التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
-المائدة

تفسير المنار

بدأ الله تعالى هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك، ومنها حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم، وأحكام الطهارة والعدل، ولو في الأعداء المبغضين، ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من آيات الأحكام والوعود والعظات بينا مناسبتها له في مواضعها، وهذه الآيات عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة، ويتلوها العود إلى محاجة أهل الكتاب كما علمت، فمجموع آيات السورة، في هذين الموضوعين، وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة، وتجعل الآيات في أهل الكتاب متصلا بعضها ببعض في باقيها لما بيناه غير مرة في حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.
على أن في نظمه وترتيب آيه من المناسبة بين المسائل المختلفة ما يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتناسقه، كما ترى في مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة، زائدا على ما علمت آنفا من مناسبتها لمجموع ما تقدمها من أول السورة إلى هنا.
ذلك أنه تعالى ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا، وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا، فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى، وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات طبعا من اللحوم والأدهان والنساء، إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج البتة، وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها، وقد أنزل الله تعالى هذا الظن، وقطع طريق تلك الرغبة بقوله عز من قائل:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى، ولا تعتدوا فيها بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد، كالزيادة على الشبع والري فهو تفريط، أو تجاوز الأخلاق والآداب النفسية، كجعل التمتع بلذاتها أكبر همكم، أو شاغلا لكم عن معاني الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم، وهذا معنى قوله:
{ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [الأعراف: 31] أو ولا تعتدوها هي أي الطيبات المحللة، بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة، فالاعتداء يشمل الأمرين: الاعتداء في الشيء نفسه، واعتداء هو يتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه، وقد حذف المفعول في الآية فلم يقل فلا تعتدوا فيها أو فلا تعتدوها كما قال: { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [البقرة: 229] ليشمل الأمرين، اعتداء الطيبات نفسها إلى الخبائث، والاعتداء فيها بالإسراف، لأن حذف المعمول يفيد العموم، ثم علل النهي بما ينفر عنه فقال: { إن الله لا يحب المعتدين } الذين يتجاوزون حدود شريعته، وسنن فطرته ولو بقصد عبادته،
وتحريم الطيبات المحللة قد يكون بالفعل، من غير التزام بيمين ولا نذر، وقد يكون بالتزام وكلاهما غير جائز، والالتزام قد يكون لأجل رياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد يكون لإرضاء بادرة غضب، بإغاظة زوجة أو والد أو ولد، كمن يحلف بالله أو بالطلاق أنه لا يأكل من هذا الطعام (ومثله ما في معناه من المباحات) أو يلتزم ذلك بغير الحلف والنذر من المؤكدات، ومن هذا الصنف من يقول: إن فعل كذا فهو بريء من الإسلام، أو من الله ورسوله، وكل ذلك معلوم ولا يحرم على أحد شيء يحرمه على نفسه بهذه الأقوال، وفي الأيمان وكفارتها خلاف بين العلماء سيأتي بيانه.
وأما ترك الطيبات البتة كما تترك المحرمات ولو بغير نذر ولا يمين تنسكا وتعبدا لله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، فهو محل شبهة فتن بها كثير من العباد والمتصوفة، فكان من بدعهم التركية، التي تضاهي بدعهم العملية، وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع; كعبادة بني إسرائيل ورهبان النصارى، وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين; كالبراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم، ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات، وقهر الإرادة بمشاق الرياضات، وكانوا يحرمون الزينة كما يحرمون النعمة، فيعيشون عراة الأجسام ولا يستعلمون الأواني لأطعمتهم; بل يستغنون عنها بورق الشجر، وقد أرجعهم انتشار الإسلام في الهند عن بعض ذلك،
ولا يزال الجم الغفير منهم يمشون في الأسواق والشوارع عراة ليس على أبدانهم إلا ما يستر السوءتين فقط، ويعبرون عن ذلك بكلمة " السبيلين " العربية التي يستعملها الفقهاء لأنهم أخذوها كما يظهر عن المسلمين الذين كانوا يجبرونهم على ستر عوراتهم، ومنهم من يشد في وسطه إزارا بكيفية يرى بها باطن فخذه، والرجال والنساء في قلة الستر سواء، فترى النساء في أسواق المدن مكشوفات البطون والظهور والسوق والأفخاذ، ومنهن من تضع على عاتقها ملحفة تستر شطر بدنها الأعلى ويبقى الجانب الآخر مكشوفا.
