التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ
٤٠
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ
٤١
وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
٤٢
فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ
٤٣
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ
٤٤
فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٥
-الأنعام

تفسير المنار

هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل، ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } [يونس: 22] وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان؛ لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى:
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين{ . قوله تعالى: { أرأيتكم } هو عند جمهور علماء العربية بمعنى (أخبروني) والتاء ضمير رفع، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير لا محل له، وتتغير حركته باختلاف المخاطب دون التاء؛ فتظل مفتوحة في المؤنث والمثنى والجمع، وقد أطالوا القول في المذاهب والآراء في إعرابه ومعناه في كتب اللغة وبعض كتب التفسير.
وأقول: إن هذه الصيغة (أرأيتكم) في خطاب الجمع بالكاف والميم لم تذكر إلا في هذه الآية وفي الآية الآتية بعد بضع آيات، وذكرت في خطاب المفرد بالكاف في قوله تعالى من " سورة الإسراء ":
{ أرأيتك هذا الذي كرمت علي } [الإسراء: 62] إلخ، وليس في هذه الآية استفهام في الجملة الشرطية، ولكن المفسرين قدروا فيها استفهاما محذوفا. قال البيضاوي كغيره: والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرمت علي بأمري بالسجود له، لم كرمته علي؟ وجعل قوله بعد ذلك: { لئن أخرتني إلى يوم القيامة } [الإسراء: 62] إلخ كلاما مبتدأ.
وقد استعمل " أرأيت " و " أرأيتم " - بدون كاف - مثل هذا الاستعمال في أكثر من عشرين آية أكثرها قد صرح فيه بعدها بالاستفهام، فمنه في جملة غير شرطية قوله تعالى:
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } [الفرقان: 43] وقوله: { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض } [الأحقاف: 4] ومثلها الآيات التي في " سورة الواقعة ". ومنه في الجمل الشرطية { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [الشعراء: 205-207] ومثلها الآيات التي في آخر " سورة العلق " والآيات التي في آخر " سورة الملك ".
فمن تأمل هذه الآيات كلها لا يظهر له فيها ما قالوه من أن معناها أخبرني وأخبروني إلا بما يأتي من التوجيه. قال القاضي البيضاوي في (أرأيتكم): استفهام وتعجيب. وقال الراغب في مفرداته بعد الإشارة إلى عدة آيات مصدرة بهذا اللفظ: كل ذلك فيه معنى التنبيه. وقد سدد كل منهما وقارب.
والذي أراه جامعا بين الأقوال أن (أرأيتكم) و (أرأيتم) استفهام عن الرأي أو عن الرؤية التي بمعنى العلم، وأن الاستفهام في هذا الاستعمال للتقرير وأن المراد منه التنبيه والتمهيد لما يذكر بعده من نبأ غريب أو عجيب، أو استفهام تقوم به في المسألة الحجة، وتدحض الشبهة، ولولا أن الاستفهام للتقرير لما كان لقول الجمهور أنه بمعنى طلب الإخبار وجه وجيه، والمفعول الأول ل " أرأيت " أو " أرأيتم " التي تتلوها الجملة الشرطية محذوف يفهم من مضمونها ويقدر بحسب المقام، وقد تسد الجملة الاستفهامية مسد المفعولين.
والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين: أرأيتم أنفسكم كيف تكون حالكم مع من تعبدون - أو أرأيتم ما تدعون من دون الله - أي أخبروني عن رأيكم أو عن مبلغ علمكم، في ذلك إن أتاكم عذاب الله الذي نزل بمن كان من أقوال الرسل قبلكم، كالريح الصرصر العاتية والصاعقة أو الرجفة القاضية، ومياه الطوفان المغرقة، وحرارة الظلة المحرقة، أو أتتكم الساعة بمقدمات أهوالها أو ما يلي البعث من خزينها ونكالها، أغير الله في هذه الحالة تدعون أم إلى غيره فيها تجأرون؟ إن كنتم صادقين في دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، أو إن كان من شأنكم الصدق فأخبروني أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين اللذين يحلو دونهما الأمرين؟
وذهب بعض المفسرين إلى كون متعلق الاستخبار محذوفا تقديرها: أخبروني إن أتاكم ما ذكر، من تدعون لكشفه، أتخصون غير الله بالدعاء، كما هو شأنكم وقت الرخاء؟ أم تخصونه وحده بالدعاء وتنسون ما اتخذتم من الشركاء إذ يضل عنكم من ترجون من الشفاء؟ ثم أجاب تعالى عنهم مخبرا إياهم عما تقتضيه فطرتهم فقال:
{ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } أي لا تدعون في تلك الحالة غيره - لا وحده ولا معه - بل تخصونه وحده بالدعاء، فيكشف أي يزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء؛ لأنه هو القادر عليه دون جميع العباد، وتنسون ما تشركون به الآن من الشفعاء والأنداد؛ لأن الفزع إليه سبحانه عند شدة الضيق واليأس من الأسباب مركوز في فطرة البشر، تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى طلب الغذاء عند الجوع مثلا، فلا يذهب به ما يتلقى بالتعليم الباطل من مسائل الدين غالبا إلا من تم فساد فطرته، وانتهت سفالة طينته، حتى كان كالأعجم، لا يفهم ولا يفهم، وإنما مثل تعاليم الشرك مع هذه الغريزة الفطرية كمثل ما كان عند المشركين من أحكام الطعام الباطلة مع غريزة التغذي، فإنهم كانوا يحرمون بعض الطيبات كالبحائر والسوائب ويبيحون بعض الخبائث كالميتة والدم المسفوح، فيجنون على غريزة التغذي بأكل هذا والحرمان من ذاك، ثم يأكلون كل شيء عند الاضطرار كذلك يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذون من الأنداد والأولياء والشفعاء الذين يتوجهون إليهم كما يتوجهون إلى الله ويحبونهم كحب الله، ذلك الحب الذي منشؤه التقديس واعتقاد القدرة على النفع ودفع الضر من غير طريق الأسباب، فإنهم عند الشدة ينسونها ويدعون الله وحده.
ولهذا الاعتقاد وما يستلزمه من الحب والتعظيم ثلاث درجات: أسفلها وأعرقها في الجهل أن يعتقد في شيء من المخلوقات أنه هو الإله الذي ينفع ويضر بذاته فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه حتى عند اشتداد البأس باكيا متضرعا ; لأن غريزة الإيمان بالسلطة الغيبية حصرت عنده في هذا المخلوق أو هذه المخلوقات كما تلقى عن قومه، وهو لا يفكر في كون ذلك معقولا أو غير معقول، ويلي هذه الدرجة أن يعتقد أن الإله نفسه قد حل في بعض المخلوقات واتحد بها كما تحل الروح في البدن وتدبره فيكونان بذلك شيئا واحدا، والفصل بين هذه الدرجة وما قبلها هو أن هذه مفرغة في قالب من النظريات الفلسفية، مزينة بحلي وحلل من التخيلات الشعرية، وتلك ساذجة غفل من الفلسفة الجدلية عطل من المزينات الخيالية، ويشتركان في أن منتحليهما يعبدون ذلك المخلوق المدرك بالحواس ويدعونه تضرعا وخفية حتى عند اشتداد الكرب والبأس،
ووراءهما الدرجة الثالثة التي هي أرقى درجات الشرك إذ هي أرقها وأضعفها، وهي أن يعتقد أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، المتصرف في كل شيء ولا يستطيع أحد من دونه شيئا، ولكن له وسطاء بينه وبين عباده يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، فهو لأجلهم يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويغفر ويرحم، ويوجد ويعدم، وهذه هي الدرجة التي ارتقت إليها وثنية مشركي قريش، فقد حكى الله تعالى عنهم في كتابه أنهم يقرون بأنه هو الخالق لكل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وأنهم يقولون فيما اتخذوه من دونه من الأولياء
{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر: 3] { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس:: 18] فلما كانوا يعتقدون أن لهم تأثيرا ووساطة في أفعال الله تعالى - كدفع الضر وجلب النفع - يدعونهم ويعظمونهم لأجلها، كان دعاؤهم وتعظيمهم إياهم عبادة، إذ لا معنى للعبادة إلا هذا، ولما كانوا عندهم غير مستقلين بذلك من دون الله، وكان الله تعالى - بزعمهم - غير فاعل ذلك بمحض إرادته الأزلية من دون شفاعتهم ووساطتهم - سموا شركاء لله.
وأما التوحيد الخالص فهو الإيمان الجازم بأن الله يفعل ما يشاء ويختار بمحض إرادته الأزلية المنزهة عن تأثير الحوادث فيها، وأن جميع الخلق مسخرون بإرادته وتدبيره، خاضعون لسننه وتقديره، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئا إلا في دائرة الأسباب التي جعلها بينهم شرعا، وأن الوساطة بين الله تعالى وعباده محصورة في تبليغ رسالته إليهم دون تصرفه فيهم، وأن شفاعة الآخرة لله وحده، يأذن لمن شاء إذا شاء بما شاء من الدعاء لمن يشاء ممن ارتضى.
