التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٠٨
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٩
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١٠
-الأنعام

تفسير المنار

أمر الله تعالى رسوله فيما قبل هذه الآيات بتبليغ وحيه بالقول والفعل، وبالإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وعلل ذلك بأن من مقتضى سنته في خلق البشر متفاوتي الاستعداد، مختلفي الفهم والاجتهاد، أن لا يتفقوا على دين، ومن مقتضى هدايته في بعثة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين وهادين لا جبارين، فعليهم أن لا يضيقوا ذرعا بحرية الناس في اعتقادهم، فإن خالقهم هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان إجبارا وهو قادر على ذلك، ثم عطف على هذا الإرشاد النهي عن سب آلهتهم، وطلب بعضهم للآيات وحقيقة حالهم فيها فقال:
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } ; أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبوداتهم التي يدعونها من دون الله لجلب النفع لهم أو دفع الضر عنهم بوساطتها وشفاعتها عند الله لهم، فيترتب على ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى (عدوا)، أي تجاوزا منهم في السباب والمشاتمة التي يغيظون بها المؤمنين إلى ذلك بغير علم منهم أن ذلك يكون سبا لله سبحانه، لأنهم وهم مؤمنون بالله لا يتعمدون سبه ابتداء عن روية وعلم، بل يسبونه بوصف لا يؤمنون به كسبهم لمن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحقير آلهتهم، أو لمن يقول إنها لا تشفع ولا تنفع، أو يقولون قولا يستلزم سبه بحيث يفهم ذلك منهم وإن لم يعلم ذلك قائله. وهذا مما يجب اجتناب سبه حتى على القول بأن لازم المذهب ليس بمذهب أو يقابلون الساب لمعبودهم بمثل سبه يريدون محض المجازاة فيتجاوزونها كما يقع كثيرا من المختلفين في الدين والمذهب، يسب نصراني نبي المسلم فيسب المسلم نبيه ويريد عيسى: (عليهما الصلاة والسلام) ويسب شيعي - يلاحي سنيا ويماريه - أبا بكر فيسب عليا (رضى الله عنهما) والأول يعلم أن سب عيسى كفر ; كسب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والثاني يعلم أن سب علي فسق ; كسب أبي بكر - رضي الله عنهما.
ومثل هذا يقع كثيرا، بل كثيرا ما يتساب أخوان من أهل دين واحد يسب أحدهما أبا الآخر أو معبوده فيقابله بمثل سبه، يغيظه بسب أبيه مضافا إليه ويعده إهانة له، فيسبه مضافا إلى أخيه إهانة لأخيه. وهذا كله من حب الذات والجهل الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها، يهين والده المعظم عنده ومعبوده الذي هو أعظم منه احتماء لنفسه وعصبية لها. وقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو مرفوعا:
"من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" .
فالمراد بالعلم المنفي - على هذا - العلم الحضوري الباعث على العمل وهو إرادة السب التي يقصد بها إهانة المسبوب، فإن هذا الساب هنا لا يتوجه قصده إلا إلى إهانة مخاطبه الذي سبه ويجوز أن يراد بالعلم المنفي اعتقاد الساب أن خصمه لا يعبد الله تعالى بل يعبد إلها آخر، لأنه يصف معبوده بما لا يصح أن يوصف به الله تعالى عنده، وقد ثبت عن بعض المختلفين في الأديان وفي مذاهب الدين الواحد وصف ربهم وإلاههم بصفات، ورب خصومهم وإلههم بصفات تناقضها أو تضادها، كما يقول مثبتو الصفات ونفاتها بعضهم في بعض ويمكن التمثيل لهذا باختلاف الأشعرية والمعتزلة في مسألة إرادة الله تعالى للشر والكفر وعدمها، فقد يبالغ كل منهما فيه فيزعم أن إلهه غير إله مخالفه،
وقد نقل عن اثنين من أكابر علمائهما أنهما التقيا فقال المعتزلي: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأشعري: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، أي ومنه الفحشاء فهل يبعد أن يعبر بعض المجازفين عن هذين المعنيين بصيغة السب لتأييد المذهب؟ دع ما يقوله من هم أشد منهم غلوا في تضليل المخالف وتكفيره والجميع يقولون إنهم يعبدون الله خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وهم صادقون في ذلك وإن اتخذ بعضهم له شريكا أو وصفه بما لا يليق به أو نفى عنه عما وصف به نفسه، ولكن تعصب المرء لنفسه ولمن تجمعه به جامعة ما قد تحمله على توسيع شقة الخلاف بمثل ذلك ولا سيما في أثناء الجدل،
وفي هذا المقام تزداد فهما لقوله عز وجل:
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } [العنكبوت: 46] هذا ما نراه في معنى النهي وتعليله وقد ورد في المأثور ما يؤيد بعضه ننقله عن الدر المنثور وهو:
" أخرج ابن جرير وابن منذر وابن حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية. قال قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجو ربك ; فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وأخرج ابن حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب. فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه.
