشيعون لهم.
وللناس في المصائب عادات رديئة، وأعمال سخيفة ضارة، تدل على ضعف البشر والسخط على القدر، ومعظم العقلاء والحكماء يذمونه وينهون عنه كما نهى عنه الدين، وقد قلت في مرثية نظمتها في أيام طلب العلم، ناهيا ذاما ما اعتيد من شعائر الحزن:

أطبيعة ذا الحزن ليس يشذ عن ناموسه فرد من الأفراد
أم ذاك مما أودعته شرائع الـ أديان من هدي لنا ورشاد
أم ذلك العقل السليم قضى على كل الشعوب بهذه الأصفاد
كلا فليس الأمر ضربة لازب لكنه ضرب من المعتاد
فاخلع جلابيب العوائد إن تكن ليست بحكم العقل ذات سداد

يقال: سارع إلى الشيء { { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [آل عمران: 133] وسارع في الشيء { { أولئك يسارعون في الخيرات } [المؤمنون: 61] فالمسارع إلى الشيء هو الذي يسرع إليه من خارجه لأجل أن يصل إليه، والمسارع في الشيء هو الذي يسرع في أعماله، وهو داخل فيه. وهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية لم يكونوا مؤمنين، فيكون ما عملوا من أعمال الكفار انتقالا بسرعة من الإيمان إلى الكفر، بل كانوا داخلين في ظرف الكفر، محيطا بهم سرادقه، وإنما انتقلوا سراعا من حيز الإخفاء له والكتمان إلى حيز المصارحة والإعلان، كالذي ينتقل في البيت من مكان إلى مكان.
وقد بين الله حقيقة حالهم هذه بقوله: { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } اختلف القراء والمفسرون في الوقف هنا، هل يتم عند قوله تعالى: { قلوبهم } أم قوله: { هادوا }؟ أما تقدير الكلام على الأول فهو: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وما بعده جملة مستقلة تقديرها: ومن الذين هادوا (أي اليهود) قوم سماعون للكذب... إلخ. وأما التقدير على الثاني فهو: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود، وقوله تعالى: { سماعون للكذب } جملة مستأنفة حذف منها المبتدأ; أي هم سماعون للكذب... إلخ. والأول أظهر، وقد قال بعض المفسرين: إن المراد بالمنافقين هنا منافقو اليهود; فيكون الكلام هنا في أولئك اليهود عامة، الذين أظهرو الإسلام نفاقا والذين ظلوا على دينهم، ويدخل في عموم الأول المنافقون من غير اليهود على قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واختلف في قوله: { سماعون للكذب } هل هو وصف للفريقين أم لأحدهما؟ أي بناء على أن قوله: { سماعون }... إلخ جملة مستأنفة.
واللام في قوله: "للكذب" فيها وجهان:
(أحدهما): أنها للتقوية، والمعنى أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول، أو يقبلونه، والمراد بالكذب: ما يقوله رؤساؤهم في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحكام الدين التي يتلاعبون فيها بأهوائهم.
(وثانيها): أنها للتعليل، والمعنى أنهم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات، فهم عيون وجواسيس بين المسلمين يبلغون رؤساءهم وسائر أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه، لأجل أن يكون ما يفترون عليه من الكذب مقبولا; لأنه مبني على وقائع ومسائل واقعة يزيدون في رواياتها وينقصون، ويحرفون منها ما يحرفون، ومن يكذب عليك وهو لا يعرف من أمرك شيئا لا يستطيع أن يجعل كذبه مرجو القبول كمن يعرف، بل يظهر اختلاقه لأول وهلة.
ولهذا ترى الذين يفترون الكذب على الإسلام في هذا الزمان يقرءون بعض كتب المسلمين; ليبنوا أكاذيبهم على مسائل معروفة، يحرفون الكلم فيها عن مواضعه، كما سيأتي في وصف هؤلاء، كالذي افتروه في قصة زيد وزينب، وفي غيرها من الوقائع والأخبار.
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي لأجل قوم آخرين من رؤسائهم، وذوي الكيد فيهم، أو من أعدائك مطلقا، لم يأتوك ليسمعوا منك بآذانهم; إما كبرا وتمردا، وإما خوفا على أنفسهم; لأنهم معلنون للعداوة.