وجملة القول أن تحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عن قدماء الهنود فاليونان، وقلدهم فيها أهل الكتاب ولا سيما النصارى، فإنهم على تفصيهم من شريعة التوراة الشديدة الوطأة، وعلى إباحة مقدسهم وإمامهم بولس لهم جميع ما يؤكل وما يشرب، إلا الدم المسفوح وما ذبح للأصنام، قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة عندهم، وعلى ما فيها من الشدة والمبالغة في الزهد.
ثم أرسل الله تعالى خاتم النبيين، والمرسلين بالإصلاح الأعظم، فأباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقها، لأن الإنسان مركب من روح وجسد، فيجب عليه العدل بينهما، وهذا هو الكمال البشري، فكانت الأمة الإسلامية بذلك أمة وسطا صالحة للشهادة على جميع الأمم وأن تكون حجة الله عليها، كما تقدم بيان ذلك في أول الجزء الثاني من هذا التفسير، وبذلك كانت جديرة بالبحث عن أسرار الخلق ومنافعه، وتسخيره قوى الأرض والجو للتمتع بنعم الله فيها مع الشكر عليها، ولكنها قصرت في ذلك ثم انقطعت من السير في طريقه بعد أن قطع سلفها شرطا واسعا فيه.
ولما كان حب المبالغة والغلو في دأب البشر وشنشنتهم في كل شئونهم، ما من شيء إلا ويوجد من يميل إلى الإفراط فيه، كما يوجد من يميل إلى التفريط، استشار بعض الصحابة رضي الله عنهم نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم الطيبات والنساء على أنفسهم، وتركها بعضهم من غير استشارة، اشتغالا عنها بصيام وقيام الليل، فنهاهم عن ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية وما في معناها من الآيات، في تحريم الخبائث، والمنة بحل الطيبات، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أحسن البيان.
وإننا نذكر هنا بعض الأخبار والآثار المروية في ذلك لتكون حجة على أهل الغلو في هذا الدين، الذين تركوا هدايته السمحة إلى تشديد الغابرين، وصاروا يعدون زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الزرق خاصة بالكافرين، حتى كأن المشارك لهم فيها خارج عن هدى المؤمنين، وهاك ما ورد في هذه الآية من التفسير المأثور، وسيأتي في تفسير سورة الأعراف وغيرها ما يزيدك نورا على نور.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، وإني حرمت على نفسي اللحم ". فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قال: " نزلت الآية في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني" .
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في مراسيله وابن جرير عن أبي مالك في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }. قال: نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه، كانوا حرموا على أنفسهم كثيرا من الشهوات والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فنزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة: " أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في سننه وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال: " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله: { ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة، قال: أراد الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ثم قال:
"إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم" قال: ونزلت فيهم
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قال: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم، أرادوا أن يتخذوا الصوامع، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس في ديني ترك النساء واللحم ولا اتخاذ الصوامع"
وخبرنا: " أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال أحدهم: أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير قال: لكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء; فمن رغب عن سنتي فليس مني" ، وكان في بعض القراءة في الحرف الأول: من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل سواء السبيل ".
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا" .
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة; منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملا؟ فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم، فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء،
فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه، فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها الحولاء فقالت عائشة ومن حولها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت: وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع علي زوجي، ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا، فجعلن يضحكن من كلامها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله الحولاء سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا،
فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة، وقص عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك، فقال: يا رسول الله إني صائم، قال: أفطر قال فأفطر وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد اكتحلت وامتشطت وتطيبت فضحكت عائشة فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"
، فنزلت { ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } يقول لعثمان: "لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء" وأمرهم أن يكفروا أيمانهم فقال: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [المائدة: 89] الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية التي بعدها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة وقدامة تبتلوا، فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية، فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"إن لأنفسكم حقا وإن لأعينكم حقا وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا وأفطروا، فليس منا من ترك سنتنا" ، فقالوا: اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول ".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم " أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي؟ هو حرام علي، فقالت امرأته: هو علي حرام، قال الضيف: هو علي حرام، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أصبت " فأنزل الله: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }
وأخرج البخاري والترمذي والدارقطني عن أبي جحيفة قال:
"آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فرأي أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه،
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"
.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: فلا تفعل; صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، إن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله قلت: إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود عليه قلت: وما كان صيام نبي الله داود؟ قال: نصف الدهر" .
