التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤٥
وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ
١٤٦
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٤٧
-الأنعام

تفسير المنار

تقرر في الآيات السابقة أنه ليس لأحد أن يحرم على أحد شيئا من الطعام - وكذا غيره - إلا بإذن من الله في وحيه إلى رسله. وأن من فعل ذلك فهو مفتر على الله تعالى معتد على مقام الربوبية، إذ لا يحرم على العباد إلا ربهم. وأن من أطاعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى في ربوبيته،
والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأن من هذا الشرك والافتراء على الله تعالى ما حرمت الجاهلية من الأنعام والحرث كما فصل في الآيات التي قبل هذه، وقد ختم الله تعالى هذا السياق ببيان ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وشرع من قبله فقال:
{ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به } أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على الله تعالى فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم ولغيرهم من الناس: لا أجد فيما أوحاه الله تعالى إلي طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله، بل الأصل في جميع ما شأنه أن يؤكل أن يكون مباحا لذاته، إلا أن يكون ميتة، أي بهيمة ماتت حتف أنفها ولو بسبب غير التذكية بقصد الأكل، أو دما مسفوحا، أي مصبوبا كالدم الذي يجري من المذبوح أو لحم خنزير، فإن ذلك كله خبيث تعافه الطباع السليمة وضار بالأبدان الصحيحة،
أو فسقا أهل لغير الله به، وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدا ويذكر اسم ذلك الغير عليه عند ذبحه، وجعل بعضهم الوصف بالرجس للحم الخنزير خاصة واستدلوا به على نجاسة عينه حتى قال بعضهم بنجاسة شعره.
وما اخترناه من كون الوصف لجميع ما ذكر من الأنواع الثلاثة هو المتبادر وهو أظهر في الميتة والدم المسفوح منه في لحم الخنزير، ولا سيما إذا أريد بالرجس الحسي منه فإن طباع أكثر البشر تستقذرهما وتعافهما، ولحم الخنزير من أجمل اللحوم منظرا فلا يعافه إلا من يعتقد حرمته وذلك استقذار معنوي لا حسي، وإنما يستقذر الخنزير حيا بملازمته للأقذار وأكله منها.
والأرجح أن سبب تحريم لحمه ما فيه من الضرر لا كونه من القذر، وتقدم بيان ذلك في تفسير آية المائدة.
قرأ ابن كثير وحمزة { تكون ميتة } بالتاء لتأنيث ميتة، وابن عامر بالتاء مع رفع ميتة على معنى إلا أن توجد ميتة، والباقون بالياء مع نصب ميتة وهذه وجوه في العربية كلها جائزة فصيحة.
{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } أي فمن دفعته ضرورة المجاعة وفقد الحلال إلى أكل شيء من هذه المحرمات حال كونه غير باغ، أي مريد لذلك قاصد له ولا متعد فيه قدر الضرورة، فإن ربك الذي لم يحرم ما ذكر إلا لضرره. غفور رحيم فلا يؤاخذه بأكل ما يسد رمقه ويدفع به الهلاك عن نفسه.
وقيل: إن المراد بالباغي من يبغي على مضطر مثله فينزع منه ما هو مضطر إليه إيثارا لنفسه عليه. وهذا مما يعلم حظره من أدلة أخرى وقيل: هو من يبغي على الإمام الحق ويخرج عليه. وهذه معصية لا دخل لها في حل الطعام وحرمته.
وظاهر الآية مع عطف ما حرم على بني إسرائيل عليها أن حصر محرمات الأطعمة في الأنواع الأربعة أصل من أصول شرائع جميع رسل الله تعالى، والمعنى: لا أجد فيما أوحي إلي من أخبار الأنبياء وشرائعهم ولا فيما شرع على لساني أن الله حرم طعاما ما على طاعم ما يطعمه إلا هذه الأنواع الأربعة، وما حرمه على اليهود تحريما موقتا عقوبة لهم وهو ما ذكر جملته أو أهمه في الآية التالية، ودليل كونه موقتا ما في سورة آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام { { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } } [آل عمران: 50] وما سيأتي في سورة الأعراف فيمن يتبع خاتم المرسلين منهم: { { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } } [الأعراف: 157] ودليل كونه عقوبة لا لذاته ما سيأتي وقوله تعالى: { { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } } [آل عمران: 93].
الآية وردت بصيغة الحصر القطعي، فهي نص قطعي في حل ما عدا الأنواع الأربعة التي حصر التحريم بها فيها، وقد بينا في تفسير آية المائدة أن المنخنقة والموقوذة والمتردية وأكيلة السبع اللاتي تموت بذلك ولا تدرك تذكيتها قبل الموت من نوع الميتة، فهي تفصيل لها لا أنواع حرمت بعد ذلك حتى تعد ناسخة لآية الأنعام
وتحريم الخبائث لا يدل على محرمات أخرى في الطعام غير هذه فيجعل ناسخا للحصر فيها، فإن لفظ الخبائث يشمل ما ليس من الأطعمة كالأقذار وأكل أموال الناس بالباطل وكل شيء رديء. قال تعالى: { { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } } [البقرة: 267] فليس في القرآن ناسخ لهذه الآية وما في معناها من الآيات المؤكدة لها ولا مخصص لعمومها، وما يريد الله نسخه أو تخصيصه لا يجعله بصيغة الحصر المؤكدة كل هذا التأكيد الذي نشرحه بعد. ولكن ورد في الأحاديث تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير الجوارح وغير ذلك مما يأتي; ولذلك. اختلفت أقوال مفسري السلف والخلف في الآية. وهاك ملخص المأثور فيها من الأخبار والآثار نقلا عن كتاب الدر المنثور:
أخرج عبد بن حميد، عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو منه، ثم تلا هذه الآية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } إلى آخر الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } فقال: ما خلا هذا فهو حلال.
وأخرج البخاري، وأبو داود، وابن المنذر، والنحاس، وأبو الشيخ، عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيث من الخبائث، فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فهو كما قال.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس "أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة - تعني الشاة - قال: فلولا أخذتم مسكها قالت: يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } وإنكم لا تطعمونه وإنما تدبغونه حتى تنتفعوا به" فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } إلى آخر الآية وقال: إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والقد والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه. قالوا: هو دم مسفوح.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: حرم من الدم ما كان مسفوحا فأما لحم يخالطه الدم فلا بأس به.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: { أو دما مسفوحا } قال: المسفوح الذي يهراق ولا بأس بما كان في العروق منها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: آكل الطحال؟ قال: نعم، قال: إن عامتها دم، قال: إنما حرم الله الدم المسفوح.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن أبي مجلز في الدم يكون في مذبح الشاة أو الدم يكون على أعلى القدر؟ قال: لا بأس إنما نهي عن الدم المسفوح.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عمر وعائشة قالا: لا بأس بأكل كل ذي شيء إلا ما ذكر الله في هذه الآية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية.
وأخرج أبو الشيخ، عن الشعبي أنه سئل عن لحم الفيل والأسد - فتلا { قل لا أجد في ما أوحي إلي } الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، عن ابن الحنفية أنه سئل عن أكل الجريث فقال: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس أنه سئل عن ثمن الكلب والذئب والهر وأشباه ذلك فقال: { { ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } } [المائدة: 101] كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون أشياء فلا يحرمونها وأن الله أنزل كتابا فأحل فيه حلالا وحرم فيه حراما وأنزل في كتابه: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير }.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، والنسائي، عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، والنسائي، عن أبي ثعلبة قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أفنيت الحمر، فأمر مناديا فنادى في الناس "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس" فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم.
وأخرج مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه عن جابر قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير والمجثمة والحمار الإنسي.
وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع وحرم المجثمة والخلسة والنهبة.
