التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ
٦٥
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
-المائدة

تفسير المنار

لما أسرفت يهود المدينة وما حولها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فضلهم على مشركي قومه، وأقرهم على دينهم وما في أيديهم، بين الله تعالى له مخازيهم التي يشهد بها تاريخهم وكتب دينهم، وما كان من تأثيرها في أخلاق المعاصرين له وأعمالهم، ثم عطف على ما تقدم من ذلك هنا قولا فظيعا، قاله بعضهم، يدل على الجرأة على الله تعالى فيهم الذي هو أثر ترك التناهي عن المنكر فيما بينهم، فقال:
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } هذا القول الفظيع من شواهد قولهم الإثم، الذي أثبته فيما قبل هذه الآية. وقد عزي إليهم - وهو قول واحد أو آحاد منهم - لأنه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار المنكر، كما قلنا آنفا، والمقر للمنكر شريك الفاعل له، وهذا هو وجه وصل هذه الآية بما قبلها.
روى ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: { وقالت اليهود } الآية، وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قينقاع، وروى ابن جرير مثله عن عكرمة، وروي عن مجاهد أنهم قالوا: لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره، أو حتى إن يده إلى نحره.
فعلى هذا يكون مرادهم أنه ضيق عليهم الرزق كأنهم اعتذروا بهذا عن إنفاق كان يطلب منهم، أو في حال جدب أصابهم. قيل: كانوا أغنى الناس، فضاق عليهم الرزق بعد مقاومتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن السدي في قولهم ومرادهم، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا، وروي عن ابن عباس في معنى عبارتهم أنه قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فجعل العبارة ابن عباس من باب الكناية لا من باب الحقيقة.
وقد جعل بعض أهل الجدل الآية من المشكلات; لأن يهود عصره ينكرون صدور هذا القول عنهم; ولأنه يخالف عقائدهم، ومقتضى دينهم، ومما قالوه في حل الإشكال: إنهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى:
{ { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له } [البقرة: 245] قالوا: من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين. بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم، والخرص في بيان مرادهم منه. وما هذا إلا غفلة عن جرأة أمثالهم في كل عصر على مثل هذا القول البعيد عن الأدب بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان ممن ليس لهم من الدين إلا العصبية الجنسية والتقاليد القشرية، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين.
وطالما سمعنا ممن يعدون من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبان المصائب. وعبارة الآية لا تدل على أن هذا القول يقوله جميع اليهود في كل عصر، حتى يجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجها للإشكال في الآية، وإنما عزاه إلى جنسهم لما ذكرناه آنفا، على أن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعونه من بعض أفرادها إذا كان مثله لا ينكر فيهم. والقرآن يسند إلى المتأخرين ما قاله وفعله سلفهم منذ قرون، بناء على قاعدة تكافل الأمة وكونها كالشخص الواحد، ومثل هذا الأسلوب مألوف في كلام الناس أيضاً.
واليد تطلق في اللغة على عدة معان. يقول أهل البيان: إن بعضها حقيقة، وبعضها من المجاز أو الكناية، فتطلق على الجارحة وعلى النعمة والقدرة والملك والتصرف، وغير ذلك. رأى أهل التأويل أن هذه الآية يجب تأويلها; لأن اليد بمعنى الجارحة مما يستحيل نسبته إلى الله تعالى. ويقول بعض أهل التفويض: بل نثبت له اليد، وننزهه عن لوازم هذا الإطلاق من مشابهة الناس. وتفسير ابن عباس إمام مفسري السلف والخلف للآية يدل على أنها ليست مما يجري فيه الخلاف بين الخلف والسلف في التأويل والتفويض; لأن استعمال غل اليد في البخل وبسطها في الجود معروف في اللغة مألوف، ومنه قوله تعالى:
{ { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [الإسراء: 29] ولا يقول أحد يفهم اللغة: إن هذا من إخراج اللفظ عن ظاهره، المسمى عندهم بالتأويل.