ومن دلائل ذلك قوله تعالى لخاتم رسله:
{ ليس لك من الأمر شيء } [آل عمران: 128] { قل إن الأمر كله لله } [آل عمران: 154 } { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } [الأعراف: 188] { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [القصص: 56] { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته } [الجن: 21-23] { قل لله الشفاعة جميعا } [الزمر: 44] { ن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [البقرة: 255] { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } [الأنبياء: 28] إلخ..
ولما كانت تلك الوساطة الشركية وهمية لا أثر لها في الوجود، وإنما هي تقاليد موروثة كان أولئك الأذكياء جديرين بأن ينسوها إذا جد الجد وعظم الخطب كالحالتين اللتين ذكرهما الله تعالى في هذه الآية أو ما دونهما كالحالة التي بينها الله تعالى في قوله:
{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [العنكبوت: 65] وقوله: { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } [لقمان: 32] ومثلها في " سورة يونس " الآية 22 وقال تعالى في " سورة الإسراء ": { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } [الإسراء: 67] فسروا الضلال هنا بالنسيان فهو بمعنى الآية التي نفسرها، وأما ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة فقد ذكر في آيات كثيرة في سور متفرقة، ويراد ببعضها غيبتها عنهم بعدم وجودها معهم هنالك وحرمانهم مما كانوا يرجون من شفاعتها، لا غيبتها عن قلوبهم وخواطرهم كما هو المراد هنا،
وروي عن بعض المفسرين أن المراد بنسيانهم إياها جعلها بمنزلة المنسي بعدم دعائها، فقد ذكر الرازي في النسيان قولين، قال: (الأول) قال ابن عباس: المراد تتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع (الثاني) قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم، وهذا قول الحسن؛ لأنه قال: يعرضون عنه إعراض الناسي. اهـ. أقول: لم ينقل ابن جرير ولا ابن كثير في تفاسيرهما ولا السيوطي في الدر المنثور شيئا في الآية عن ابن عباس ولا الحسن ولا غيرهما من مفسري الصحابة والتابعين.
وقد استشكل المفسرون ما دلت عليه الآية من جواز كشف عذاب الاستئصال وعذاب الساعة عن المشركين بدعائهم لمخالفتهم لما عرف من سائر النصوص مع قوله تعالى:
{ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } [الرعد: 14] وأجيب بأن ما مضت به سنته تعالى في الأمم وما دلت عليه النصوص إنما يدل على عدم وقوع هذا الكشف لا على عدم جوازه، وقد علق كشف ذلك هنا بمشيئته تعالى، فهو يقول إنه يكشف ذلك إن شاء؛ لأن مشيئته نافذة حتى في كشف عذاب الاستئصال وأهوال الساعة، وهما النوعان اللذان لا تتعلق قدر المخلوقين الموهوبة لهم من الله تعالى بشيء من أمرهما ; لأنهما فوق الأسباب التي سخرها الله تعالى لخلقه، ولكنه تعالى لا يشاء ذلك؛ لأنه ينافي حكمته وتقديره الذي جرت به سننه في الأمم،
ويمكن أن يجاب أيضا بأن المراد بإتيان عذاب الله ظهور أماراته ومقدماته، وبالساعة القيامة الصغرى أي الموت بظهور علاماته ونزول سكراته، والإيمان يقبل قبل وصول عذاب الاستئصال إلى مستحقيه بالفعل وقبل بلوغ الروح الحلقوم من المحتضر، وقيل: إن بعض كروب الساعة تكشف حتى عن الكفار ككرب طول الوقوف بالشفاعة العظمى، ولكن هذا لا يصح جوابا؛ لأنه لا يكون بدعائهم.
ومن مباحث اختلاف الأداء في القراءة أن نافعا قرأ أرأيت وأرأيتم - بكاف وبغير كاف في جميع القرآن - بتسهيل الهمزة الثانية بأن جعلها بين الهمزة والألف، وقرأ الكسائي بحذفها والباقون بإثباتها، وهي لغات للعرب معروفة، ومن شواهد حذف الهمزة
{ سل بني إسرائيل } [البقرة: 211] أصلها: اسأل. ومنها في الشعر

إن لم أقاتل فالبسوني برقعا

أصله فألبسوني.
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } أقسم الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك وأشد منهم إصرارا على الظلم، فإن قومه يدعون الله تعالى وحده عند شدة الضيق وينسون ما اتخذوه من دونه من الأولياء والأنداد، وأما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، ولم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم.