وأخرج أبو داود، والترمذي. وابن ماجه، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهرة وأكل ثمنها.
وأخرج أبو داود، عن عبد الله بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. وأخرج مالك، والشافعي، وابن أبي شيبة، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال: "لست آكله ولا أحرمه"
وأخرج مالك، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، عن خالد بن الوليد أنه "دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة (وهي خالته) فأتي بضب محنوذ { مشوي بالحجارة المحماة } فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر" .
هذه جملة الأحاديث والآثار التي أوردها السيوطي في تفسير هذه الآية مما يؤيد الحصر في الآية ويخالفه. وتركت أضعف المكرر منها وإن كانت فيه زيادة كحديث خالد بن الوليد فيما حرم يوم خيبر وفيه الخيل والبغال وهو ضعيف وإنما أسلم خالد بعد خيبر.
وفي أصحها أن ابن عباس كان يحتج بالآية على حصر محرمات الطعام فيما حرمته بالنص وإباحة ما عداه ولا يرى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الحمر الأهلية وغيرها ناسخا لها ولا مخصصا لعمومها على أن السلف كانوا يسمون التخصيص نسخا وكذلك ابن عمر وعائشة وهؤلاء من أعلم علماء الصحابة المتأخرين. وهذا هو الأصل القطعي المجمع عليه في هذا الباب وما عداه فهو مختلف فيه.
أما الحمر الأهلية أو الإنسية { ويقابلها الحمر الوحشية وهي مجمع على حلها } فما ورد في حظرها بلفظ النهي يحتمل كونه للكراهة كما قال من لم يحرمها، وأقواها ما ورد بلفظ التحريم مع تعليله بأنها رجس، إذ صرح بعضهم بأنه يدل على أنها محرمة لنجاستها وهي صفة لازمة لها كالخنزير وستعلم ما فيه.
وقد يكون رواية بالمعنى ممن فهم أن النهي للتحريم، وسيأتي أنهم اختلفوا في فهمه وتعليله. ومثله النهي عن أكل الضب وقد فهم بعضهم أنه للتحريم مع صحة الحديث بحله وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لست آكله ولا أحرمه" وأكله في بيته بحضرته، وفي الحديث أن سبب التحريم قول من قال: أكلت الحمر، ثم قوله: أفنيت الحمر. وإننا ننقل خلاصة ما قال العلماء في المسألة ونبني عليه التحقيق فيها فنقول:
ذكر الحافظ في الفتح أن ابن عباس توقف في النهي عن الحمر، هل كان لمعنى خاص أو للتأبيد واستشهد بقول الشعبي عنه: لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة للناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمها ألبتة يوم خيبر (قال): وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال: إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر، وسنده ضعيف
وتقدم في حديث ابن أبي أوفى فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: لأنها كانت تأكل العذرة. (قال الحافظ): وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أوكانت جلالة { أي تأكل الجلة والعذرة } أو كانت انتهبت حديث أنس حيث جاء فيه: " فإنها رجس " وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة،
قال القرطبي: قوله: " فإنها رجس " ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج.
وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدور ظاهر أنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى إن صح شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة. وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه.
وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن من حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونا، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وشدة حاجتهم إليها.
والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم وأيضا فنص الآية خبر عن حكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به، والمنخنقة إلى آخره. وكتحريم السباع والحشرات. قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا إلا عن ابن عباس وعند المالكية ثلاث روايات ثالثتها الكراهة.
وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود، عن غالب بن أبجر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، وقد أصابتنا سنة قال: "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" يعني الجلالة، وإسناده ضعيف والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فلا اعتماد عليها. وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال: "أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر؟ قال: نعم. قال: فأصب من لحومها" وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: سألت. فذكر نحوه - ففي السندين مقال ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم.
قال الطحاوي: لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها; لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي والوحشي منه (ورده الحافظ بمنع دعوى الإجماع وسنده أن بعض الأهلي مختلف في وحشيه كالهر) اهـ.
أقول: هذا ما أورده الحافظ في شرح البخاري من تلخيص أقوال العلماء في مسألة أكل الحمير وعلم منه أن عمدة الجازمين بالتحريم حديث أنس المعلل له بأنها رجس. ونقول إن هذا التعليل هو الراجح المختار عندنا، ولكنه بمعنى حديث غالب بن أبجر المذكور آنفا لا بالمعنى الذي ردوه به وجعلوه شاذا بمخالفته; إذ فسروا وصفها بالرجس بأنها نجسة العين كالخنزير بالمعنى الفقهي للنجاسة وهو ما يجب غسله شرعا، ويمنع صحة الصلاة إذا كان في بدن المصلي أو ثوبه.
وحديث غالب بن أبجر يفسر كونها رجسا بأنها كانت هنالك (أي في خيبر) تأكل العذرة وغيرها من النجاسات; وبذلك فسر بعض المدققين كالبيضاوي كون الخنزير رجسا أيضا. ولكن الخنزير ملازم للأقذار دائم التغذي منها، وأما الحمر فإنما كان ذلك أمرا عارضا لها كما يعرض لغيرها من الدواجن كالدجاج، فجوال من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما حرمتها من أجل جوال القرية" بتشديد اللام جمع جالة كهوام جمع هامة ودواب جمع دابة، وهي الجلالة التي تأكل العذرة فيخبث لحمها، وقد صح النهي عنها، وفسره الشافعية وغيرهم بتحريمها تحريما عارضا موقتا، أي ما دام لحمها ولبنها متغيرا من النجاسة بالنتن وتغير الرائحة، وهذا هو العمدة كما جزم به النووي في الروضة تبعا للرافعي، وقيل: هي ما كان أكثر علفها نجسا،
فحديث أنس شاهد يقوي حديث غالب بن أبجر لأنه بمعناه لا معارض له فيجعل شاذا بمخالفته إياه، فلا يضره اضطراب سنده إذا مع عدم الطعن برجاله.
وحديث أم نصر المحاربية يقوي ما ذكرناه بتعليله حل لحوم الحمر بكونها تأكل الكلأ وورق الشجر أي لا النجاسة - فالحديثان متفقان في المعنى مع حديث أنس الذي هو عمدة القائلين بتحريم الحمر، وإنما يجمع بين هذه الأحاديث وبين الآية بل الآيات القطعية اللفظ والدلالة على الإباحة بأن التحريم كان عارضا موقتا فيقصر على وجود العلة في كل زمان ومكان ويباح في سائر الأحوال على الأصل ومقتضى النص القطعي، وهذا لا يمنع صحة تعليل بعض الصحابة إياه بقلة الظهر أي ما يحمل عليه، فإنه كان سبب النهي في حديث أنس وتلاه قوله: فإنها رجس. وما قيل من معارضته بحل الخيل مردود بأن المراد بالحاجة إلى الحمل هي حمل المتاع من الغنائم وغيرها ولم تكن الخيل تستعمل لهذا ولا تفي به، وقد صرحوا بأنها كانت عزيزة وقتئذ.
ولو كانت الحمير نجسة العين شرعا لورد ذلك صريحا من أول الإسلام وتوفرت دواعي نقله وتواتر العمل بمقتضاه، وإكفاء القدور وغسلها لو لم يكن للرجس العارض من أكلها العذرة لتعين أن يكون لمحض النظافة كما يفعل جميع الناس في جميع القدور التي يطبخون فيها لحوم الأنعام وغيرها من الطيبات فإنهم يغسلونها بعد فراغها.
وأما جوابهم عن الآية بأنها مكية بينت ما كان محرما وقت نزولها وليس فيها ما يمنع تحريم غيره بعدها كتحريم الحمر والمنخنقة والموقوذة إلخ. فهو غفلة وقع فيها كثير من الحفاظ والمفسرين والفقهاء وجل من لا ينسى ولا يخطئ.