أما قوله تعالى: { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } فهو دعاء عليهم، يناسب جرمهم هذا، وجزاء لهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين، قد جاء على طريقة الاستئناف البياني; لأنه مما تستشرف له النفوس، وتتساءل عنه بالفعل أو بالقوة، والمشهور من معنى " غلت أيديهم ": أمسكت أيديهم وانقبضت عن العطاء والإنفاق في سبيل البر والخير، وهو دعاء عليهم بالبخل، وما زالوا أبخل الأمم، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحاً.
وقد حسنت أحوالهم في هذا الزمان وارتقت معارفهم وحضارتهم في كثير من البلاد، وتربوا في أمم من الإفرنج، صار من تقاليدهم الاجتماعية بذل المال لمعاهد العلم والملاجئ والمستشفيات والجمعيات الخيرية، وهم على كونهم أغنى هذه الأمم ومضطرون لمجاراتها لا يبذلون إلا دون ما يبذل غيرهم من الإعانات الخيرية، بل هم على شدة تكافلهم واستمساكهم بالعصبية الملية فيما بينهم، قلما يساعد أغنياؤهم فقراءهم بالصدقة الخالصة لوجه الله تعالى وحبا في الخير، بل يتجرون ويرابون بالإعانات; فيعطون الفقراء مالا على أن يعملوا به في تجارة أو غيرها، بشرط أن يردوه في مدة معينة، مع ربا قليل في الغالب.
وقيل: إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالأغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما. نقل عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذا الغل: يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم، وقال في تفسير اللعنة: عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار. حكاه عنه نظام الدين النيسابوري في تفسيره.
وأورد واقعة بهذا المعنى حدثت في زمنه، قال: ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلبا من اليهود مسمى بسعد الدولة، وهو من أشقى الناس، كان سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد، فنزل بالمدرسة المستنصرية، ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله، ثم قال: أين هذه الآية؟ يعني قوله: " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " فأروه إياه، فمحاها. فلم يمض إلا أسبوع إلا وقد سخط السلطان عليه، وبعث في طلبه، وأمر بغل يديه فغلوه، وحملوه إليه فأمر بقتله، اهـ.
والمراد أن السلطان غضب عليه بسبب من أسباب شقاوته التي عرف بها، لا بسبب اعتدائه وتشويهه للمصحف; لأن السلطان لم يعلم بذلك، ولأجل هذا عد المصنف الإيقاع به من معجزات القرآن. وإنما عجبنا نحن في هذه الحكاية من تساهل المسلمين في عهد الحكومة العباسية كيف وصل إلى هذا الحد; رجل من أشقياء اليهود أهل النفوذ، يجيء بغداد، فينزل في مدرسة من أشهر المدارس الإسلامية، ويكون له من حرية التصرف فيها والعبث بكتبها ما يمكنه من تشويه مصحف أثري، كان أحسن المصاحف التي حفظها التاريخ في بغداد؟ ! فليعتبر بهذا التسامح المعتبرون.
ثم رد تعالى عليهم بقوله: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } أي بل هو صاحب الجود الكامل، والعطاء الشامل، عبر عن ذلك ببسط اليدين; لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه، وصفوه بغاية البخل والإمساك، فأبطل قولهم، وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء. ولا غرو، فكل ما يتقلب فيه العالم كله من الخير والنعيم هو سجل من ذلك الجود والكرم. والنكتة في قوله: " كيف يشاء " بيان أن تقتير الرزاق على بعض العباد، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق.