نقلنا هذه الأخبار والآثار من الدر المنثور وتركنا بعض الروايات في معناها، وفيما ذكرناه الموقوف والمرفوع والصحيح والضعيف، ومجموعها حجة لا نزاع فيها.
فإن قيل: عن المأثور عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وعن غيرهم من كبار الصحابة والتابعين أنهم كانوا في غاية التقشف، وتعمد ترك الطيبات من الطعام والشراب وكذا اللباس الحسن، فكيف تركوا ما زعمت أنه الأفضل من إعطاء البدن حقه كإعطاء الروح حقها بالتمتع بالطيبات من غير إسراف؟ فالجواب أن المأثور عن أهل اليسار من الصحابة أنهم كانوا كما ذكرنا، وأهل الإقفار حالهم معلوم، والله تعالى يقول:
{ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } [الطلاق: 7] الآية.
وأما الخلفاء الثلاثة فكانوا يتعمدون التقشف ليكونوا قدوة لعمالهم ولسائر الفقراء والضعفاء، وقد كان المفروض لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في بيت المال قدر المفروض لأوساط المهاجرين، لا لأعلامهم، كآل بيت الرسول عليه السلام ولا لأدناهم كالموالي ولا حجة فيمن بعدهم، فالصوفية والزهاد يتبعون ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين من التقشف، ويزعمون أن مقتضى الدين الإسلامي أن يكن الناس كلهم كذلك، كما أن أهل السعة والترف يجمعون ما نقل عن موسري السلف من التوسع في المباحات، ويجعلونه حجة لإسرافهم، وخير الأمور الوسط، فراجع تفسير قوله تعالى:
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [البقرة: 143] والقاعدة العامة قوله تعالى في وصف خيار هذه الأمة الوسط: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } [الفرقان: 67 }.
{ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } هذا تصريح بالأمر بضد مقتضى النهي الذي قبله، أي كلوا مما رزقكم الله تعالى إياه حال كونه حلالا في نفسه، غير داخل فيما حرمه عليكم من الميتة بأنواعها والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وحلالا في طريقة كسبه وتناوله، بألا يكون ربا أو سحتا أو غصبا أو سرقة، ومن الناس من يقول: إن الرزق في عرف الشرع ما ملك ملكا صحيحا، لا كل ما انتفع به الإنسان، فلا يحتاج إلى هذا القيد وحال كونه مستلذا غير مستقذر في نفسه أو لفساد طرأ عليه كالطعام المنتن.
والمراد بالأكل التمتع، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا غير مسكر ولا ضار، طيبا غير مستقذر في نفسه أو بفساده أو نجاسة طرأت عليه، وإنما عبر بالأكل لأنه هو الغالب كما عبر في مثل قوله:
{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [النساء: 29] وهو يعم كل ما ينتفع به من طعام وشراب ولباس ومتاع ومأوى وكثيرا ما تطلق العرب الخاص فتريد به العام وما تطلق العام فتريد به الخاص، ويعرف ذلك بالسياق والقرائن.
الأمر ههنا للوجوب لا للإباحة، فهو ليس من الأمر بالشيء بعد النهي عنه المفيد للإباحة فقط، كقوله تعالى:
{ وإذا حللتم فاصطادوا } [المائدة: 2] وإنما هو تصريح بأن امتثال النهي عن تحريم الطيبات لا يتحقق إلا بالانتفاع بها فعلا، إذ ليس المراد بتحريمها المنهي عنه تحريمها بمجرد القول أو بالاعتقاد، بل المراد به أولا وبالذات الامتناع منها عمدا تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، أو إضعافها للجسد توهما أن إضعافه يقوي الروح، أو لغير ذلك من الأسباب والعلل; كمن يحرم على نفسه شيئا بنذر لجاج أو يمين، وكل هذا مما لا يزال يبتلى به كثير من المسلمين، دع ما كانت تحرمه الجاهلية على أنفسها من الأنعام أو نسلها تكريما لها لكثرة نتاجها، أو تعظيما لصنم تسيبها له، كما تراه مبينا في سورة الأنعام التي بعد هذه السورة.
