التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٧
وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ
٨
وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
٩
-الأنعام

تفسير المنار

بينا في تفسير الآيات السابقة أن الثلاث الأولى منها قد أرشدت إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث والآيات الدالة عليهما، وأن الثلاث التي بعدها أرشدت إلى سبب تكذيب قريش بذلك وهو الحق المبين بالدليل، وأنذرتهم عاقبة هذا التكذيب، وهو ما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم مغرورون به من قوتهم وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في أرض مكة وهي أم القرى وأهلها قدوة العرب. وقد بين تعالى في هذه الآيات الثلاث شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتم بها بيان أسباب جحودهم بأركان الإيمان كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقد روى ابن المنذر وابن حاتم عن محمد بن إسحاق ما قد يعد سببا لنزول الآية الثانية من هذه الثلاث قال: " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك }
ولا تصح هذه الرواية في سبب نزول الآية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور ولم يذكرها في (لباب النقول في أسباب النزول) واقتراح معاندي المشركين إنزال الملك مع الرسول ذكر في الفرقان وهود والإسراء، وقد روي أن هذه السور الثلاث نزلت قبل الأنعام، والأنعام نزلت جملة واحدة على ما تقدم بيانه في أول تفسيرها فما فيها من الرد عليهم في هذه المسألة إنما هو رد على شبهة سبقت لهم وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة فهو في الفرقان.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعجب من كفر قومه به وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه وظهور إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك وينال منه الحزن والأسف كما قال تعالى في سورة هود:
{ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } [هود: 12] وما في معناه
وكان الله عز وجل يبين له أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم واختلاف استعدادهم، ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة، والشبهة مهما تكن داحضة، فإن ذلك لا يستلزم الإيمان بما قدمت عليه الحجة، وانحسرت عنه غمة الشبهة، إلا في حق من كان مستعدا له، وزالت موانع الكبر والعناد أو التقليد عنه، فقوله تعالى: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } جاء بعد تلك الآيات البينات الواردة بأسلوب الحكاية وضمائر الغيبة مبينا هذا المعنى للرسول بأسلوب الالتفات إلى خطابه صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: قد علمت أن علة تكذيبهم بالحق إنما هي إعراضهم عن الآيات، وما أقفلوا على أنفسهم من باب النظر والاستدلال، لا خفاء الآيات في نفسها، ولا قوة الشبهات التي تحول حولها، ألم تر أن آيات التوحيد في الأنفس والآفاق هي أظهر الآيات وأكثرها،
ولم يمنعهم من الكفر بها مبالغة الكتاب المعجز في تقريرها، لو أننا نزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس كما اقترحوا فرأوه نازلا منها بأعينهم، ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم، لقال الذين كفروا منهم كفر العناد والاستكبار: ما هذا الذي رأينا ولمسنا إلا سحر بين في نفسه، ثابت في نوعه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه، وما ثم
كتاب نزل، ولا قرطاس رئي ولا لمس، وكذلك قال أمثالهم في آيات الأنبياء من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
الكتاب في الأصل مصدر كالكتابة، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف في مقصد واحد، والقرطاس بكسر القاف (وتفتح وتضم لغة) الورق الذي يكتب فيه، وقيل: هو مخصوص بالمكتوب منه وقوله تعالى: (في قرطاس) صفة له أو متعلق به،
واللمس كالمس. إدراك بظاهر البشرة. كما قال الراغب. وقال الجوهري: المس باليد، والصواب أن الأصل فيه المس بظاهر البشرة ولذلك يطلق بمعنى الوقاع كالملامسة، ولكن لما كان أكثر اللمس باليد وقلما يقع بالقدم، أو الساعد مثلا توهم أنه خاص بمس اليد، وتقييد اللمس في الآية بالأيدي بعين المراد منه بدفع احتمال التجوز به، إذ اللمس يستعمل مجازا بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، يقال: لمسه والتمسه وتلمسه، بهذا المعنى، ومنه
{ وأنا لمسنا السماء } [الجن: 8] ويستلزم لمسه بالأيدي رؤيته بالأبصار، قال قتادة: فعاينوه ومسوه بأيديهم، وقال مجاهد: فمسوه ونظروا إليه،
والرؤية واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع ولا سيما إذا اجتمعا، والثقة باللمس أقوى لأن البصر قد يخدع بالتخيل وقد قال تعالى في سورة الحجر:
{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } [الحجر: 14-15] ولكن مكابرة الحس بعد اجتماع أقوى إدراكيه وهما الرؤية واللمس وتقوية أحدهما الآخر قلما يقع إلا من جاحد معاند مستكبر، أو من مقلد أعمى لا تتوجه نفسه إلى معرفة شيء يخالف ما تقلده من آبائه وقومه. وقال ابن المنير: الظاهر أن فائدة زيادة لمسه بأيديهم تحقيق القراءة على قرب، أي فقرءوه وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا، انتهى والأول هو الظاهر المختار.
والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يرى ما لا حقيقة له في صورة الحقائق، ويقول بعض المتكلمين: إن السحر من خوارق العادات، وإن الفرق بينه وبين المعجزات إنما هو في اختلاف حال من تصدر الخوارق على أيديهم، لا في كون آيات الأنبياء حقا وكون السحر باطلا، والآية تبطل هذا القول ولا تقوم الحجة بها عليه، إذ يكون معنى دفع المشركين حينئذ: ما هذا الكتاب الذي نزل على الوجه الذي اقترحنا إلا خارقة من خوارق العادات لا ريب فيها. ولكنها صدرت على يد ساحر، فهي إذا من السحر، لا على يد من ادعى النبوة حتى تسمى آية أو معجزة، فيكون حاصله الطعن في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار ادعائه النبوة،
وهذا المعنى مخالف للواقع على كون عبارة الآية تتبرأ من احتمال دنوه منها أو دخوله عليها من أحد الأبواب الثلاثة (الحقيقة، والمجاز، والكناية) ولعله لم يخطر على بال أحد يفهم العربية، وإن كان من شيعة ذلك المذهب الكلامي الذي فسر السحر بما ذكر خلافا لظواهر الكتاب والسنة، فقد نص القرآن على أن السحر تخييل لما ليس واقعا، وأنه كيد ومكر، وأنه يتعلم تعلما، والخوارق لا تكون بالتعلم، وقال تعالى على لسان كليمه موسى:
{ ما جئتم به السحر إن الله سيبطله } [يونس: 81] وقال في آية أخرى: { ليحق الحق ويبطل الباطل } [الأنفال: 8] فتعين أن يكون السحر باطلا لا حقا.
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون } اقترح كفار مكة أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا مؤيدا له أمامهم، إذ يرونه ويسمعون كلامه، كما في سورة الفرقان [الفرقان: 7] وما هنا وهو حكاية لما هنالك، فلذلك لم يقل: " ملك فيكون نذيرا " اكتفاء بما سبق، بل اقترحوا أيضا أن ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم، بل طلبوا أكبر من ذلك، طلبوا أن يروا ربهم ويخاطب كل واحد منهم بما يريد من إرسال الرسول إليهم. كما في سورة الفرقان أيضا [الفرقان: 21] وقد قال الله في هؤلاء:
{ لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } [الفرقان: 21]
نعم إن هذا منتهى الكبرياء والعتو، لأنه تسام واستشراف من أضل البشر وأسفلهم روحا. إلى ما لم يصل إليه أعلاهم مقاما في هذه الحياة الدنيا، وأما اقتراحهم نزول الملك على الرسول فهو مبني على ضد ما بني عليه طلبهم لنزول الملائكة عليهم أو رؤية ربهم هو مبني على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسوا أهلا لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده; لأنهم بشر يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق هذه شبهة المتقدمين منهم والمتأخرين: قال تعالى في هود وقومه:
{ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون } [المؤمنون: 33-34 } وحكى تعالى مثل هذا عن غيرهم في هذه السورة (سورة المؤمنون) وفي غيرها.
ومثل هذا التناقض والتضاد في حكم البشر لأنفسهم وعليها معهود في كل زمان وكل مكان، فهم يرفعون أنفسهم تارة إلى ما هو أعلى من قدرها بما لا يحصى من الدرجات والمسافات البعيدة السحيقة، ويهبطون بها تارة إلى ما هو دون استعدادها بما لا يعد من الدركات العميقة، يتسامون تارة للبحث في عالم الغيب من الأزل الذي لا يعرفون أوله، إلى الأبد الذي لا يدركون نهايته، وللكلام في كنه الخالق، وفي كيفية صدور الوجود الممكن عن الوجوب الواجب. ويعترفون تارة بالعجز عن معرفة كنه أنفسهم والقصور عن الإحالة بأنواع الجنة التي تعيش في بنيتهم وتؤثر في جميع مواد معيشتهم من أطعمتهم وأشربتهم، يقولون تارة إن هذا الإنسان سيد الأكوان، ومصداق قول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان، ويقولون تارة إنه مظهر الظلم والخلل والفساد وإنما يعظم أحدهم نفسه أو جنسه في مرآة نفسه، ويحقر غيره أو نفسه متمثلة في مرآة جنسه.