الآية قد أكدتها آية بعدها في سورة النحل وآية مدنية في سورة البقرة كما ذكرنا وسيأتي شرحه. وتحريم الحمر ليس زائدا على مفهوم الآية لأن الآية في الأطعمة والأغذية وبهذا يرد قول من أورد على الحصر أكل النجاسات والسموم فإن هذه الأشياء ليست أطعمة فتدخل في عموم الآية وكذلك الحمر.
وقد تقدم أن المنخنقة وما عطف عليها في آية المائدة من الميتة، وأما تحريم السباع والحشرات فليس في القرآن، وما ورد في السنة منه فهو موضوع البحث كالحمر الإنسية وقد علمت المختار القوي فيه، فهذا بيان بطلان ما أجابوا به عنها بالإجمال وسيأتي تفصيل فيه قريب. ومن غرائب السهو ذكر الحافظ أن ما أهل به لغير الله مما حرم بعدها وهو فيها.
وأما ما ورد في أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير بلفظ النهي فليس نصا في التحريم لاحتماله الكراهة، وترجيح الاحتمال بدفع التعارض بينه وبين الحصر في الآيات الثلاث متعين على أنه يرد على الحديث أنه كان غير معروف عند علماء الحديث في الحجاز، ولو حرم تحريما قطعيا في غزوة مشهورة لنقل بالتواتر.
وفي الصحيحين من رواية ابن شهاب الزهري أنه لم يسمع هذا النهي في الحجاز حتى إذا جاء الشام سمعه من أبي إدريس الخولاني وفي بعض طرقه مالك، وهو يقول بكراهة أكل السباع لا بتحريمها، فالظاهر أن سبب حمله النهي على الكراهة الآيات واستباحة أهل المدينة لأكل السباع إذ كان يحتج بعملهم في مثل هذا - وأما حديث أبي هريرة الذي انفرد به مسلم بلفظ " فأكله حرام " فيحتمل أنه من الرواية بالمعنى، أي أنه فهم من النهي التحريم فعبر به وهذا كثير في أحاديث ككثرة مراسيله.
ومما يعل به الحديث بعض الفقهاء أن يكون راويه فقيها ومذهبه مخالف لروايته، فالحنفية يرون أنه لو لم يكن يرى أن الحديث لا يحتج به لما خالفه، وناهيك بمثل الإمام مالك في علم الحديث وفقهه وهو من رواته. وحديثا جابر والعرباض المصرحان بالتحريم ليسا صحيحين وإنما حسنا لموافقتهما لأحاديث الصحيحين ولا سيما حديث أبي هريرة. على أنهما قالا: حرم رسول الله كذا وكذا، فالظاهر أنه تعبير عما فهما من كون النهي للتحريم، فليس له قوة المرفوع.
وقد علم من سائر الروايات الواردة فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر أن الصحابة قد اختلفوا في هذا النهي فذهب بعضهم إلى أنه عارض موقت وفهم آخرون أنه قطعي فالمسألة خلافية.
قال الحافظ في شرح حديث أبي ثعلبة من الفتح: قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم، وعن بعضهم أنه لا يحرم، وحكى ابن وهب، وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور، وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة.
وقال ابن عبد البر: اختلف فيه على ابن عباس وعائشة، وجاء عن ابن عمر من وجه ضعيف وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير { يعني عدم التحريم } واحتجوا بعموم { قل لا أجد } والجواب أنها مكية وحديث التحريم بعد الهجرة ثم ذكر نحو ما تقدم من أن نص الآية عدم تحريم غير ما ذكر إذا فليس فيها نفي ما سيأتي،
وعن بعضهم أن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } أي من المذكورات إلا الميتة والدم المسفوح ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها لأنها قرنت به علة تحريمه وهو كونه نجسا،
ونقل إمام الحرمين عن الشافعي أنه يقول بخصوص السبب إذا وردت مثل هذه القصة; لأنه لم يجعل الآية حاصرة لما يحرم من المأكولات مع ورود صيغة العموم فيها، وذلك أنها وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ويحرمون كثيرا مما أباحه الشرع، فكان الغرض من الآية إبانة حالهم وأنهم يضادون الحق فكأنه قيل: لا حرام إلا ما حللتموه مبالغة في الرد عليهم.
وحكى القرطبي عن قوم أن آية الأنعام المذكورة نزلت في حجة الوداع فتكون ناسخة، ورد بأنها مكية كما صرح به كثير من العلماء ويؤيده ما تقدم قبلها من الآيات من الرد على مشركي العرب في تحريمهم ما حرموه من الأنعام، وتخصيصهم بعض ذلك بآلهتهم إلى غير ذلك مما سبق للرد عليهم وذلك كله قبل الهجرة إلى المدينة اهـ.
أقول: هذا أقوى وأوسع ما أجابوا به عن الآية قد لخصه أحفظ الحفاظ وأوسعهم اطلاعا، وكله ساقط على جلالة قائليه، وفي سقوطه أكبر حجة على المقلدين الذين يتركون العلم بكتاب الله وسنة رسوله بالاستقلال والإنصاف، بزعم أن مشايخهم وأئمتهم أحاطوا بكل شيء علما، حتى فيما خالفهم فيه أمثالهم من المجتهدين ومن فوقهم من الصحابة والتابعين: ولسنا نسقطه بنظريات اجتهادية من عند أنفسنا، وإنما نسقطه بما غفلوا عنه من كتاب الله تعالى عند البحث في تأييد مذهبهم والاحتجاج له - وذلك أظهر مواضع العبرة - وهو ما أشرنا إليه من قبل من أن آية الأنعام قد تقرر مضمون معنى الحصر فيها في آية النحل المكية [النحل: 115] وآية البقرة المدنية بالإجماع. والخطاب في هذه للمؤمنين حتما فلا يصح فيها شيء من التأويلات التي نقلها الحافظ آنفا على علاتها، ولعله لولا نصر المذهب لما نسي الحافظ هذا عند النقل، ولا تأييد الفخر الرازي للحصر فيها ورده على الجمهور،
وهذا نص آية سورة البقرة والآية التي قبلها في خطاب المؤمنين { { ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } } [البقرة: 172، 173] لفظ "إنما" يفيد الحصر ولا يأتي فيه شيء من التأويلات التي تكلفوها في آية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها حتى جعلوا العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ على عكس القاعدة الأصولية المشهورة التي يؤيد جريانها في الآية تفسير ابن عباس وغيره من علماء الصحابة.
وهاهنا نكتة دقيقة في التعبير بآية المائدة عن الحصر بالإثبات بعد النفي العام المستغرق، وفي آيتي النحل والبقرة بـ "إنما" لم أر أحدا من المفسرين تعرض لها، وإنما أخذتها من دلائل الإعجاز لإمام عموم البلاغة وواضعها الشيخ عبد القاهر الجرجاني فنلخص قوله فيها مزيدا في البيان، ودقائق بلاغة القرآن. قال:
قال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة والدم } النصب في الميتة هو القراءة ويجوز { إنما حرم عليكم } قال أبو إسحاق: والذي أختاره أن تكون " ما " هي التي تمنع " إن " من العمل ويكون المعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة لأن " إنما " تأتي إثباتا لما يذكر بعدها ونفيا لما سواه.
ثم ذكر الشيخ عبد القاهر أن بين الحصرين فرقا لا ينافيه ما قاله الزجاج وغيره من أئمة اللغة في كون كل من الصيغتين للحصر وأورد أمثلة لذلك يظهر منها أنه لا يصح أن يقع كل منهما في مكان الآخر. ثم قال: اعلم أن موضوع " إنما " على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل هذه المنزلة.