فدعاه فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ماذا يريدون؟ " قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم لو أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج؟ " قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال: " قولوا: لا إله إلا الله " فأبوا واشمئزوا، قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: " يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي، ما قلت غيرها " إرادة أن يؤيسهم، فغضبوا وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله، فأنزل الله { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } انتهى. أي أنزل ذلك ضمن السورة كما تقدم نظيره " ا هـ.
وقد غفل بعض المفسرين عن مثل ما ذكرنا من شئون الناس التي تحملهم على سب أعظم شيء عندهم في حال الغضب، والملاحاة في المراء والجدل وعن التفسير المأثور عن السلف، حتى قال بعضهم: إن المراد بسبهم الله تعالى هنا سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من باب التجوز على حد قوله تعالى:
{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [الفتح: 10] وهو تكلف بعيد، وقال الراغب: وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحا، ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه انتهى. وما قاله مما يقع مثله وليس كل المراد.
و استشكل بعضهم النهي بما ورد في الكتاب العزيز من وصف آلهتهم بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تقرب ولا تشفع، وأنها وإياهم حصب جهنم، وتسميتها بالطاغوت وهو مبالغة من الطغيان، وجعل عبادتها طاعة للشيطان. وقد يجاب عنه بأن هذا لا يسمى سبا. وإن زعموه جدلا، لأن السب هو الشتم وهو ما يقصد به الإهانة والتعيير، والغرض من ذكر معبوداتهم بذلك بيان الحقائق والتنفير عن الخرافات والمفاسد وأجيب على تقدير التسليم بأن سب ما يستحق السب جائز في نفسه، وإنما يحظر إذا أدى إلى مفسدة أكبر منه، والحال هنا كذلك. وقد صح النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام، وكمثلها التلاوة في المواضع المكروهة.
واستنبط العلماء من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، فإن ما يؤدي إلى الشر شر، وفرقوا بين هذا وبين الطاعة في كل مكان فيه معصية لا يمكن دفعها. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وإيضاح فإن من الطاعة ما يجب وما لا يجب، ومن المعاصي والشرور التي تترتب على بعض الطاعات أحيانا ما هو مفسدة راجحة وما ليس كذلك، ومن كل منهما ما يمكن التفصي من ترتبه على الطاعة وما لا يمكن التفصي منه، ولكل من ذلك أحكام، وتعرض له درجات الإنكار الثلاث:
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
ومن فروع هذه المسألة ما ذكرناه في العدد الأول من منار السنة الأولى في بحث اصطلاح كتاب العصر، وهو أن معنى لفظ الكفر في اللغة الستر والتغطية، ومنه قيل الليل كافر والبحر كافر، وأطلق لفظ الكفار في سورة الفتح على الزراع وغلب لفظ الكفر في القرآن وعرف عند الفقهاء والمتكلمين بمعنى المقابل للإيمان الصحيح شرعا، ثم غلب في عرف كتاب هذا العصر على الملاحدة المعطلين المنكرين لوجود الله عز وجل، فصار إطلاقه على كل متدين سبا وإهانة، فيترتب على هذا أن إطلاقه على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعا إذا تأذى به ولا سيما في الخطاب. وذكرنا لهذا من فتاوى الحنفية وهو ما في معين الحكام قال: إذا شتم الذمي يعزر لأنه ارتكب معصية. وفيه نقلا عن الغنية: ولو قال للذمي يا كافر يأثم إن شق عليه ذلك اهـ.