والعجب من الإمام الجليل أبي جعفر بن جرير الطبري: كيف صور استعمال لفظ اليد هنا أحسن تصوير، ثم خفيت عنه نكتة تثنيته; فجعلها حجة المفوضة على أهل التأويل، ونحن معه في إثبات الصفات، ننعى على المؤولين النفاة، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم نكتة تثنية اليد من استعمال لفظها المفرد. قال ابن جرير بعد تفسير غل اليد بالإمساك وحبس العطاء عن الاتساع ما نصه:
وإنما وصف - تعالى ذكره - اليد بذلك، والمعنى العطاء; لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشح وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:

يداك يدا جود فكف مقيدة وكف إذا ما ضُن بالزاد تنفق

فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد، ومثل ذلك في كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى، فخاطبهم الله بما يتعارفونه أو يتحاورونه بينهم في كلامهم، انتهى. ثم لما ذكر قول من قال من أهل الجدل أن يد الله نعمته أو قدرته أو ملكه، وقول من قال: إن يد الله صفة من صفاته، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم، رد القول الأول، ورجح الثاني بتثنية اليد وعدم إفرادها، وإبطال قول من قال: إن التثنية بمعنى الجمع.
نعم، إن التثنية بمعنى الجمع واليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك؛ وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم، وليس في هذا القول المروي عن ابن عباس تأويل ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى، وما سبب ذهول ابن جرير عن نكتة التثنية إلا توجهه إلى الرد على أهل الجدل في المذهب الذي كانوا قد انتحلوه في تأويل الصفات، ومتى وجه الإنسان همه إلى شيء يكون له منه حجاب ما عن غيره، وتقرير الحقيقة لذاتها غير الرد على من يعدون من خصومها
{ { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } [الأحزاب: 4] ولهذا غلط كثير من أنصار مذهب السلف في مسائل خالفوا فيها المذهب من حيث يريدون تأييده، وهذه آفة من آفات عصبية المذاهب، لا تنفك عنها.
{ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم; أي إن هذا الذي أنزلناه عليك من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ومن أحوال سلفهم وشئون كتبهم وحقائق تاريخهم هو من أعظم الحجج والآيات على نبوتك، فكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك; لأنك لولا النبوة والوحي لما علمت من ذلك شيئا; لا من ماضيه; لأنك أمي لم تقرأ الكتب، وما كل من قرأها يعلم كل ما جئت به عنهم، ولا من حاضره; لأنه من خفايا مكرهم وأسرار كيدهم، ولكنهم لتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب، والعصبية الجنسية لأنفسهم، لا يجذبهم ذلك إلى الإيمان، ولا يقربهم منه إلا قليلا منهم.
ووالله ليزيدن كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك، وكفرا بما جئت به، قال قتادة: حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وفي رواية: على أن تركوا القرآن، وكفروا بمحمد ودينه، وهم يجدونه مكتوبا عندهم.
فعلم مما شرحناه أن زيادة طغيان الكثيرين منهم وكفرهم جاء على خلاف الظاهر وضد ما يقتضيه الدليل; فلهذا أكده بالقسم الذي تفيده اللام في قوله: "وليزيدن".
{ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } قال المفسرون: إن الضمير في قوله "بينهم" يرجع إلى اليهود والنصارى في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } رواه ابن جرير عن مجاهد، واقتصر عليه، وعزاه غيره إلى الحسن أيضا، ورواه أبو الشيخ عن الربيع، فلا نعرف في التفسير المأثور عن السلف غيره، وفي تفاسير المتأخرين احتمال أن يكون الضمير لليهود وحدهم. ويراد بالملقى حينئذ عداوة المذاهب والبغضاء بين الأفراد; لأن هذا لا ينقطع من بين الناس، ولكن لا يظهر معه فائدة لتخصيص اليهودية، وهم الآن من أشد الأمم تعاطفا وتعاضدا وائتلافاً.
وأما العداوة بينهم وبين النصارى فلم تنقطع، وهي على أشدها الآن في بلاد روسية، وعلى أقلها في إنكلترة وفرنسة وألمانية; لما في هذه الممالك من القوانين الحرة، والحكومات المنتظمة، ولما للمال وأهله فيها من النفوذ والتأثير في السياسة، وسائر شئون الاجتماع، واليهود أغنى أهلها، والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها، وهم، على مكانتهم هذه، مبغوضون من جماهير النصارى، وكم ألفت كتب في فرنسة وغيرها في التحريض عليهم، وقد أخبرني ألماني من العلماء المستشرقين أنهم لا يعدون اليهودي في بلاده منهم، بل يقولون: هذا يهودي، وهذا ألماني. وأما العداوة بين النصارى فهي أشد، وإن دولهم الكبرى تستعد دائما لحرب يسحق بها بعضها بعضا.
{ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } الحرب ضد السلم، وليس مرادفا للقتال، بل أعم، كما حققناه في تفسير آية المحاربة من هذه السورة، فهو يصدق بالإخلال بالأمن، والنهب والسلب، ولو بغير قتل، ويصدق بتهييج الفتن، والإغراء بالقتال. خص مجاهد الحرب هنا بحربهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والحسن: باجتماع السفلة من الأقوام على قتل العرب. وقال السدي في تفسير الجملة: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب.
وفسره الربيع بما كان من مفاسدهم الماضية التي أغرت بها البابليين والروم قبل النصرانية وبعدها، ثم المسلمين، كأنه يرى أن إيقادهم لنار الحرب هو تلبسهم بالأعمال التي هي سبب لها، وإن لم يريدوها بها، والمراد أن الله تعالى يخذلهم في كل ما يكيدون به لرسوله وللمؤمنين الصادقين، فإما أن يخيبوا، ولا يتم لهم ما يسعون إليه من الإغراء والتحريض، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين، وكذلك كان، وصدق الله وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وجعل بعض المفسرين ذلك عاما، عملا بظاهر اللفظ، دون السياق والقرينة والأسباب والعلل، فقال الزمخشري في تفسيره: كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا، ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط - ثم قال - وقيل كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم، انتهى. وما اخترناه أظهر.
ومن المفصل في السيرة النبوية أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكان منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم، ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين، ويئوي أعداءهم ويساعدهم; ككعب بن الأشرف.
وكل ما كان من مقاومة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كان سببه الحسد والعصبية، وتوقع الأحبار والرؤساء إزالة الإسلام لما كان لهم من الامتياز بين العرب في الحجاز، من مكانة العلم والمعرفة; إذ كان المشركون يحترمونهم لكونهم أهل كتاب وعلم، وإن لم يدينوا بدينهم.
فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية، ليست من طبيعة الدين ولا من روحه; ولذلك كان ضلع اليهود مع المسلمين في الشام والأندلس لما رأوا عند مسلمي العرب من العدل المزيل لما كان عليه الروم والقوط من الجور عليهم والظلم.
وكذلك كانت عداوة النصارى للمسلمين في الصدر الأول للإسلام سياسية; ولذلك كانت على أشدها بينهم وبين الروم (الرومان) المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز; كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب إلى الميل للمسلمين بعد ما وثقوا بعدلهم لما كانوا يقاسون من ظلم الروم على كونهم من أهل دينهم.
وهذا شأن الناس في العداوة والمودة أبدا؛ يتبعون في ذلك مصالحهم ومنافعهم، فلا ينبغي أن يجعل ما ذكر وصفا ذاتيا لهم أو لدينهم، ولينتظر القارئ شهادة الله تعالى للنصارى بكونهم أقرب مودة للمؤمنين بعد آيات قليلة، فتحتم أن العداوة من السياسة لا من الدين.
{ ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } أي إنهم لم يكونوا فيما يأتونه، أو على ما يأتونه من عداوة النبي والمؤمنين، وإيقاد نيران الحرب والفتن والقتال، مصلحين للأخلاق والأعمال، أو لشئون الاجتماع والعمران، بل كانوا يسعون في الأرض سعي فساد، أو لأجل الفساد، بمحاولة منع اجتماع كلمة العرب، وخروجهم من الأمية إلى العلم، ومن الوثنية إلى التوحيد، وبالكيد للمؤمنين، وتشكيكهم في الدين; حسدا لهم، وحبا في دوام امتيازهم عليهم، والله لا يحب المفسدين في الأرض، فلا يصلح عملهم، ولا ينجح سعيهم; لأنهم مضادون لحكمته في صلاح الناس وعمران البلاد.