تفسير ذلك أنك تقول للرجل: إنما هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم. لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب...... ومثاله من التنزيل قوله تعالى: { { إنما يستجيب الذين يسمعون } } [الأنعام: 36] وقوله عز وجل: { { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } } [يس: 11] وقوله تعالى: { { إنما أنت منذر من يخشاها } } [النازعات: 45] كل ذلك تذكير بأمر معلوم، وذلك أن كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يسمع ويعقل ما يقال له ويدعى إليه، وأن من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذارا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله ويخشاه ويصدق بالبعث والساعة، فأما الكافر الجاهل فالإنذار وترك الإنذار معه واحد
ثم قال بعد أمثلة أخرى:
وأما الخبر بالنفي والإثبات نحو: ما هذا إلا كذا، وإن هو إلا كذا، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه. فإذا قلت: ما هو إلا مصيب، أو ما هو إلا مخطئ - قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته. وإذا رأيت شخصا من بعيد فقلت: ما هو إلا زيد - لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه ليس بزيد وأنه إنسان آخر ويجد في الإنكار أن يكون زيدا
ثم بين بعد أمثلة ظاهرة في القاعدة أن قوله تعالى حكاية لقول الكفار لرسلهم: { { إن أنتم إلا بشر مثلنا } } [إبراهيم: 10] إنما جاء بالنفي والإثبات دون " إنما " مع أنه معروف عند الفريقين لأنهم جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن كونهم بشرا مثلهم وادعوا أمرا لا يجوز أن يكون لمن هو بشر.
ولما كان الأمر كذلك أخرج اللفظ مخرجه حيث يراد أمر يدفعه المخاطب ويدعي خلافه. ثم جاء الجواب من الرسل الذي هو قوله تعالى: { { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم } } [إبراهيم: 11] كذلك بـ " إن " و " إلا " دون " إنما " - لأن من حكم من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلام الخصم على وجهه ويحكيه كما هو اهـ. ملخصا من الفصل الأول في مسائل " إنما " وصرح في الفصل الثاني بأن " إنما " تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره، وأطال في الأمثلة وشرحها كعادته.
وهذا التحقيق ينطبق على الآيات الثلاث في حصر محرمات الطعام في الأنواع الأربعة فآية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها جاءت في سياق الرد على المشركين فيما افتروه من تحريم ما لم يحرم الله، مع ادعائهم أنه حرمه افتراء عليه تعالى. كما تقدم شرحه - فجاء حصر التحريم فيما ذكر فيها بالنفي والإثبات، لأنهم كانوا يجهلونه وينكرونه، على أن المسلمين لم يكونوا يعرفونه أيضا لأنه أول ما نزل في المسألة; ولذلك فسر به قوله تعالى قبله من السورة: { { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } } [الأنعام: 119] ولم يفسر بآية النحل مع أنها مكية، لأن المروي أن الأنعام نزلت قبل النحل،
ثم جاءت آية النحل بـ " إنما " على قاعدته كما سيأتي، والظاهر أن الخطاب فيها للناس كافة مؤمنهم وكافرهم وإن جاءت في سياق الكلام عن المشركين، وإلا كان جعلها التفاتا إلى مخاطبة المؤمنين أرجح من جعلها خاصة بخطاب المشركين، فإنها مع الآية التي قبلها كآيتي البقرة من حيث إن بيان المحرمات في السورتين جاء بعد الأمر بأكل الحلال الطيب والشكر لله الذي يقتضي إفراده بالعبادة.
وهذا نصهما { { فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } } [النحل: 114، 115] وإنما اخترنا أنها خطاب للناس كافة لمناسبة السياق، ولأن آيتي البقرة قد جاءتا بعد آية في خطاب الناس كافة وهي: { { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } } [البقرة: 168] فتكون آيتا النحل بمعنى الآيات الثلاث في البقرة بمعونة السياق
والإيجاز في السورة المكية كالإطناب في السور المدنية كل منهما معهود، وبينا سببه من قبل فعلى هذا تكون الآية الأولى من الآيات الثلاث في تحريم محرمات الطعام أنزلت بيانا لحكم الله في سياق الاحتجاج على المشركين المنكرين لمضمونه. بما كانوا يحلون ويحرمون بأهوائهم ويفترون على الله تعالى - كما تقدم، ولم يكن سبقها بيان من الوحي في ذلك فجاءت بحصر النفي والإثبات على القاعدة، ثم أنزلت آية النحل مؤكدة لمضمونها في خطاب الناس كافة وهم أمة الدعوة في سياق منة الله تعالى عليهم ومطالبتهم بشكرها فإن سورة النحل هي السورة التي خص أسلوبها بسرد نعم الله على عباده ثم أنزلت آية البقرة بعد الهجرة مؤكدة لمضمون آية النحل في خطاب المؤمنين خاصة، وعبر في كل منهما عن الحصر بـ " إنما " على القاعدة لأن هذا الحصر كان معروفا ومقررا بآية الأنعام.
وإذا تقرر هذا فهو حجة على أنه لا يمكن بعد هذا التأكيد المكرر بصيغتي الحصر ومما سيأتي أيضا أن يكون الحكم قابلا للنسخ والتبديل، بل يجب أن يكون من الأصول الثابتة العامة التي لا تقبل النسخ ولا التخصيص، فهي نفسها مخصصة للآيات الدالة على إباحة منافع الأرض كلها للناس، وأن الأصل في الانتفاع بالأشياء كلها الحل، وليس في كتاب الله تخصيص آخر لذلك ولا في الأخبار المتواترة عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هنالك أخبار آحاد ليست قطعية النص ولا الدلالة على التحريم كما علمت
- وأشهرها وأقواها حديث تحريم الحمر الأهلية الذي قال فيه الزهري - أحد أركان رواته وهو أعلم التابعين بالسنة في وطنها الأعظم وهو الحجاز - إنه لم يسمع به في الحجاز حتى إذا جاء الشام سمعه من أحد فقهائها فكيف حرم ذلك في الحجاز وبلغ للناس في جيش عظيم فيه وبقي إلى زمن الرواية والتدوين خفيا عن مثل الزهري في سعة علمه وعنايته بالرواية؟
ومذهب جماهير علماء الأصول من السلف والخلف أن الأصل عدم النسخ وأن أخبار الآحاد لا ينسخ القرآن; لأن الناسخ يجب أن يكون مساويا للمنسوخ في القوة أو أقوى منه. قال إلكيا الهراسي: وهذا مما قضى به العقل، بل دل عليه الإجماع، فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد، ونقل جماعة منهم الإجماع على عدم وقوعه، منهم ابن السمعاني وصاحب التقريب وأبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي أبو الطيب في الكفاية، ولكن حكى ابن حزم وقوعه، وهي رواية عن أحمد.
وجعل بعضهم أخبار الآحاد في تحريم الحمر الأهلية والسباع مخصصة لعموم حل ما عدا الأربعة المنصوص على حصر التحريم فيها، والجمهور يقولون بتخصيص خبر الواحد للكتاب، ومنعه بعض الحنابلة مطلقا، وأناس آخرون بقيود معروفة في مواضعها.
ورد بأن هذا نسخ لا تخصيص، وجزم بذلك الرازي ويؤيده بعض ما ذكروه من الفروق بينهما ككون التخصيص يجب أن يكون على الفور ولا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالمخصوص والنسخ بخلاف ذلك، وأنه عبارة عن بيان ما أريد بالعموم، وأنه يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه، ولا يصح شيء من هذه المعاني في مسألتنا، فإن عموم إباحة ما عدا الأنواع الأربعة كان في أوائل الإسلام بمكة، وما ذكر من تحريم الحمر الأهلية والسباع كان في أواخر سني الهجرة بخيبر سنة سبع، ولو أراد الله تخصيصه عند إنزال آية المائدة لما عبر عنه بصيغة الحصر، ولما أكده بعدها مرارا.