(ومنها) ما ذكرته في سياق الكلام في المختلفين في لعن معاوية بن أبي سفيان من (المنار ص 630 م7) بعد بيان ما يترتب على لعنه من التعادي بين الشيعة والسنيين وهو: لهذا لا أبالي أن أقول: لو اطلع على الغيب وعلم أنه مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه. وغرضي من هذا أن اللعن يترتب عليه مفاسد الشقاق بين المسلمين ما يجعله محرما وأكثر المسلمين يحرمون لعنه، وقد لعن الله الشيطان ويلعنه اللاعنون في كل مكان، ومن لا يلعنه طول عمره لا يسأله الله عن ذلك لأنه لم يوجب عليه كما قال بعض الأئمة، وليس هو من الطاعات التي أمرنا الله تعالى بها وإن كان جائزا في نفسه.
(ومنها) ما نقل عن أبي منصور قال: كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه - وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر "؟ وكذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه وأجاب عنه بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض وكذا التبليغ، وما كان مباحا ينهى عما يتولد عنه.
واختلف الفقهاء في إجابة الدعوة إلى وليمة النكاح المقارنة لبعض المعاصي كما يقع كثيرا; هل يجيب الدعوة ويغير ما يراه من المنكر بيده أو بلسانه إن قدر، وإلا أنكره بقلبه وصبر؟ أم يجيب في حال القدرة على التغيير دون حال العجز؟ أم يفرق فيه بين من يقتدى به وغيره فيحرم حضوره المنكر ولو مع النهي عنه على الأول دون الثاني؟ أقوال: لا مجال هنا لتحقيق الحق فيها، ولا للإطالة في فروع المسألة.
{ كذلك زينا لكل أمة عملهم } أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر - حمية لمن يدعو من دون الله - زينا لكل أمة عملهم من إيمان وكفر وخير وشر، أي مضت سنتنا في أخلاق البشر وشئونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم، إذا صار يسند وينسب إليهم، سواء كانوا على تقليد وجهل، أم على بينة وعلم، فسبب التزيين في الأول أنسهم به كونه من شئون أمتهم، التي يعد مدحها مدحا لها ولهم، وذمها عارا عليها وعليهم، وزد على ذلك في الثاني ما يعطيه العلم من كون ذلك حقا وخيرا في نفسه يترتب عليه فضلهم على غيرهم فيه وفي الجزاء عليه، وشبهات الأول ليس لها مثل هذا التأثير.
فظهر بهذا أن التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه، وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا، من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها، وما يقابلهما من النهي والترهيب عنها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله، ولكان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يهدون الناس ويزكون بالتأديب - كله من الجنون، ومن لوازم ذلك أن يكون التفاوت بين الأخيار والأشرار من الناس كالتفاوت بين الملائكة والشياطين، وهو خلاف مقطوع به عقلا ونقلا من استوائهم في قابلية كل منهم للإيمان والكفر والخير والشر، وقد غفلت المعتزلة عن هذا التحقيق فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم الإيمان، وبعضهم بغير ذلك، واحتج بها بعض الجبرية في الظاهر والباطن معا، وبعض الأشعرية الذين يعتقدون الجبر ويقيمون الحجج لإثباته ويتبرءون من لفظه والانتساب إلى أهله - احتج كل منهما بأنها نص في مذهبه.
