التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ
٤٦
قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٤٧
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٤٨
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
٤٩
-الأنعام

تفسير المنار

إن القول في مناسبة هذه الآيات لما قبلها كالقول فيما قبلها سواء، فهي ضرب من ضروب الدعوة إلى التوحيد والرسالة بوجه آخر من وجوه الاحتجاج،، قال تعالى:
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به } أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت من التوحيد والهدى: أرأيتم ماذا يكون من شأنكم من آلهتكم الذين تدعونهم راجين شفاعتهم إن أصمكم الله تعالى فذهب بسمعكم، وأعمالكم فذهب بأبصاركم، وختم على قلوبكم وألبابكم التي هي مراكز الفهم والشعور والعقل من أنفسكم، فأصبحتم لا تسمعون قولا ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضرا،، ولا تدركون حقا ولا باطلا - من إله غير الله يأتيكم بذلك، أو بما ذكر مما أخذ الله منكم؟ أي: لا إله غيره يقدر على إتيانكم به. ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك، وإذا كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون، فلماذا تدعونهم والدعاء عبادة لا يكون إلا للإله القدير؟
{ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون } أي: انظر كيف ننوع الحجج والبينات الكثيرة ونجعلها على وجوه شتى ليتذكروا ويقتنعوا، فينيبوا ويرجعوا، ثم هم يعرضون عنها، ويتجنبون التأمل فيها، يقال: صدف عن الشيء صدفا وصدوفا إذا أعرض إعراضا شديدا، وقيل: إنه مأخوذ من صدفة الجبل أي جانبه ومنقطعه. والعطف ب " ثم " يفيد الاستبعاد ; لأن تصريف الآيات والدلائل سبب غاية الإقبال، فكان من المستبعد في المعتاد والمعقول أن يترتب عليه منتهى الإعراض، وقد سبق مثل هذا في أول السورة، ويليه في أوائلها الكلام في إعراضهم عن الآيات، وقد فصلنا القول في تفسيره تفصيلا.
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون } أي: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الظالمين: أرأيتكم أنتم أنفسكم كيف يكون شأنكم - أو أخبروني عن مصيركم - إن أتاكم عذاب الله الذي مضت سنته في الأولين، بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين، مباغتا ومفاجئا لكم - أو إتيان مباغتة - فأخذكم على غرة لم تتقدمه أمارة تشعركم بقرب نزوله بكم، أو أتاكم ظاهرا مجاهرا - أو إتيان جهرة - بحيث ترون مباديه ومقدماته بأبصاركم، هل يهلك به إلا القوم الظالمون منكم وهم المصرون على الشرك وأعماله عنادا وجحودا، إذ مضت سنته تعالى في مثل هذا العذاب أن ينجي منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين، فكأنه قال: لا يهلك به غيركم، وإنما تهلكون بظلمكم لأنفسكم وجنايتكم عليها.
وقد ظن بعض المفسرين أن هذا من العذاب الذي يكون عاما، يؤخذ فيه غير الظالم بجريرة الظالم، كالمصائب التي تحل بالأمم من جراء ظلمهم وفجورهم الذي يفضي إلى ضعفهم والاعتداء على استقلالهم، أو إلى تفشي الأمراض أو المجاعات فيهم، فتكلفوا في تفسير الآية تكلفا يصححون به ظنهم، فزعموا أن هلاك غير الظالم بهذا العذاب لا ينافي الحصر؛ لأنه يكون عذابا في الظاهر فقط. وأما في الباطن والحقيقة فهو سعادة لما يترتب عليه من الثواب والدرجات الرفيعة، ومن أشهر هؤلاء الظانين في الآية غير الحق: الرازي والطبرسي. ويدل على ما اخترناه ما ذكر من الجزاء على تكذيب الرسل في قوله تعالى:
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي: تلك سنتنا في إهلاك المكذبين للرسل: ما نرسل المرسلين إليهم إلا مبشرين من آمن وأصلح عملا بالجزاء الحسن اللائق بهم، ومنذرين من أصر على الشرك والإفساد في الأرض بالجزاء السيئ الذي يستحقونه { فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي: فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي أعده الله للكافرين، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله تعالى على شيء فاتهم ; لأن الله تعالى يقيهم من كل فزع:
{ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } [القيامة: 22-23] { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة } [عبس: 38-39]
ولك أن تقول: إن هؤلاء الكملة لا يحزنون في الدنيا أيضا مما يحزن منه الكفار والفساق كفوات شهوات الدنيا ولذاتها، أو لا يكون حزنهم كحزنهم في شدته وطول أمده، فإنهم إذا عرض لهم الحزن لسبب صريح كموت الولد، والقريب، والصديق، أو فقد المال، وقلة النصير - يكون حزنهم رحمة وعبرة، مقرونا بالصبر وحسن الأسوة، لا يضرهم في أنفسهم ولا أبدانهم، ولا يغير شيئا من عاداتهم وأعمالهم، فالإيمان بالله يعصمهم من إرهاق البأساء والضراء، ومن بطر السراء والنعماء، عملا بقوله عز وجل:
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } [الحديد: 22- 23].
{ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } أي: والذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب في الدنيا أحيانا، ولا سيما عند الجحود والعناد الذي يكون في المجموع دون بعض الأفراد، وفي الآخرة على سبيل الشمول والاطراد، وذلك بسبب فسقهم، أي كفرهم وإفسادهم، فهؤلاء قد ذكروا في مقابل الذين آمنوا وأصلحوا أنفسهم وأعمالهم ومعاملاتهم، فالتكذيب يقابل الإيمان، والفسق يقابل الإصلاح، وإن كان أعم منه في اللغة والاصطلاح، فهو يطلق على الكفر والخروج من الطاعة، وفسر ابن زيد الفسق بالكذب هنا وفي كل القرآن، وهو تفسير غير مسلم.
والمس: اللمس باليد وما يدرك به، ويطلق على ما يصيب المدرك مما يسوءه غالبا من ضر، وشر، وكبر، ونصب، ولغوب، وعذاب الضراء والبأساء، وهذا الاستعمال كثير في القرآن يعد بالعشرات، ويسند الفعل إلى سبب السوء والألم،
وقد أسند إلى ما يسر في مقابلة إسناده إلى ما يسوء في قوله تعالى:
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } [آل عمران: 120] وفي الآية السابعة عشرة من هذه السورة وقد تقدم، وفي قوله تعالى: { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين } [المعارج: 19-22] وذكر مس الضر في أواخر " سورة يونس " (10: 107) وقابله بإرادة الخير. وقد ورد المس بمعنى الوقاع في " سورة البقرة "، ولم يرد في القرآن بمعنى اللمس باليد إلا في قوله تعالى: { لا يمسه إلا المطهرون } [الواقعة: 79] أي القرآن، وفسر بعضهم المس بالاطلاع والمطهرين بالملائكة.