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن جابر بن عبد الله في قوله: { ومن الذين هادوا سماعون للكذب } قال: يهود المدينة. { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } قال: يهود فدك، { يحرفون الكلم } قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: "إن أوتيتم هذا" الجلد "فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" الرجم.
وأما قوله تعالى: { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } فمعناه يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه في مواضعه; إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة، أو بإخفائه وكتمانه، أو الزيادة فيه والنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له. { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم، وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما: إن أعطيتم من قبل محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوه وارضوا به، وإن لم تعطوه بأن حكم بأنهما يرجمان فاحذروا قبول ذلك والرضاء به، وقد تقدم أنهم جاءوه، فسألهم عن حد الزناة في التوراة، فقالوا: نفضحهم ويجلدون، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع، فإذا آية الرجم، فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر كذبهم وعبثهم بكتاب شريعتهم. والإيتاء والإعطاء يستعمل في المعاني كغيرها.
قال الله تعالى في بيان حال هؤلاء العابثين بدينهم وفي أمثالهم: { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } أي ومن تعلقت إرادة الله تعالى بأن يختبر في دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله، كما يفتن الذهب بالنار، فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل، فلن تملك أيها الرسول له من الله شيئا من الهداية والرشد، كما أنك لا تستطيع أن تحول النحاس إلى الذهب; لأن سنة الله تعالى لا تتبدل في معادن الناس، ولا في معادن الأرض.
فهؤلاء المنافقون والمجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم درجة فسادهم، وعلمت أنهم يقبلون الكذب دون الحق، وأن إظهار بعضهم للإيمان ورؤيتهم لحسن حال المؤمنين وصلاحهم لم تؤثر في أنفسهم، ورأيت كيف طوعت للآخرين أنفسهم التحريف والكتمان لأحكام كتابهم; اتباعا لأهوائهم، ومرضاة لأغنيائهم. فلا تحزنك بعد هذا مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان; فإنك لا تملك لأحد هداية ولا نفعا، وإنما عليك البلاغ والبيان. راجع تفسير
{ { ليس لك من الأمر شيء } [آل عمران: 128] ولا تخف عاقبة نفاقهم؛ فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان، ولهم الخزي والهوان; ولذلك قال:
{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي أولئك الذين بلغت منهم الفتنة هذا الحد هم الذين لم تتعلق إرادة الله تعالى بتطهير قلوبهم من الكفر والنفاق; لأن إرادته تعالى إنما تتعلق بما اقتضته حكمته البالغة وسننه العادلة، ومن سننه في قلوب البشر وأنفسهم أنها إذا جرت على الباطل والشر، ونشأت على الكيد والمكر، واعتادت اتخاذ دينها شبكة لشهواتها وأهوائها، ومردت على الكذب والنفاق، وألفت عصبية الخلاف والشقاق، وصار ذلك من ملكاتها الثابتة وأخلاقها الموروثة الثابتة، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها، حتى لا يبقى لنور الحق منفذ ينفذ منه إليها; فتفقد قابلية الاستدلال والاستبصار في توفيق الأقدار للأقدار.
وهؤلاء الزعماء وأعوانهم من اليهود قد صبوا في قوالب تلك الصفات الرديئة صبا، فلا تقبل طبائعهم سواها قطعا، فهذا هو سبب عدم تعلق إرادة الله تعالى بأن يطهر قلوبهم مما طبع عليها; لأن إرادته تطهير قلوبهم وهم متصفون بما ذكرنا، إبطال للقدر، وتبديل لما اقتضته الحكمة من السنن، وكان أمر الله قدرا مقدورا، لا أمرا أنفا، ولن تجد لسنته تبديلا.