وحكمة النهي عن ذلك أن الله تعالى يحب من عباده أن يقبلوا نعمه ويستعملوها فيما أنعم بها لأجله ويشكروا له ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الفطرة التي فطرهم عليها، فيمنعوها حقوقها، وأن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها باستباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه، ولأجل هذه الحكمة لم يكتف بالنهي عن تحريم الطيبات حتى صرح بالأمر باستعمالها والتمتع بها، وقد بين تعالى غاية ذلك وحكمته التي أشرنا إليها بقوله:
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } [البقرة: 172] والشكر يكون بالقول والعمل،
ولذلك قارن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الآية في خطاب المؤمنين، وما في معناها من خطاب المرسلين، فقال:
"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } [المؤمنون: 51] وقال: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي من الحرام فأنى يستجاب له؟" رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم،
وفي الحديث تعريض بالعباد وأهل السياحة من الأمم السالفة الذين كانوا يرون أن روح العبادة التقشف والشعوثة، حتى إنهم على تقشفهم ما كانوا يتحرون الحلال، كأنهم يرون التقشف وتعذيب النفس يبيحان لهم ما عداهما فيكونون أهلا لاستجابة دعائهم، واستدل بعضهم بالحديث على كون المراد بالطيبات الحلال ميلا إلى ذلك المذهب البرهمي، بل زعم بعضهم مثل ذلك في الآيات التي قرنت الحلال بالطيب فجعلوا الطيب تأكيدا للحلال.
فامتثال هذا الأمر وذلك النهي لا يتحقق إلا بالتمتع بما يتيسر من الطيبات فعلا بلا تأثم ولا حرج، بل ينبغي للمؤمن أن يكون طيب النفس بذلك، ملاحظا أنه من نعمة الله وفضله، ومن أسباب مرضاته ومثوبته، وأن مرضاته ومثوبته عليه تكون على حسب شهود المنتفع للنعم وشكره للمنعم، وأعني بالشهود أن يحضر قلبه أنه عامل بشرع الله ومقيم لسنة فطرته التي فطر الناس عليها، وأنه يجب أن يشكر له ذلك بالاعتراف والحمد والثناء كما شكره بالاعتقاد والاستعمال، وبذلك يكون عاملا بالكتاب والحكمة.
فعلم مما شرحناه أن امتناع امرئ من الطيبات التي رزقه إياها مع الداعية الفطرية للاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه في الدنيا، ويستحق به عقاب الله في الآخرة بزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها الله، وبما يترتب على ذلك من إضاعة بعض حقوق الله وحقوق عباد الله كإضاعة حقوق امرأته أو عياله، وناهيك به إذا انتصب قدوة لغيره، فكان سببا لغلو بعض الناس في الدين وتحريمهم على أنفسهم وعلى من يقتدي بهم ما أحله الله تعالى. والتحريم والتحليل تشريع: وهو حق من حقوق الربوبية، فمن انتحله لنفسه كان مدعيا للربوبية أو كالمدعي لها، ومن اتبع في ذلك فقد اتخذ ربا، كما يؤخذ من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } [التوبة: 31] وسيأتي في موضعه في التفسير.
{ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } في الأكل وغيره، فلا تفتاتوا عليه في تحريم ولا تحليل، ولا تتعدوا حدوده فيما أحل ولا فيما حرم، فإن اتقاء سخطه في ذلك من لوازم إيمانكم به، ومن اعتداء حدوده في الأكل والشراب الإسراف فيها، فإنه قال:
{ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [الأعراف: 31] فمن جعل شهوة بطنه أكبر همه فهو من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخم فهو من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل، فهو من المسرفين، وما كان المسرف من المتقين.
والأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائدة من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا، فهو من باب الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد، وبه يدفع إشكال من عساه يقول: إن الدين شرع لتزكية النفس، والتمتع بالشهوات واللذات ينافي التزكية وإن اقتصر فيه على المباحات، وكم أفضى التوسع في المباحات إلى المحرمات؟ وقد ذكر تعالى أنه يقال في الآخرة لأهل النار
{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } [الأحقاف: 20] فكيف يكون الاستمتاع بالطيبات مطلوبا شرعا؟ وكيف يحتاج فيه إلى أمر الشرع، وهو مستغنى عنه باقتضاء الطبع؟
وبيان الدفع: أن تزكية الأنفس إنما تكون بإيقافها عند حد الاعتدال، واجتذاب التفريط والإفراط، وقد خلق الله الإنسان مركبا من روح ملكية وجسد حيواني، فلم يجعله ملكا محضا، ولا حيوانا محضا، وسخر له بهذه المزية جميع ما في عالمه الذين يعيش فيه من المواد والقوى والأحياء، وجعل من سنته في خلقه أنه تكون سلامة البدن وصحته من أسباب سلامة العقل وسائر قوى النفس، ولذلك حرم عليه ما يضر بجسده، كما حرم عليه ما يضر بروحه وعقله،
ومن ضعف جسده، عجز عن القيام بالصلاة والصيام والحج والجهاد والكسب الواجب عليه للنفقة على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم، وعلى مصالح أمته العامة، فإن لم يعجز عن القيام بها كلها، عجز عن بعضها، أو من الكمال فيها غالبا، كما أنه يقل نسله ويجيء قميئا ضعيفا أو ينقطع البتة، ويكون بذلك مسيئا إلى نفسه وإلى الأمة، والتمتع بالطيبات من غير إسراف ولا اعتداء لحدود الله وسنن فطرته هو الذي يؤدى به حق الجسد وحق الروح، ويستعان به على أداء حقوق الله وحقوق خلقه، فإن صحبته التقوى فيه وفي غيره تتم التزكية المطلوبة.
لا ننكر مع هذا أن منع النفس من الشهوات المباحة أحيانا مما يستعان به على تزكية النفس وتربية الإرادة، وحسبنا منه ما شرع الله لنا من الصيام، وهو مما يدخل في عموم التقوى في هذا المقام، فإنه سبحانه وتعالى بين لنا أن حكمة الصيام وسبب شرعه كونه مرجوا لتحصيل ملكة التقوى إذ قال:
{ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [البقرة: 183] وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير هذه الآية من الجزء الثاني وفي مواضع أخرى،
فالصيام رياضة بدنية نفسية، وجمع بين حرمان النفس من لذاتها بقصد التربية، وبين تمتعها بها توسلا إلى شكر النعمة والقيام بالخدمة، أما ما قيل من استغناء الناس بداعية الطبع عن أمر الشرع بهذا التمتع، فهو مدفوع بما أحدثه حب الغلو في كثير من الناس من الجناية على أبدانهم وعقولهم وأممهم بترك طيبات الطعام والنساء،
وأما ما يقال للكفار يوم القيامة:
{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } [الأحقاف: 20] فمعناه أنهم جعلوا كل همهم في حياتهم الدنيا التمتع الجسدي ولو بالحرام، فلم يعطوا إنسانيتهم حقها بالجمع بينه وبين تقوى الله التي هي سبب النعيم الروحاني، وقد بين تعالى ذلك بقوله: { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [محمد: 12].
فتبين مما شرحناه في تفسير الآيتين أن هدي القرآن في الطيبات أي المستلذات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال، كهديه في سائر الأشياء التي يسرف فيها بعض الناس ويقصر بعض، والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فأكثر الناس ينكبون عنه في التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، فيكونون كالأنعام بل أضل لما يجنون به على أنفسهم، حتى قال بعض الحكماء: إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم،
يعني أنهم لإسرافهم في الطعام يصابون بأمراض تكون سببا لقصر آجالهم، وإسراع الهرم فيهم، والقليل من الناس ينحرفون عنه إلى جانب التفريط والتقصير، إما اضطرارا كالمقترين البائسين، وإما اختيارا كالزهاد المتقشفين، والتزام صراط الاعتدال المستقيم أعسر وأشق على النفس، وأدل على الفضيلة والعقل، وكل حزب بما لديهم فرحون.