والدليل على صحة هذا أن الله أبطل كل ما كاده أولئك الأقوام للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب والإسلام، وإن العرب لما اجتمعت كلمتها، وصلحت حالها بالإسلام أصلحوا بين الناس، وعمروا الأرض في كل بلاد كان لهم فيها سلطان، وأما غيرهم فكانوا مفسدين بالظلم، ومخربين للبلاد. فالإسلام يأمر بالصلاح والإصلاح على أكمل وجه، وهو ما يحبه الله تعالى، فلما قام المسلمون به حق القيام، أيدهم ونصرهم على جميع من ناوأهم من الأقوام، وكذلك التوراة والإنجيل ما أنزلت إلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح؛ وإنما كان أهلها مفسدين في ذلك العصر; لأنهم تركوا هدايتهما، كما هو شأن جماهير المسلمين في هذا العصر، تركوا هداية القرآن، وأعرضوا عما أرشد إليه من الصلاح والإصلاح، فزال ملكهم، وسلط الله عليهم غيرهم، وقس جزاء الآخرة على جزاء الدنيا، فكل منهما مرتب بحسب حكمة الله تعالى على صلاح النفوس، والإصلاح في الأعمال، وبناء على هذه الحقيقة قال:
{ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم } أي لو أنهم آمنوا بخاتم النبيين والمرسلين، واتقوا باتباعه تلك المفاسد التي جروا عليها، لكفرنا عنهم تلك السيئات; لأن هذا الإيمان يجب ما قبله، والتقوى التي تتبعه تزكي النفس وتطهرها من تأثير تلك السيئات فيمحى أثرها، ويكون ذلك كفارة لها، فيستحقون جنات النعيم، التي لا بؤس فيها.
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } إقامة التوراة والإنجيل: العمل بهما على أقوم الوجوه وأحسنها؛ سواء فيه عمل النفس - وهو الإيمان والإذعان - وعمل القوى والجوارح; أي لو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين من قبل بنور التوحيد والفضائل، المبشرين بالنبي الذي يأتي من أبناء أخيهم إسماعيل; كما قال موسى: والبارقليط روح الحق الذي يعلمهم كل شيء; كما قال عيسى { عليهم السلام }. وأقاموا، بعد ذلك، ما أنزل إليهم من ربهم على لسان هذا النبي الذي بشرت به كتبهم، وهو الفرقان الذي أكمل الله به الدين، لو أقاموا جميع ذلك، ولم يفرقوا بين رسل الله وكتبه، لوسع الله عليهم بالتبع لذلك ما يهمهم من موارد الرزق; فأكلوا من الثمرات والبركات التي تنتج من أمطار السماء ونبات الأرض، وتمتعوا بما وعد الله به هذا النبي وأمته من سعة الملك.
وقيل: إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم من أمر الدين وآدابه والبشارة بالنبي الأخير صلى الله عليه وسلم; كزبور داود، وحكم سليمان، وكتب دانيال وأشعيا وغيرهما عليهم السلام، وفي مجلدات المنار بيان لكثير من هذه البشارات، وإقامة هذه الكتب من أسباب الصلاح والإصلاح، فلو أقامها قبل البعثة المحمدية أهل الكتاب لما غلب عليهم ما عزاه المؤرخون إليهم من الطغيان والفساد، ولما عاندوا النبي - المبشرة به - ذلك العناد; ذلك بأنهم لم يقيموها، ولا تدبروها؛ وإنما كان الدين عندهم أماني يتمنونها، وبدعا وتقاليد يتوارثونها; فهم بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط، والمراد أن دهماءهم وسوادهم الأعظم كان كذلك كما يعلم من تواريخهم وتواريخ غيرهم، ومن دقة القرآن وعدله تمحيص الحقيقة في ذلك بقوله:
{ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } أي منهم جماعة معتدلة في أمر الدين. لا تغلو بالإفراط، ولا تهمل بالتقصير. قيل: هم العدول في دينهم. وقيل: هم الذين أسلموا منهم، والمعتدلون لا تخلو منهم أمة، ولكنهم يكثرون في طور صلاح الأمة وارتقائها، ويقلون في طور فسادها وانحطاطها - وهل تهلك الأمم إلا بكثرة الذين يعملون السوء من الأشرار، وقلة الذين يعملون الصالحات من الأخيار -.