ثم بين تعالى عاقبة هؤلاء المخذولين وجزاءهم، فقال:
{ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } فأما العذاب في الآخرة فأمره معلوم، وكنهه مجهول، وأما خزي الدنيا فهو ما يلحقهم من الذل والفضيحة وهوان الخيبة عند ما ينكشف نفاقهم ويظهر للناس كذبهم، ويعلو الحق على باطلهم، وقد صدق وعيد الله تعالى بهذا الخزي على يهود الحجاز كلهم، كما يصدق في كل زمان على من يفسدون كفسادهم، فيفشو فيهم الكذب والنفاق، ويغلب عليهم فساد الأخلاق، ولا يغني عنهم الانتساب إلى نبي لم يتبعوه، ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكتاب لم يقيموه; فإن الوعيد في الآية لم يوجه إلى أولئك اليهود لذواتهم وأعيانهم; فذواتهم كسائر الذوات، ولا لنسبهم وأرومتهم; فنسبهم أشرف الأنساب.
وإنما هو وعيد على فساد القلوب الذي نشأ عنه فساد الأعمال، فما بال الفاسدين المفسدين من المسلمين الجغرافيين أو السياسيين لا يعتبرون بما كان من خزي اليهود بخروجهم عن سنة أنبيائهم، وبما حل من وعيد الله بهم، على ما كان من حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على هداهم، وهم يرون في كل زمن مصداقه بأعينهم، أفلا يقيمون القرآن بالاعتبار بنذره، والحذر مما حذر منه؟
ثم قال في وصفهم: { سماعون للكذب أكالون للسحت } أعاد وصفهم بكثرة سماع الكذب لتأكيد ما قبله والتمهيد لما بعده - كما قالوا - والإعادة للتأكيد وتقرير المعنى وإفادة اهتمام المتكلم به، مما ينبعث عن الغريزة، ويعرف التأثير والتأثر به من الطبيعة، ولعله عام في جميع لغات البشر.
وإذا قلنا: إن " اللام " في الآية الأولى للتعليل، وفي هذه الآية للتقوية ينتفي التكرار; إذ المعنى هناك: يسمعون كلام الرسول والمؤمنين لأجل أن يجدوا مجالا للكذب، ينفرون الناس به من الإسلام.
والمعنى هنا أنهم يسمع بعضهم الكذب من بعض سماع قبول، فهم يكذب بعضهم على بعض، كما يكذبون على غيرهم، ويقبل بعضهم الكذب من بعض، فأمرهم كله مبني على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد، وهكذا شأن الأمم الذليلة المهينة، تلوذ بالكذب في كل أمر، وترى أنها تدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر، وكذلك يفشو فيها أكل السحت لأنها تعيش بالمحاباة، وتألف الدناءة، وتؤثر الباطل على الحق.
فسر ابن مسعود السحت بالرشوة في الدين، وابن عباس بالرشوة في الحكم، وعلي بالرشوة مطلقا، قيل له: الرشوة في الحكم؟ قال: ذلك الكفر، وقال عمر: بابان من السحت يأكلهما الناس; الرشا في الحكم، ومهر الزانية; فأفاد أن السحت أعم من الرشوة.
ومن فسره بالرشوة المطلقة أو المقيدة فقد أراد به أنه المراد من الآية باعتبار نزولها في أحبار اليهود ورؤسائهم، لا المعنى اللغوي العام.
وقيل: السحت: الحرام مطلقا، أو الربا، أو الحرام الذي فيه عار ودناءة كالرشوة.
واختلف علماء العربية في معناه الأصلي الذي اختير هذا اللفظ لأجله، فقال الزجاج: هو من سحته، وأسحته بمعنى استأصله بالهلاك، ومنه قوله تعالى:
{ { قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب } [طه: 61]. فعلى هذا يكون المراد بالسحت ما يسحت الدين والشرف لقبحه وضرره، أو لسوء عاقبته وأثره، وقال الفراء: أصل السحت: شدة الجوع، يقال: رجل مسحوت المعدة: إذا كان أكولا لا يكاد يرى إلا جائعا، وعلى هذا يكون المراد به الحرام، أو الكسب الدنيء الذي يحمل عليه الشره.
قرأ ابن عامر، ونافع، وعاصم، وحمزة: " السحت "، بضم السين وفتح الحاء، والباقون بضمهما معا. لسان العرب: السحت والسحت: كل حرام قبيح الذكر، وقيل ما خبث من المكاسب وحرم، فلزم عنه العار وقبيح الذكر، كثمن الكلب والخمر والخنزير. وسحت الشيء يسحته، كفتح يفتح، قشره قليلا قليلا، وسحت الشحم عن اللحم: قشرته عنه مثل سخفته.