لا يخطر على بال المسرف أن يدعي أنه متبع هدي الدين في إسرافه، وقصارى ما يعتذر به عن نفسه إذا عذل وعيب عليه إسرافه شرعا أن يدعي أنه لم يتجاوز حد ما أباحه الله له، وإذا قصد المعتدل اتباع الشرع بإقامة سنة الفطرة وإعطاء كل ذي حق حقه من جسده ونفسه وأهله، وشكر الله على نعمه باستعمالها كما ينبغي، فقلما يفطن الناس لذلك منه، ولا يكاد أحد يعده به كامل الدين معتصما بالفضيلة، فهي فضيلة لا رياء فيها ولا سمعة، وإنما المفرطون بتعمد التقشف هم الذين كثيرا ما يغترون بأنفسهم ويغتر الناس بهم، فهم على انحرافهم عن صراط الدين يدعون أو يدعى فيهم أنهم أكمل الناس في اتباع الدين.
أعوز هؤلاء النص على دعوى كون الغلو في التقشف من الدين، فتعلقوا ببعض وقائع الأحوال من سيرة فقراء السلف الصالح على تصريحهم بأن وقائع الأحوال في السنة لا يستدل بها لإجمالها وتطرق الاحتمال إليها، فكيف إذا كانت وقائع من لا يحتج بقول أحد منهم ولا يفعله؟
عقد أبو حامد الغزالي في إحيائه كتابا سماه (كتاب كسر الشهوتين) شهوة البطن وشهوة الفرج، وطريقته أن يبدأ في كل موضوع بما ورد فيه من الآيات فالأخبار النبوية فالآثار السلفية، ونراه لم يجد آية يبدأ بها موضوع (بيان فضيلة الجوع وذم التشبع) فبدأه بأحاديث أكثرها لا يعرف المحدثون له أصلا قط، وبعضها ضعيف أو موضوع فمن هذه الأحاديث ما نذكره غير مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
(1) جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله، وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش،
(2) لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه.
(3) قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال من قل مطعمه وضحكه ورضي بما يستر به عورته.
(4) سيد الأعمال الجوع، وذل النفس لبس الصوف،
(5) البسوا واشربوا وكلوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة.
(6) الفكر نصف العبادة، وقلة الطعام هي العبادة،
(7) أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعا وتفكرا، وأبغضكم عند الله كل نئوم وشروب،
(8) لا تميتوا القلب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء.
قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: عند كل حديث من هذه الأحاديث إنه لم يجد له أصلا، وأقره المرتضى الزبيدي شارح الإحياء على ذلك.
ومما أورده من المرويات في كتب المحدثين حديث أسامة بن زيد الطويل في وصف الزهاد الذي أوله عنده:
"إن أقرب الناس من الله عز وجل من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء (ومنه) أكلوا العلق، ولبسوا الخرق، شعثا غبرا، يراهم الناس فيظنون أن بهم داء، وما بهم داء، ويقال إنهم قد خولطوا فذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم، (وفي آخره) وإن استطعت أن يأتيك بالموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فإنك بذلك تدرك أشرف المنازل وتحل مع النبيين" إلخ، فهذا رواه أحمد في الزهد وابن الجوزي في الموضوعات وفي إسناده حبان بن عبد الله بن جبلة أحد الكذابين وهو منقطع وأكثر رجاله مجهولون، وأسلوبه بعيد من أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الكتب أطول منه في الإحياء، وفي الأوصاف تقديم وتأخير.
وجملة القول: أنه لم يورد في جملة تلك الأحاديث كلها من الصحاح إلا حديث
"المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" هو في البخاري بلفظ "يأكل المسلم في معى واحد" إلخ، وله قصة حملت الطحاوي وابن عبد البر على القول بأنه خاص بكافر واحد لا عام، ولغيرهما فيه بضعة أقوال، منها أنه مثل للمبالغة في هم الكافر بالتمتع، وحديث عائشة "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا" وهو في الصحيحين.
وأما المعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أنه كان يأكل ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو بالزيت أو الخل، وتارة يجوع وتارة يشبع ليكون قدوة للمعسر والموسر، ولكنه ما كان يهمه أمر الطعام، إنما كان يعني بأمر الشراب، ففي حديث عائشة في الشمائل للترمذي " كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد " وفي سنن أبي داود: " أنه كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا (بضم السين) عين أو قرية بينها وبين المدينة يومان، قال العلماء: يدخل في ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر والزبيب ونحو ذلك، والتفصيل في كتب السنة.