وهؤلاء المعتدلون في الأمم هم الذين يسبقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في عصورهم، ومن الحكماء في عصورهم، ولما جاء الإصلاح الإسلامي على لسان خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم قبله المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب، والمحيين للعلوم والفنون والعمران؛ فهل يعتبر المسلمون بذلك الآن ويعودون إلى إقامة القرآن، وأخذ الحكمة من حيث يجدونها، وعدد الإصلاح والسيادة من حيث يرونها، أم يفتئون يسلكون سنن من قبلهم من طور الفساد والإفساد، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ومنه الغرور بدينهم مع عدم إقامة كتابه، والتبجح بفضائل نبيهم على تركهم لسننه وآدابه؟
روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوشك أن يرفع العلم قلت: كيف، وقد قرأنا القرآن، وعلمناه أبناءنا؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن نفير، إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله؟ ثم قرأ: { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل }" الآية. وأخرج أحمد وابن ماجه من طريق ابن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: وذلك عند ذهاب العلم ، قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء " انتهى من الدر المنثور. والشاهد فيه أن العبرة بالعمل بما في الكتب الإلهية، والاهتداء بهدايتها، وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم، مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم، على أن عصبيتهم الجنسية له قد ضعفت أيضا، واستبدل كثير منهم بها جنسية اللغة أو الوطن.
ولا يمنعنا من الاعتبار بهذا الحديث ما علل به من الضعف وانقطاع السند، والقلب والاختلاف; لأننا لا نريد أن نثبت به حقيقة ولا حكما شرعيا، لا دليل عليهما سواه، وهو لا يدل على سلامة التوراة والإنجيل من التحريف بالزيادة والنقصان; لأنهما على ثبوت ذلك، يشتملان على التوحيد والهداية إلى البر والتقوى، ولكن أهلهما لا يقيمون ذلك، فالحجة عليهما قائمة، على كل حال، وقد علمت أن هذا الحديث تثبت به العبرة، ولكن لا تقوم به حجة، وقد أشار الحافظ في ترجمة زياد بن لبيد من الإصابة إلى مخرجيه، وعلله عندهم، ومنه يعلم قصور ما اكتفى به السيوطي في الدر المنثور.
(تنبيه): إن الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال في هذه الآية له نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى:
{ { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [الأعراف: 159] وقوله: { { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } [آل عمران: 75] الآية، وغير ذلك. ولولا أن هذا القرآن وحي من الله لما وجدت فيه مثل هذه الشهادة; لأن الإنسان مهما كان عادلا فاضلا، لا يرى الفضيلة المستترة في خصومه الذين يناوءونه ويحاربونه; فيشهد لهم بها، بل أكثر الناس يعمى عن محاسن عدوه الظاهرة المستفيضة، وإن رأى شيئا منها يظن أنه نفاق وخداع، قال شاعرنا الحكيم:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا

ومن شواهد العبرة على هذه الحقيقة كلمة قالتها امرأة كبيرة العقل والعلم والسن، من فضليات النساء في سويسرة، لشيخنا الأستاذ الإمام، قالت له: " إنني لم أكن قبل معرفتك أظن أن القداسة توجد في غير المسيحيين "، فإذا كانت هذه المرأة الواسعة العلم بأخلاق البشر، التي لها عدة مؤلفات في علوم التربية، تظن مثل هذا الظن في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من أحوال البعداء عنهم وتاريخهم ما لم يعرف مثله سلفهم في عصر ما، فهل يظن أن رجلا أميا في الحجاز يهتدي بغير وحي من الله إلى تلك الحقيقة في أولئك القوم منذ ثلاثة عشر قرنا؟؟