وقد أطنب الرازي في تقرير دلالة الآية على الحصر وكونها محكمة باقية على عمومها ودفع ما أوردوه عليها، وزاد على ما بيناه من كون التحريم لا يعرف إلا من الوحي، وكون الوحي قرر هذا الحصر، وأكد آية الأنعام فيه بآيتي النحل والبقرة - أن جعل آية أول المائدة مؤكدة لتقريره في قوله تعالى: { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم } مع إجماع المفسرين على المراد بهذا الاستثناء قوله بعد آية أخرى: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } إلخ. (قال): فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.
وأقول: إننا ما تركنا ذكر آية المائدة فيما كتبنا قبل مراجعة كلامه نسيانا لها، بل لأنه لم يخطر في بالنا حينئذ من معناها إلا المشهور في تفسير بهيمة الأنعام وهو أن المراد بها نفس الأنعام; لأن الإضافة فيها من قبيل شجر الأراك أو بمعنى البهيمة المشابهة للأنعام، قالوا: أي في الاجترار وعدم الأنياب كالظباء وبقر الوحش وهو لم يزد على هذا في تفسير الإضافة، وبعد مراجعة كلامه تذكرنا أننا قد اخترنا في تفسيرها أن المراد بالتشبيه كونها من الطيبات، أي ما يستطيبه الناس في مجموعهم وإن عافه أفراد أو طوائف منهم، فقد عاف النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب ولم يحرمه كما ثبت في حديث خالد بن الوليد المتفق عليه وغيره; وبهذا تكون آية المائدة مؤيدة للحصر في الآيات الثلاث،
ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه أن سورة المائدة آخر السور نزولا، وأنه ليس فيها منسوخ، فكل ما خالف حكما من أحكامها فهو المنسوخ بما فيها; إذ كان نزولها في حجة الوداع من السنة العاشرة، والنهي عن الحمر الأهلية والسباع كان في غزوة خيبر سنة سبع كما تقدم، فإن جاز أن يكون مخصصا لعموم آية البقرة - إن صح أنه بعدها وأن المقام مقام التخصيص لا الن‍سخ - تكون آية المائدة ناسخة له لأنها متأخرة حتما.
والأرجح المختار عندنا: أن كل ما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير الأنواع الأربعة التي حصرت الآيات محرمات الطعام فيها، فهو إما للكراهة وإما مؤقت لعلة عارضة كما تقدم في الحمير،
وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس مراد من رد تلك الأحاديث بآية الأنعام من الصحابة وغيرهم أنه لا يقبل تحريم ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن منصوصا في القرآن، بل معناه أنه لا يمكن أن يحرم صلى الله عليه وسلم شيئا جاء نص القرآن المؤكد بحله.
واعتبر هذا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما }..... فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خبيثة من الخبائث " فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال اهـ.
فقوله: " إن كان " مشعر بشكه فيه، وأنه إن فرض أنه قاله وجب قبوله لأن الله أمر باتباعه، ولكن بمعنى أنه خبيث غير محرم كالثوم والبصل. على أن الحديث ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. ويكثر في أحاديث أبي هريرة الرواية بالمعنى والإرسال، لأن الكثير منها قد سمعه من الصحابة وكذا من بعض التابعين لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا تكثر فيها العنعنة.
وذهب بعض أئمة الفقه إلى تحريم ما ثبت في الأحاديث الأمر بقتله لضرره كالحية والعقرب والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور وهن الفواسق الخمس، وكذا الحدأة والوزغ، أو النهي عن قتله كالنمل والنحل والهدهد والصرد والضفدع والصواب ما عليه الجمهور من عدم دلالة الأمر بالنهي في هذا المقام على تحريم الأكل; إذ الأمر بقتل الحيوان الضار لاتقاء ضرره لا ينافي جواز قتله لأجل الانتفاع به بالأكل ولا بغيره ولو لم تدل الدلائل العامة القطعية على إباحة ذلك، فكيف وقد دلت!
وكذلك النهي عن قتله عبثا أو لغرض غير شرعي لا ينافي جواز قتله للانتفاع به بالأكل وغيره، ومن أصول الشريعة القطعية المجمع عليها حظر تعذيب الحيوان والتمثيل به، ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن ابن عمر مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا أو دجاجة يترامونها وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا. والغرض بالتحريك ما ينصبه الرماة ويرمون إليه للتمرن على الإصابة بالسهام والرصاص ونحوه.
وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب في الوجه وعن الوسم فيه، وأنه مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه" وفي سنن النسائي وصحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يارب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة وروى النسائي أيضا والحاكم وصححه مرفوعا ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها"
والأحاديث في الرفق بالحيوان ودفع الأذى عنه - دع ترك إيقاعه به - كثيرة في الصحاح والسنن، ومنها في الصحيحين حديث المرأة التي عذبها الله في النار بحبس الهرة حتى ماتت، وحديث البغي { المومس } التي غفر الله لها إذ رحمت كلبا عطشان بإخراج الماء من البئر بنعلها حتى سقته.
ولا بد لكل نهي خاص عن قتل حيوان معين من سبب خاص أو عام، فالعام كتعود الناس قتل بعض الحشرات احتقارا لها بأدنى سبب كقتل النحل إذا وقع على العسل أو السكر وكذا النمل، والخاص كالذي قاله أبو بكر بن العربي وغيره في سبب النهي عن قتل الصرد وهو أن العرب كانت تتشاءم به فنهي عن قتله ليزول ما في قلوبهم من اعتقاد التشاؤم.
وأقول: إن الهدهد - وهو معروف - يأكل الحشرات الضارة بالزرع والشجر فالظاهر أن هذا هو سبب النهي عن قتله، كما تنهى الحكومة المصرية عن قتله وصيده لأجل ذلك.
وحديث حظر قتل الضفدع لجعله دواء معارض بالقاعدة العامة القطعية في إباحة المنافع وبمفهوم حديث جابر في قتل العصفور عبثا وهو أصح منه.
وجعل الأمر بقتل الحيوان والنهي عنه واستخباث العرب إياه دلائل على تحريم أكله هو مذهب الشافعية والزيدية قال المهدي { من أئمة الزيدية في كتابه البحر }: أصول التحريم إما بنص الكتاب أو السنة أو الأمر بقتله كالخمسة { أي الفواسق الخمس التي ورد إباحة قتلها في الحل والحرم } أو النهي عن قتله كالهدهد والخطاف والنحلة والنملة والصرد - أو استخباث العرب إياه كالخنفساء والضفدع... لقوله تعالى: { { ويحرم عليهم الخبائث } } [الأعراف: 157] وهي مستخبثة عندهم، والقرآن نزل بلغتهم فكان استخباثهم طريق تحريم فإن استخبثه البعض اعتبر الأكثر
والعبرة باستطابة أهل السعة لا ذوي الفاقة اهـ. ونحوه قول النووي في المنهاج: وما لا نص فيه إن استطابه أهل يسار وطباع سليمة من العرب في حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا.... واشترط شراحه أن يكونوا حضرا لا بدوا.
ونقول: أما الأمر بالقتل والنهي عنه فقد علمت ما فيه. وأما استخباث العرب إياه فقد رده المخالفون له من الحنفية وكذا بعض الشافعية، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن ما ملخصه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر استخباث العرب في تحريم ذي الناب من السباع والمخلب من الطير بل كونها كذلك، وإن الخطاب بتحريم الخبائث لم يختص بالعرب، فاعتبار ما تستقذره لا دليل عليه. ثم إنه إن اعتبر استقذار جميع العرب فجميعهم لم يستقذروا الحيات والعقارب والأسد والذئب والفأر، بل الأعراب يستطيبون هذه الأشياء، وإن اعتبر بعضهم ففيه أمران (أحدهما) أن الخطاب لجميعهم فكيف يعتبر بعضهم. (وثانيهما) لم كان البعض المستقذر أولى من اعتبار البعض المستطيب؟
وقال الفخر الرازي في تقرير ما ذهب إليه من أن الحصر في الآية هو الحكم المستقر في الشريعة من أولها إلى آخرها ما نصه: ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ما استخبثه العرب فهو حرام"
وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه لما رآهم يأكلون الضب قال: يعافه طبعي.
ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب، وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا، وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بهذا الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم؟ اهـ.
أقول: إن الحديث الذي ذكره الرازي في تحريم ما استخبثته العرب لا أصل له فلم يبق لأصحاب هذا القول مستند إلا مفهوم الأمر بأكل الطيبات وإحلالها، وقوله تعالى في اليهود الذين يؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام. { { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } } [الأعراف: 157]
فأما الأول فهو مفهوم مخالفة منع الاحتجاج به الحنفية وبعض الشافعية مطلقا وبمفهوم الصفة منه كالطيبات هنا آخرون من المالكية والشافعية وبعض أئمة اللغة كالأخفش وابن فارس وابن جني، واشترط له المحتجون به شروطا لا تتحقق هنا، أقواها ألا يعارضه ما هو أقوى منه من منطوق أو مفهوم وقد عارضته هنا الآيات القطعية، على أن كل ما أباحه الشرع يجب أن يكون من الطيبات.
وأما الثاني فمعناه: يحل لهم الطيبات التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم على ظلمهم، ويحرم عليهم الخبائث فقط وهي ما كانوا يستحلونه من أكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره وما كان خبيثا من الطعام كلحم الخنزير كما تقدم لنا، وهذا هو المروي عن ابن عباس في تفسيرها. والخبيث يطلق على المحرم وعلى القبيح والرديء;
وبهذا فسر قوله تعالى: { { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } } [البقرة: 267] وكل محرم خبيث وما كل خبيث بمحرم; فقد صح في الحديث تسمية الثوم والبصل بالشجرتين الخبيثتين وأكلهما مباح بالنص والإجماع. وفي الأحاديث إطلاق كلمة خبيث على مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام، وهذا الأخير مكروه لا محرم.
فبهذه الشواهد من الكتاب والسنة يهدم هذا الأصل الاجتهادي من أصول التحريم الذي عرفوه بأنه حكم الله تعالى المقتضي للترك اقتضاء جازما، وإن لم يطبقوا هذا التعريف على كل ما ادعوا حرمته باجتهادهم، وإنما الاجتهاد بذل الجهد لتحصيل الظن بحكم شرعي عملي.
ومن الثابت من أخلاق البشر وطباعهم أن للبيئة التي يعيشون فيها تأثيرا في اجتهادهم وفهمهم فالذين حرموا على عباد الله ما لا يحصى من المنافع التي خلقها الله لهم وامتن بها عليهم في مثل قوله: { { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } } [البقرة: 29] كانوا عائشين في حضارة يتمتع أهلها بخيرات ملك الأكاسرة والقياصرة في مدائن كجنات النعيم كبغداد ومصر وغيرهما من الأمصار فكان من تأثيرها في أنفسهم أن جعلوا ما يستقذره مترفو العرب في حضارتهم محرما على البدو البائسين وعلى خلق الله أجمعين، ولولا تأثير هذه الحضارة لراعوا في اجتهادهم الأصول القطعية في يسر الشريعة وعمومها، ولا يعقل أن يكلف الله جميع الأمم التزام ذوق منعمي العرب في طعامهم - ولتذكروا أن هذا التشدد في التحريم يضيق على أكثر الناس وهم الفقراء والمعوزون أمر معيشتهم،
والتوسع في أصل الإباحة ينفعهم ولا يضر غيرهم من المترفين والموسرين كما راعى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير قال: سألت جابرا عن الضب فقال: لا تطعموه وقذره وقال: قال عمر بن الخطاب: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، إن الله ينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاء منه ولو كان عندي طعمته اهـ.
ثم لتذكروا مع هذا وذاك ما عظم الله من أمر التحريم، وقد كنا نأخذ كلام هؤلاء المشددين بالتسليم ونجده غنيا عن البحث فيه لموافقته لأذواقنا وعيشتنا. فقد نشأنا في بيت لا يكاد يأكل أهله من لحوم الأنعام إلا الضأن; ويعافون لحم البقر وما تعودنا أكله إلا في السفر، وإن للمجتهدين ثوابا حتى فيما أخطئوا فيه لحسن نيتهم في اجتهادهم، ولكن لا عذر للمقلدين في اتباع كل طائفة منهم لمذهب في كل ما يقوله علماؤه وترك النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك العمل بهما إذا دعوا إليهما والإعراض عمن يدعوهم إليه بل الطعن فيه وما كان أحد من الأئمة المجتهدين يجيز هذا التقليد. ويرضى أن يتخذ شريكا لله تعالى في التحليل والتحريم وسائر أنواع التشريع.
وليس فيما أطلنا به في تفسير الآية استطراد ولا خروج عن الموضوع، ولو تتبعنا كل ما قال الفقهاء بتحريمه منافيا لها وبينا بطلان أدلتهم عليه لم نكن خارجين عن حد تفسيرها ولكن ما تركنا ذكره أضعف مما ذكرناه دليلا كالنهي عن أكل الهر والخيل وكلاهما لا يصح رواية ويعارضه ما هو أصح منه.
وملخص ما تقدم أن آية الأنعام - التي فسرناها بما تقدم - هي أصل الشريعة المحكم فيما يحل ويحرم من الطعام كما فهمها حبر الأمة وإمام المفسرين الأعظم عبد الله بن عباس وغيره من علماء الصحابة والفخر الرازي من مفسري أهل النظر ومن وافقه كالنيسابوري وأن الله تعالى لو علم عند إنزالها - وهو علام الغيوب - أنه سينسخها أو يخصص عمومها لما أنزلها بصيغة الحصر ولما أكدها المرة بعد المرة قبل الهجرة وبعدها وأيدها بما تقدم من مؤكداتها ومؤيداتها وهي أنواع:
(الأول) الآية التي بعدها ثم آية النحل ثم آية البقرة. ثم أول المائدة على الوجه الذي بيناه فهذه أربع آيات في موضوع الطعام خاصة.
(الثاني) إحلال طعام أهل الكتاب، والنصارى منهم لا يكادون يحرمون شيئا من نوع الحيوان مما يدب على الأرض أو يطير في الهواء.