وقال اللحياني: سحت رأسه سحتا وأسحته: استأصله حلقا. وأسحت ماله: استأصله وأفسده، إلى أن قال: والسحت - بالفتح - شدة الأكل والشرب، ورجل سحت - بالضم - وسحيت ومسحوت: رغيب واسع الجوف، لا يشبع. انتهى المراد من اللسان.
فعلم منه أن أصل معنى السحت: إزالة القشر عن العود بالتدريج، وما في معناه كحلق الشعر، ومن العرب من لا يقول: أسحت الشيء، إلا إذا استأصله بالقشر، ويمكن إرجاع معنى عدم الشبع إلى هذا المعنى; كأن المعدة لسرعة هضمها تستأصل الطعام. وسمي الكسب الخسيس والحرام سحتا; لأنه يستأصل المروءة أو الدين، والرشوة تستأصل الثروة، وتفسد أمر المعاملة، وتستبدل الطمع بالعفة.
وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم في عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من الرشوة وغيرها من الخسائس، كدأب سائر الأمم في عهد فسادها وانحطاطها، وقد صارت حالهم الآن أحسن من حال كثير من الذين يعيبونهم بما كان من سلفهم.
ومن عجائب غفلة البشر عن أنفسهم أن يعيبك أحدهم بنقيصة ينسبها إلى أحد أجدادك الغابرين، على علم منه بأنك عار عنها، أو متصف بالمحمدة التي هي ضدها، وهو متصف بنقيصة جدك التي يعيبك بها ! ! فإن كثيرا ممن يعدهم المسلمون من أحبارهم ورؤساء الدين فيهم، وكثيرا من حكامهم الشرعيين والسياسيين يكذبون كثيرا، ويقبلون الكذب، ويأكلون السحت، حتى إنهم يأخذون الرشوة من طلبة العلم; ليشهدوا لهم زورا بأنهم صاروا من العلماء الأعلام، ويعطونهم ما يسمونه " شهادة العالمية " كما يمنحهم حكامهم الرتب العلمية.
وقد تجرأ بعض طلبة الأزهر مرة على شيخنا الإمام، فعرض عليه ثلاثين جنيها; ليساعده في امتحان شهادة العالمية; لعلمه بأنه غير مستعد للامتحان ولا أهل للشهادة، فلم يملك الأستاذ نفسه من الانفعال أن ضربه ضربا موجعا، وقال: أتطلب مني في هذه السن أن أغش المسلمين بك لتفسد عليهم دينهم بجهلك، بهذه الجنيهات الحقيرة في نظري العظيمة في نظرك، وأنا الذي لم أتدنس في عمري، حتى ولا بقبول الهدية ممن أنقذتهم من الموت؟ ! ولو كنت ممن يتساهل في هذا لكنت من أوسع الناس ثروة. أو ما هذا مؤداه.
{ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم. وقد اختلف العلماء في هذا التخيير أهو خاص بتلك الواقعة التي نزلت فيها الآية - وهي حد الزنا: هل هو الجلد أو الرجم، أو دية القتيل؛ إذ كان بنو النضير يأخذون دية كاملة على قتلاهم لقوتهم وشرفهم، وبنو قريظة يأخذون نصف دية لضعفهم، وقد تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء - أم هو خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وغيرهم; إذ كان أولئك اليهود معاهدين، أم الآية عامة في جميع القضايا من جميع الكفار، عملا بقاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟.
المرجّح المختار من الأقوال في الآية أن التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة، وعلى هذا لا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم، وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون، يرجحون في كل وقت ما يرون فيه المصلحة، وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا، وليس في الآية نسخ، كما قال بعض من زعم أنها عامة في جميع الكفار، وقد نسخ من عمومها التخيير في الحكم بين الذميين، وقال بعضهم: إن التخيير منسوخ بقوله تعالى في هذا السياق:
{ { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة: 49] ونقول: لا يعقل أن تنزل آيات في سياق واحد، كما هو الظاهر في هذه الآيات فيكون بعضها ناسخا لبعض، وإنما تلك الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله من القسط. وسيأتي بيان ذلك.
{ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } أي وإن اخترت الإعراض عنهم فأعرضت، ولم تحكم بينهم، فلن يستطيعوا أن يضروك شيئا من الضر، وإن ساءتهم الخيبة وفاتهم ما يرجون من خفة الحكم وسهولته، ولعل هذا تعليل للتخيير.
{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } أي وإن اخترت الحكم، فاحكم بينهم بالقسط; أي العدل، لا بما يبغون. وقد شرحنا معناه اللغوي، وبينا ما عظم الله من أمره في القيام به والشهادة به في تفسير الآية 135 من سورة النساء (ص370 - 373 ج 5 ط الهيئة) والآية الثامنة من هذه السورة (ص226 - 227 ج 5 ط الهيئة) والمقسطون هم المقيمون للقسط بالحكم به أو الشهادة أو غير ذلك، وفصلنا القول في الحكم بالعدل في تفسير
{ { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 58] فيراجع في المنار (ص139 - 145 ج 5 ط الهيئة).
{ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } هذا تعجيب من الله لنبيه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم، وهو أنهم أصحاب شريعة يرغبون عنها، ويتحاكمون إلى نبي جاء بشريعة أخرى، وهم لم يؤمنوا به; أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين، أو قضية الدية، والحال أن عندهم التوراة، التي هي شريعتهم، فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به، وآثروه على شريعتهم; لموافقته لها؟
أي إذا فكرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم، وسببه أنهم ليسوا بالمؤمنين إيمانا صحيحا بالتوراة، ولا بك، وإنما هم ممن جاء فيهم
{ { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [الجاثية: 23] فإن المؤمن الصادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده. وهؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها واتباعها; لأنه لم يوافق هواهم.
وجاءوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم، ثم يتولون ويعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم. فما هم بالمؤمنين بالتوراة، ولا بك، ولا بمن أنزل على موسى التوراة وأنزل عليك القرآن، وقد يقولون إنهم مؤمنون، وقد يظنون أيضا أنهم مؤمنون، غافلين عن كون الإيمان يقينا في القلب، يتبعه الإذعان بالفعل، ويترجم عنه اللسان بالقول، ولكن اللسان قد يكذب عن علم وعن جهل، فمن أيقن أذعن، ومن أذعن عمل; لأن الإيمان الإذعاني هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، والإرادة هي المصرفة للجوارح في الأعمال.
أما حكم الرجم في التوراة التي بين أيدينا اليوم فهو خاص ببعض الزناة، قال في الفصل 22 سفر التثنية، بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها: (22 إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل، يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل 23 إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك) ثم ذكر أحكاما أخرى في الزنا، منها قتل أحد الزانيين، ومنها دفع غرامة، والتزويج بالمزني بها.
ومما يجب التنبيه له هنا أن دعاة النصرانية يحتجون بهذه الآية وما في معناها على كون التوراة التي في أيديهم وأيدي اليهود، هي ما أنزله الله تعالى على موسى، لم يعرض لها تغيير ولا تحريف; وذلك أنهم كأولئك اليهود الذين يأخذون من القرآن ما يوافق أهواءهم، ويردون ما يخالفها جدلا، والمؤمنون يؤمنون بالكتاب كله، فالكتاب بين لنا أن عندهم التوراة; أي الشريعة، وأن فيها حكم الله في القضية التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين.
وبيّن لنا أيضا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، ومن بعد مواضعه، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وأنهم إنما أوتوا نصيبا من الكتاب؛ إذ نسوا نصيبا آخر وأضاعوه، وقد صدق الله تعالى في ذلك أيضاً.
ولما خرجت أمة القرآن بالقرآن من الأمية، وعرفوا تاريخ أهل الكتاب وغيرهم; كالبابليين، ظهر لهم أن إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدالة على أنه من عند الله; إذ ظهر لهم أن اليهود قد فقدوا التوراة التي كتبها موسى، ثم لم يجدوها، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها، ممزوجا بما ليس منها، والتوراة التي في أيديهم تثبت ذلك، كما بيناه في غير هذا الموضع، ومنه تفسير أول سورة آل عمران، وتفسير الآيات 13 - 15 من هذه السورة.