الأخذ بالبأساء والضراء عبارة عن إنزالهما بهم، وأخذ الشيء يطلق على حوزه وتحصيله بالتناول والملك أو الاستيلاء والقهر، وقد يسند هذا إلى الأسباب غير الفاعلة المريدة كقوله تعالى:
{ أخذته العزة بالإثم } [البقرة: 206] - { فأخذهم الطوفان } [العنكبوت: 14] - { فأخذهم العذاب } [الشعراء: 158] - { فأخذتهم الصيحة } [الحجر: 73].. { الصاعقة } [النساء: 153].. { الرجفة } [الأعراف: 19]
والبأساء: اسم يطلق على الحرب والمشقة. والبأس: الشدة في الحرب، والخوف في الشدة، والعذاب الشديد، والقوة، والشجاعة،
والبؤس، والخضوع، والفقر كذا في لسان العرب
وقال الراغب: البؤس والبأس. والبأساء: الشدة والمكروه، إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية، وأورد الشواهد على ذلك، والضراء فعلاء من الضر - وهو ضد النفع وتطلق على السنة - أي الجدب - والأذى وسوء الحال حسيا كان أو معنويا كالسراء من السرور، وهي ضدها التي تقابلها كالنعماء، وأما الضر فيقابله النفع،
وفسر ابن جرير البأساء بشدة الفقر والضيق في المعيشة، والضراء بالأسقام والعلل العارضة في الأجسام، ونقل نحوه الرازي عن الحسن، وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن البأساء خوف السلطان وغلاء السعر،
والأقوال في الكلمتين متقاربة، والفرق بينهما - كما أفهم -
أن البأساء ما يقع في الخارج من الأمور الشديدة الوقع على من يمسه تأثير الحرب الحاضرة الآن، فإن وقعها أليم شديد على من أصيبوا بفقد أولادهم، أو تخريب بلادهم، أو ضيق معايشهم،
وأما الضراء فهي كل ما يؤلم النفس ألما شديدا سواء كان سببه نفسيا أو بدنيا أو خارجيا - فعلى هذا تكون البأساء من أسباب الضراء، وقالوا: إنهما جاءتا على وزن حمراء، ولم يرد في مذكرهما وزن أحمر صفة، بل ورد اسم تفضيل، والتضرع إظهار الضراعة بتكلف أو تكثر، وهي الضعف أو الذل والخضوع.
ومعنى الآية: نقسم أننا قد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم، فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء؛ ليكون ذلك معدا لهم للإيمان لما يترتب عليه - بحسب طباع البشر وأخلاقهم - من التضرع والجؤار بالدعاء لربهم، إذ مضت سنتنا بجعل الشدائد مربية للناس بما ترجع المغرورين عن غرورهم، وتكف الفجار عن فجورهم، فما أجدرها بإرجاع أهل الأوهام، عن دعاء أمثالهم من البشر وما دونهم من الأصنام، ولكن من الناس من يصل إلى غاية من الشرك والفسق لا يزيلها بأس، ولا يزلزلها بؤس، فلا تنفع معهم العبر ولا تؤثر فيهم الغير، وكان أولئك الأقوام منهم، ولذلك قال تعالى فيهم:
{ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } جعل ابن جرير " لولا " هنا للتحضيض بمعنى " هلا "، وجعلها الجمهور نافية، أي فهلا تضرعوا خاشعين لنا تائبين إلينا عندما جاءهم البئيس من عذابنا، فرأوا بوادره وحذروا أواخره، لنكشفه عنهم قبل أن يحيط بهم؟ أو فما خشعوا ولا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا { ولكن قست قلوبهم } فكانت أقسى من الحجر، إذ لم تؤثر فيها النذر { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } من الكفر والمعاصي بما يوسوس إليهم من تحسين الثبات على ما كان عليهم آباؤهم وأجدادهم، وتقبيح الطاعة والانقياد إلى رجل منهم لا مزية له عليهم.
وقد فصلنا القول من قبل في تزيين أعمال الناس إليهم وما ينسب منها إلى الشيطان لقبحه، وما ينسب إلى الله تعالى لأنه تعبير عن خلقه وتقديره وسننه في عباده، وما يحسن إسناده إلى المجهول، فيراجع في تفسير
{ زين للناس حب الشهوات } [آل عمران: 14] من جزء التفسير الثالث [راجع ص 196 وما بعدها ج 3 ط الهيئة].