(الثالث) الآيات الدالة على إباحة منافع العالم عامة كقوله تعالى: { { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } } [البقرة: 29] وقوله: { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره } [الحج: 65] وفي معناه بعد ذكر تسخير البحر: { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره } [الجاثية: 13] وصرح في بعض الآيات بذكر الأكل في تسخير البحر فقال: { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } [النحل: 14] إلخ. { الرابع } ما يؤيد هذا الأصل فيما يحل ويحرم من الطعام، وهو ما ورد من التشديد في حظر تحريم أي شيء على عباد الله غير ما حرمه عليهم ربهم كالآيات السابقة لآية الأنعام كما بيناه في تفسيرها، وقوله تعالى بعد آية النحل في الحصر: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } [النحل: 116 } وقال بعدها بآية: { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } { 118 } فآيات النحل بمعنى آيات الأنعام في جملتها. وقوله تعالى: { ما قصصنا عليك من قبل } نص في نزول النحل بعد الأنعام كما قال أهل الأثر. ومن هذا النوع قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } [التوبة: 31 } قال صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " رواه الترمذي وحسنه الطبراني والبيهقي في سننه وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث عدي بن حاتم الطائي الشهير بالجود، وكان عدي قد تنصر في الجاهلية وفر بعد بلوغ الدعوة إلى الشام، فأسرت أخته ومن عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها، فلحقت به ورغبته في الإسلام فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة وهو صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية. قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم. ورووا مثله من حديث حذيفة، ومعنى رواية لم يكونوا يعبدونهم: أنهم لم يتخذوهم آلهة، فالإله هو المعبود ولكنهم اتخذوهم أربابا بمعنى شارعين، وهذه عبادة ربوبية لا ألوهية، فالشرع للرب وحده والرسل مبلغون عنه وهم معصومون في تبليغهم وفي بيانهم لما بلغوه، والعلماء ورثتهم في التبليغ ولكنهم غير معصومين، فلا يجوز لمؤمن بالله أن يتبع عالما في قوله هذا حرام إلا إذا جاءه ببينة عن الله تعالى ورسوله فعقلها واعتقد صحتها. قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى. { 8/148 } قال الفخر الرازي بعد ما نقل حديث عدي وهذا الأثر في تفسير الآية قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب. يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها! ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اهـ. وأقول: إن شيخهرحمه الله كان مجتهدا بحق، وأما هو فعلى توسعه في فن الاستدلال يؤيد المذهب تارة بالتأويل والجدل ويستقل بالاستدلال أخرى. وقد جاء بعد شيخه كثير من المجتهدين مثله ولكن كثرة المقلدين وتأييد الحكام لهم قد نصر باطلهم على حق أولئك الأئمة، ولولا الحكام الجاهلون والأوقاف التي وقفت على فقه المذاهب لم يتفرق المسلمون في دينهم شيعا، حتى صدق عليهم ما ورد في أهل الكتاب قبلهم إلا من هداه الله ووفقه لإيثار كتاب الله وسنة رسوله على كل شيء. ثم إن ذلك الأصل الذي قرر في آية الأنعام وأيدته جنود الله تعالى من تلك الأنواع من الآيات تؤيده السنة الصحيحة وحكمة التشريع الرجيحة - أما السنة فكحديث أبي الدرداء المرفوع عند البزار وقال: سنده صالح والحاكم وصححه " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا " وتلا { وما كان ربك نسيا } [مريم: 64 } وحديث أبي ثعلبة الخشني عند الدارقطني مرفوعا " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " حسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه والنووي في الأربعين. وفي معناهما أحاديث أخرى. وأما حكمة التشريع في دين عام يطالب جميع البشر في جميع الأقطار بالاهتداء به فهي مأخوذة مما ورد من يسر شريعته وعدم إعناتها للبشر، ومبنية على بلوغ هذا النوع في جملته درجة الرشد الذي يستقل به في شئون حياته المعاشية والمعادية فلا تقيده فيها إلا بما يزيد في الصلاح والتقوى وتزكية الأنفس وليس في تحريم ما حرموه من غير الأنواع الأربعة التي في الآية شيء من ذلك. ثم بين تعالى ما حرمه على بني إسرائيل ' " خاصة عقوبة لهم، لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم، فكان من الملحق بالمستثنى " في الآية بالعطف عليه، فإنه بعد نفي تحريم أي طعام على أي طاعم استثنى من هذا العام ما حرمه تحريما عاما مؤبدا على غير المضطر ثم ما حرمه تحريما عارضا على قوم معينين لسبب خاص إلى أن يجيء رسول آخر يبيحه لهم باتباعهم إياه وهو قوله عز وجل: { 8/149 } { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الذين هادوا هم اليهود من قولهم الآتي في سورة الأعراف: { إنا هدنا إليك } [الأعراف: 156 } أي رجعنا وتبنا، وأصل الهود الرجوع برفق قاله الراغب، أي وعلى الذين هادوا - دون غيرهم من أتباع الرسل - حرمنا فوق ما ذكر من الأنواع الأربعة كل ذي ظفر إلخ. وقولنا: " دون غيرهم " هو ما يدل عليه تقديم المعمول على عامله. والظفر من الأصابع معروف، ويكون للإنسان وغيره من طائر وغيره; ولذلك فسروا المخلب بظفر سباع الوحش والطير، فالظفر عام والمخلب خاص بما يصيد كالبرثن للسبع، ومنه قوله في الاستعارة: أنشبت المنية أظفارها في فلان - وفي اللسان عن الليث الظفر ظفر الأصبع وظفر الطائر، وفيه: وقالوا: الظفر لما لا يصيد والمخلب لما يصيد أي خاص بما يصيد من الطير ثم ذكر الآية وقال: " دخل في ذي الظفر ذوات المناسم من الإبل والنعام لأنها لها كالأظفار. وهذا توجيه لغوي لما روي عن ابن عباس من تفسير كل ذي ظفر بالبعير والنعامة. وظاهر أنه مجاز. وقال مجاهد: هو كل شيء لم تفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود. ومثله عن ابن جريج: وذكروا من ذلك الإبل والنعام والورنية والبط والوز وحمار الوحش. ونقل الرازي أن عبد الله بن مسلم قال: إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب، ثم قال: كذلك قال المفسرون، وقال: وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة. وتعقبه بأنه لا يجوز تسمية الحافر ظفرا، ولو أراد الله الحافر لذكره، وجزم بوجوب حمل الظفر على المخالب والبراثن. قال: وعلى هذا التقدير يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ويدخل فيه الطيور التي تصطاد; لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس. ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين: { الأول } أن قوله: وعلى الذين هادوا حرمنا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة { والثاني } أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله: { وعلى الذين هادوا حرمنا } فائدة - فثبت أن تحريم السباع وذي المخلب من الطير مختص باليهود فوجب ألا تكون محرمة على المسلمين. وعند هذا نقول: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور، ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى، فوجب ألا يكون مقبولا وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة اهـ. وأقول: " إن تضعيفه الحديث مع صحة روايته في الصحيحين وغيرهما إنما هو من { 8/150 } جهة المتن، وقد قالوا: إن من علامة وضع الحديث مخالفته للقرآن وكل ما هو قطعي، وهذا إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الحديث الظني والقرآن القطعي، وقد جمعنا بينهما بحمل النهي على الكراهة في حال الاختيار، وهو مذهب مالك كما تقدم تفصيله. وقد فسروا بهذه الآية قوله تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [النساء: 160 } وعلى هذا تكون ذوات الأنياب من السباع والمخالب من الطير طيبات بالنص. وقد بينا في تفسير هذه الآية من سورة النساء أن التحقيق فيها إبقاء قوله تعالى: { بظلم } وقوله { طيبات } على نكارتهما، وإبهامهما، وأن آية: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } [آل عمران: 93 } معناها: أن كل الطعام