وقد تفلسف الرازي في الاستدلال على أن تزيين الكفر بخلق الله تعالى من غير اختيار للعبد، فزعم أن الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم لكونه كفرا وجهلا، وإنما يختاره لاعتقاده كونه إيمانا وعلما وصدقا وحقا، فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل الثاني، وذلك الجهل السابق إن كان اختياريا يقال فيه مثل ما قيل فيما قبله فيلزم التسلسل المحال، وقال: " لما كان ذلك باطلا وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء، وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيمانا وحقا وعلما وصدقا، فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل في قلبه " اهـ. ويبطل هذا الدليل الذي سماه قطعيا أن الجهل أمر سلبي لا يوصف بأنه خلق ابتدائي، وأنه ليس كل كفر مزينا لصاحبه باعتقاده أنه حق وعلم وصدق كما زعم بل شر الكفر وأشده كفر الجحود والعناد والمكابرة، وإنما يزينه الشيطان لصاحبه بعده من عزة النفس وشرفها، بالامتناع من اعترافها بما تراه عارا عليها وعلى الآباء والأجداد باتباع من هو دونها في الشرف والجاه كما عرف من شأن الجادين، من رؤساء الأمم المترفين، مع الأنبياء المرسلين، وورثتهم من العلماء المصلحين.
فعلم من هذا التحقيق أن تزيين الأعمال للأمم عبارة عن سنة الله تعالى في أعمالها وعاداتها وأخلاقها المكسوبة والموروثة. وقد بينا في تفسير:
{ زين للناس حب الشهوات } [آل عمران: 14] أن ما كان كذلك لا يسند إلى الله تعالى واضع السنن وكاتب المقادير وأما تزيين القبيح من عمل واعتقاد فيسنده تارة إلى الشيطان، وشواهده في هذه السورة (6: 43 و137) وفي الأنفال (8: 48) والنحل (16: 63) والنمل (27: 24) والعنكبوت (29: 38) وحم السجدة (41: 25) وتارة إلى المفعول وشواهده في هذه السورة (6: 22) وفي التوبة ويونس وفاطر والمؤمن والقتال والفتح وورد إسناده إلى الله تعالى في أول سورة النمل فقط،
ويقابله إسناد تزيين الإيمان إليه تبارك اسمه في سورة الحجرات فقط ويجمعهما معا إسناد الأعمال إليه تعالى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها، ونحوه إسناد " حب الشهوات " إلى المفعول في سورة آل عمران ويراجع تفسيرنا لها، ولقوله تعالى في أواخر سورة البقرة:
"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" [البقرة: 286]، وفي تفسير الأخيرة كلام حسن للأستاذ الإمام في الخير والشر.
{ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } أي ثم يرجع جميع أفراد أولئك الأمم إلى ربهم الذي هو سيدهم ومالك أمرهم بعد أن يموتوا ويبعثوا لا إلى غيره، إذ لا رب غيره، فينبئهم عقب رجوعهم إليه للحساب والجزاء بما كانوا يعملون مما كان مزينا لهم وغير مزين، ويجزيهم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } أي وأقسم أولئك المشركون المعاندون بالله أشد أيمانهم تأكيدا ومنتهى جهدهم ووسعهم مبالغة فيها، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها أو مطلقا ليؤمنن بها أنها من عند الله للدلالة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيكون إيمانهم بها إيمانا به أو ليؤمنن بما دعاهم إليه بسببها: { قل إنما الآيات عند الله }; أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله تعالى فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته،
{ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } [الرعد: 38] ومشيئته، وكمال الأدب معه تعالى أن يفوض إليه الأمر في ذلك. وتقدم تحقيق المسألة في أوائل تفسير السورة.
روى أبو الشيخ عن ابن جريج أن هذا نزل في المستهزئين الذين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية، وأخرج ابن جرير مثله عن محمد بن كعب القرظي مفصلا، فذكر أنهم ذكروا له أخبارا بعصا موسى وإحياء عيسى الموتى وناقة ثمود وطلبوا منه أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأقسموا بالله لئن فعل ليتبعنه أجمعين، فقام - صلى الله عليه وسلم - يدعو فجاءه جبريل فخيره بين أن يصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا - أي عذاب الاستئصال حسب سنته تعالى كما تقدم في هذه السورة - وبين أن يتركهم حتى يتوب تائبهم فاختار الثاني فأنزل الله فيهم { وأقسموا بالله } حتى { ولكن أكثرهم يجهلون } أي فأنزل الله هذه الآيات في ضمن السورة التي نزلت دفعة واحدة، وتقدم تحقيق مثله مرارا.
{ ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } أي إنكم ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءت الآية. والخطاب للمؤمنين الذين تمنوا مجيء الآية ليومنوا والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم، وقيل لهم وحدهم، ويؤيد الأول رواية دعائه بذلك، ورواية طلبه القسم منهم ليؤمنن بها، وقد غفل من غفل من المفسرين عن كون الاستفهام إنكاريا نافيا لشعورهم بهذا الأمر الثابت عنده تعالى في علم الغيب، فذهب إلى أن المعنى وما يشعركم أنهم يؤمنون إذا جاءت؟ فجعلوا النفي لغوا، وذهب بعضهم إلى أن (أنها) بمعنى لعلها، ونقلوا هذا عن الخليل وجاءوا عليه بشواهد، هم في غنى عنه وعنها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه عن عاصم ويعقوب (إنها) بكسر الهمزة كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم إذا جاءت؟ وكأنهم قالوا: ماذا يكون منهم؟ فأخبرهم بذلك قائلا: أنها إذا جاءت لا يؤمنون وقرأ ابن عامر وحمزة (لا تؤمنون) الخطاب للمشركين، وهو كسابقه التفات وتلوين. { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } هذا عطف على قوله: (لا يؤمنون) وبيان لسنة الله تعالى في عدم إيمانهم برؤية الآية. أي وما يشعركم أيضا أننا نقلب أفئدتهم عند مجيء الآية بالخواطر والتأويلات والتفكر في استنباط الاحتمالات وأبصارهم في توهم التخيلات. كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات، وقيل الضمير في قوله تعالى:
{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } [الحجر: 14-15] فإن من لم يقنعه ما اشتمل عليه القرآن من الآيات العقلية العلمية، لا يقنعه ما يراه بعينه من الآيات الحسية، بل يدعي أن عينيه خدعتا أو أصيبتا بآفة فهي لا ترى إلا صورا خيالية، أو أنه من أعمال السحر الصناعية، وهل هذا إلا خلق الأولين، في مكابرة آيات من بعث فيهم من المرسلين؟
{ ونذرهم في طغيانهم يعمهون } العمه: التردد في الأمر من الحيرة فيه، أي وندعهم في تجاوزهم الحدود في الكفر والعصيان، المشابه لطغيان الماء في الطوفان، الذي رسخوا فيه فترتب عليه ما ذكر من سنتنا في تقليب القلوب والأبصار، يترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، هل هو الحق المبين، أم السحر الذي يخدع الناظرين؟ وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين، أم المكابرة له والجدال فيه كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم؟ وهذا صريح في أن رسوخهم في الطغيان الذي هو منتهى الإسراف في الكفر والعصيان، وهو سبب تقليب القلوب والأبصار وإنما إسناده إلى الخالق لها لبيان سنته الحكيمة فيها. كغيره من ربط المسببات بأسبابها، وإنما يخطئ كثير من الناس هذا الأمر الواقع لعدم التأمل فيه، وتوهم أن جميع ما يسند إليه تعالى فهو من الخلق المستقل دون نظام للمقادير، وهى نزعة قدرية داخلة في قولهم " الأمر أنف " أو لا نظام فيه ولا قدر، يتبعهم خصومهم فيها وهم لا يشعرون، ويوقعهم التعصب للمذاهب في أظهر التناقض وهم غافلون، فنسأله تعالى أن يثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق، ويحفظنا من الطغيان والعمه في كل أمر، ويجعلنا ممن أبصر بما جاءه من البصائر، ويصلح لنا السرائر والظواهر، اللهم آمين.