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي: فلما أعرضوا عما أنذرهم ووعظهم به الرسل، وتركوا الاهتداء به حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به - لإصرارهم على كفرهم، وجمودهم على تقليد من قبلهم، بلوناهم بالحسنات بما فتحنا عليهم من أبواب كل شيء من أنواع سعة الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس والأموال، كما قال تعالى في قوم موسى:
{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } [الأعراف: 168] فلم يتربوا بالنعم، ولا شكروا المنعم، بل أفادتهم النعم فرحا وبطرا كما أفادتهم الشدائد قسوة وأشرا
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا } منها، وفسقوا عن أمر ربهم بطرا وغرورا بها { أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } أي: أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم أو حال كونهم مبغوتين إذ فجأهم على غرة من غير سبق أمارة ولا إمهال للاستعداد أو للهرب فإذا هم مبلسون، أي متحسرون يائسون من النجاة أو هالكون منقطعة حججهم، والإبلاس في اللغة: اليأس والقنوط من الخير والرحمة، والتحير: الدهشة، وانقطاع الحجة، والسكوت من الحزن أو الخوف والغم، واستشهدوا له بقول العجاج:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا... قال نعم أعرفه وأبلسا

ولقولهم: أبلست الناقة إذا لم ترغ من شدة الضبعة، وهي بالتحريك شدة شهوة الفحل، يقال: ضبعت الناقة ضبعا وضبعة (من باب فرح).
والآية تفيد أن البأساء والضراء، وما يقابلهما من السراء والنعماء مما يتربى ويتهذب به الموفقون من الناس، وإلا كانت النعم أشد وبالا عليهم من النقم وهذا ثابت بالاختبار، فلا خلاف في أن الشدائد مصلحة للفساد، وأجدر الناس بالاستفادة من الحوادث المؤمن،
كما ثبت في حديث صهيب مرفوعا في صحيح مسلم
"عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" وقد بينا وجه استفادة المؤمن من الشدائد في تفسير الآيات التي نزلت في شأن غزوة أحد من " سورة آل عمران "، وهاك بعض ما رووه في ذلك من الآثار، قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية:
" قال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له. ثم قرأ: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } الآية. قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. رواه ابن أبي حاتم. وقال قتادة. بغت القوم أمر الله، ما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه ابن أبي حاتم أيضا. وقال مالك عن الزهري { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } قال: رخاء الدنيا وسترها.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين بن سعد أبو الحجاج المهري، عن حرملة بن عمران التجيبي عن عقبة، عن مسلم، عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج" ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { فلما نسوا ما ذكروا به } الآية ورواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث حرملة وابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عراك بن خالد بن يزيد، حدثني أبي، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول:
"إذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون }" كما قال: { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } ورواه أحمد وغيره. اهـ.
وسيعاد هذا البحث في تفسير " سورة الأعراف 7: 94 " وما يليها من آيات وغيرها مما في معناها.
ومن مباحث اللفظ النحوية أن " إذا " من قوله: { فإذا هم مبلسون } هي التي يسمونها الفجائية لإفادتها ترتب ما بعدها على ما قبلها فجأة، وهي حرف عند الكوفيين، وظرف زمان أو مكان عند البصريين (قولان) منصوبة بخبر المبتدأ، فالمعنى عليه هنا أنهم أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها، على أن الفاء وحدها تفيد التعقيب، وهو ترتب ما بعدها على ما قبلها من غير فاصل، ولكن الفرق بين " فهم مبلسون " وبين " فإذا هم مبلسون " عظيم، لا يخفى على ذي ذوق سليم. فذاك خبر مجرد، وهذا تمثيل لمعنى مؤكد مجدد.
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك وأعماله، واستؤصلوا فلم يبق منهم أحد. كنى عن ذلك بقطع دابرهم، وهو آخر القوم الذي يكون في أدبارهم، وقيل: دابرهم أصلهم، وهو مروي عن السدي من المفسرين، والأصمعي من نقلة اللغة، والأول أظهر، والمعنى على القولين واحد، ووضع المظهر الموصوف بالموصول موضع المضمر؛ للإشعار بعلة الإهلاك وسببه وهو الظلم، ولا بد من زهوق الباطل فظهور الحق.
{ والحمد لله رب العالمين } أي: والثناء الحسن في ذلك الذي جرى من نصر الله تعالى لرسله بإظهار حججهم، وتصديق نذرهم، وإهلاك المشركين الظالمين، وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم - ثابت ومستحق لله رب العالمين المدبر لأمورهم، المقيم لأمر اجتماعهم بحكمته البالغة، وسننه العادلة.
فهذه الجملة بيان للحق الواقع من كون الحمد والثناء على ذلك مستحقا لله تعالى وحده، وإرشاد لعباده المؤمنين، يذكرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر الظالمين المفسدين، وحمده في عاقبة كل أمر، وخاتمة كل عمل كما قال في عباده المتقين:
{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [يونس: 10] وسواء كان ذلك الأمر الذي تم من السراء أو الضراء فإن للمتقين في كل منهما عبرة وفائدة، ونعمة ظاهرة أو باطنة.