كان حلا لهم ولمن قبلهم من الرسل وأتباعهم كإبراهيم وذريته، إلا ما حرموا هم على أنفسهم بسبب الظلم الذي ارتكبوه وكان سببا لشديد أحكام التوراة عليهم - وأن ما يروى عن مفسري السلف في تفسير هذه الآية وأمثالها مأخوذ من الإسرائيليات التي كان اليهود يقصونها على المسلمين. وفيها الغث والسمين، وكان فيهم من يصدق في بيان ما في كتبهم ومن يمين والمحرمات عليهم في التوراة كثيرة مفصلة في سفر اللاويين، { الأحبار } ففي الفصل الحادي عشر منه بيان أن ما يحل لهم من الحيوان هو ذو الأظلاف المشقوقة الذي يجتر دون غيره كالجمل والوبر والأرنب فإنه نجس لعدم انشقاق ظلفه وإن كان يجتر والخنزير لأنه لا يجتر وإن كان مشقوق الظلف - ويدخل في المحرم جميع أنواع السباع كما هو ظاهر - ثم بيان ما يحل من حيوان الماء وهو ما له زعانف. ثم بيان ما يحرم عليهم من الطير وهي النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق على أجناسه وكل غراب على أجناسه والنعامة والظليم والسأف والبازي على أجناسه والبوم والغواص والكركي والبجع والقوق والرخم واللقلق والببغاء على أجناسه والهدهد والخفاش وكل هذه الأنواع ذوات أظافر وأكثرها مما تسمى أظافره مخالب. وهو ما يصيد ويأكل اللحوم. وكل ما حرم عليهم فهو نجس لهم كما صرح به مرارا. ومن المعلوم أن الآية ليست نصا في إحصاء كل ما هو محرم عليهم. ومجموع الآيات يدل على أن كل ما حرم عليهم من غير الأنواع الأربعة التي حرمت على المسلمين كافة فهو من الطيبات. وقد غفل عن الجمع بين الآيات ودلالة جملتها على ما ذكر الفقهاء الذين ينظرون في كل مسألة جزئية على حدتها. { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } قال ابن سيده: الشحم جوهر السمن - أي المادة الدهنية التي يكون بها الحيوان سمينا { 8/151 } وفي معاجم اللغة أن العرب تسمي سنام البعير وبياض البطن شحما، وشحم شحامة سمن وكثر شحمه فهو شحيم، ويغلب الشحم في عرفنا على المادة الدهنية البيضاء التي تكون على كرش الحيوان وكليتيه وأمعائه وفيها وفي سائر الجوف، ولا يطلق على الألية وما على ظاهر اللحم من المادة البيضاء، وهو تخصيص مولد لا ندري متى حدث. والحوايا جمع حاوية كزاوية وزوايا أو حوية كقضية وقضايا، وفسرت بالمباعر وبالمرابض وبالمصارين والأمعاء، والمرابض مجتمع الأمعاء في البطن. قال ابن جريج: إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شحم كان ليس في عظم. والثرب كفلس الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش والأمعاء. وقوله: { إلا ما حملت ظهورهما } قال ابن عباس: يعني ما علق بالظهر من الشحم. والحوايا: المباعر { أو ما اختلط بعظم } قال: الألية إذا اختلط شحم الألية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن. يقولون: قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم إنما حرم عليهم الثروب وشحم الكلية وكل شيء كان كذلك ليس في عظم. وقد يقال إن الآية أوجزت أبلغ الإيجاز في بيان ما حرم عليهم من الشحوم وما أحل لهم، فلم لم يكن من مقتضى الإيجاز أن يكون التعبير: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم إلا كذا وكذا منها؟ وما نكتة هذا التعبير الخاص فيها؟ نقول: قد بين ذلك صاحب الكشاف بجعله " كقولك: من زيد أخذت ماله - تريد بالإضافة زيادة الربط، والمعنى أنه حر‍م عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهي الثروب وشحوم الكلى " اهـ. وأقول: إن المعنى المتبادر الذي تظهر فيه النكتة هو: ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، وأما ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم فلم يحرم عليهم. فتقديم ذكر البقر والغنم لبيان الحصر، واختلف في الاستثناء هنا هل هو منقطع أو متصل من الشحوم، وبنوا عليه أحكاما فيمن يحلف لا يأكل شحما فأكل مما استثني، والصواب أن مبنى الإيمان على العرف لا على حقيقة مدلول اللغة وكل منهما معروف عند أهله، وسبب تخصيص البقر والغنم بالحكم هو أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، وكان يتخذ من شحمهما المذكور الوقود للرب كما هو مفصل في الفصل الثالث من سفر اللاويين، وقد صرح فيه بأنه الشحم الذي يغشى الأحشاء والكليتين والألية من عند العصعص { أو ما اختلط بعظم } وقال بعد التفصيل في قرابين السلامة من البقر والغنم بقسميه الضأن والمعز ما نصه: " 3: 16 كل الشحم للرب 17 فريضة في أجيالكم في جميع مساكنكم لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا من الدم " اهـ. { 8/152 } { ذلك جزيناهم ببغيهم } الإشارة إلى التحريم أو الجزاء المأخوذ من فعله، أي جزيناهم إياه بسبب بغيهم وظلمهم. قال قتادة في تفسير هذه الجملة: إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك وما هو بخبيث، وقد سبق تفصيل القول في ذلك في تفسير آية { كل الطعام } أول الجزء الرابع وتفسير: { فبظلم من الذين هادوا } [النساء: 160 } في أواخر سورة النساء من أوائل الجزء السادس [ص49 وما بعدها ج 6 ط الهيئة]. ولما كان هذا الخبر عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم، وكان مظنة تكذيب المشركين لعدم إيمانهم بالوحي وجزمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بأعلم منهم بشرع اليهود، ومظنة تكذيب اليهود إن تحريم الله تعالى ذلك عليهم عقوبة لهم ببغيهم وظلمهم المبين في آيات أخرى قال تعالى بعده: { وإنا لصادقون } فأكد حقيقة الخبر وصدق المخبر بـ " إن " والجملة الإسمية المعرفة الطرفين ولام القسم، أي صادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء والكذب محال علينا لاستحالة كل نقص على الخالق. { فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } أي فإن كذبوك كفار قومك أو اليهود في هذا وهو المروي عن مجاهد والسدي قيل: وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا. والصواب أنه خلاف الظاهر من جهة السياق. فإن الكلام في محاجة المشركين الجاهلين فهم المقصودون بالخطاب بالذات. إلا أنه يمكن أن يقوى بالجواب، وهو أن اليهود لما كان يثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم، للتشديد في تربيتهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم وتمردهم على رسولهم، ينتظر منهم أن يكذبوا الخبر من حيث تعليله بما ذكر، ويحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله; ولذلك أمر الله رسوله أن يجيبهم بما يدحض هذه الشبهة بإثباته لهم أن رحمة الله تعالى واسعة حقيقة ولكن سعتها لا تقتضي أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين. والبأس الشدة والمكروه، وإصابة الناس بالمكاره والشدائد عقابا على جرائم ارتكبوها قد يكون رحمة بهم، وقد يكون عبرة وموعظة لغيرهم، لينتهوا عن مثلها أو ليتربوا على ترك الترف والخنوثة فتقوى عزائمهم وتعلو هممهم فيربئوا بأنفسهم عن الجرائم والمنكرات، وهذا العقاب من سنن الله تعالى المطردة في الأقوام والأمم وإن لم يطرد في الأفراد لقصر أعمارهم وقد بينا ذلك في التفسير مرارا كثيرة. ولذلك قال: { عن القوم المجرمين } ولم يقل عن المجرمين. وذهب بعض المفسرين إلى أن تكذيب اليهود لهذا الخبر إنما هو بزعمهم أن يعقوب هو الذي حرم على نفسه الإبل أو عرق النسا كما قالوه في تفسير: { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } [آل عمران: 93 } وهو من الإسرائيليات التي كان بعض اليهود يغش بها المسلمين { 8/153 } عندما خالطوهم وعاشروهم كما بيناه في تفسير تلك الآية وجرينا عليه آنفا في تفسير آية التحريم هنا. ويمكن توجيه هذا الجواب في تكذيب مشركي مكة بأنه تهديد لهم إذا أصروا على كفرهم، وما يتبعه من الافتراء على الله بتحريم ما حرموا على أنفسهم، وإطماع لهم في رحمة الله الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم، وآمنوا بما جاء به رسولهم; إذ يكونون سعداء في الدنيا بحل الطيبات وسائر ما يتبع الإسلام من السعادة والسيادة، وسعداء في الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة مع الأبرار، جعلنا الله منهم بكمال الاتباع، والحمد لله على توفيقه وعلى كل حال.