ومن هذا الباب إنكار الكفار لبعثة الرسل، وكانوا تارة يكتفون بجعل البشرية علة للإنكار كما ترى في سورة هود وإبراهيم والإسراء والمؤمنين ويس والقمر والتغابن وتارة يصرحون بما في أنفسهم من الكبر واستثقالهم تفضيل الرسل على أنفسهم باتباعهم إياهم، وعلى هذا بنوا اقتراح نزول الملائكة عليهم مباشرة أو على الرسل مؤيدة لهم كقول قوم نوح:
{ ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة } [المؤمنون: 24].
جمع مشركو مكة بين الاقتراحين كما تقدم آنفا اقتراح نزول الملائكة عليهم، واقتراح نزول ملك على النبي يرونه بأعينهم ولولا قيد الرؤية لم يكن للاقتراح فائدة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخبرهم بأنه ينزل عليه الملك، وكأنهم ظنوا أن مساواتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية تقتضي مساواته في الاستعداد لرؤية الملائكة وتلقي العلم عنهم. وهذه أقوى شبهة للكفار على الوحي; فإنهم لغرورهم بأنفسهم ينكرون كل ما لا يصلون إليه بأنفسهم.
وقد رد الله تعالى عليهم الاقتراحين من وجهين: (أحدهما) أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا ينظرون، أي لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم، قال ابن عباس في تفسير الآية: ولو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون، وقال قتادة يقول لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب، ولكن قال مجاهد في قوله: (لقضي الأمر) أي لقامت الساعة وذكر المفسرون في تفسير قضاء الأمر هنا عدة وجوه:
(1) أن سنة الله في أقوام الرسل الذين قامت عليهم الحجة أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك، والاستئصال الذي تتولى تنفيذه الملائكة، والله تعالى لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة، فالرحمة العامة تنافي هذا العذاب العام
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107].
(2) أن المراد أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية كما يطلبون لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
(3) أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، وهذا على قاعدة المعتزلة، وعبارة الزمخشري في هذه المسألة من تعليلات قضاء الأمر، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة فيجب إهلاكهم انتهى وهذا التفريع غير مسلم.
(4) أنهم لما اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان إذ يتوقف على المعجز مطلقا وقد حصل، لا المعجز الخاص الذي طلبوه فإذا أعطوه كانوا على غاية الرسوخ في العناد المناسب للإهلاك وعدم النظرة. وأول هذه الأقوال أقواها وهو المختار، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في سورة الحجر:
{ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين } [الحجر: 8] أي ما كان شأننا الذي مضت به سنتنا أن ننزل الملائكة إلا بالأمر الحق، وهو الرسالة للرسل أو العذاب للأمم الذين يعاندون الرسل فيقترحون عليهم الآيات المخصوصة ويعلقون إيمانهم عليها، ثم يصرون على جحودهم وكفرهم بعد أن يعطوها، فلو نزلت الملائكة عليهم ما كانوا إذ تنزل إلا هالكين لا ينظرون، أي لا يمهلون لأجل أن يؤمنوا.
وما كان الله ليهلك هذه الأمة، ولا من أعهدهم للهداية من قوم نبي الرحمة، بإجابة اقتراحات أولئك المستكبرين المعاندين منهم، وهم إنما يقترحون الآيات لأجل التعجيز دون استبانة الإعجاز، وهو يعلم أنهم إن أعطوها ما كانوا بها مؤمنين، وبذلك مضت السنة في أمثالهم من الغابرين.
ومن نكت البلاغة ما بينه الزمخشري من حكمة العطف ب (ثم) وهي إفادة ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار من البعد: جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر; لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.
(الوجه الثاني) في الرد عليهم قوله تعالى: { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي لو جعل الرسول ملكا لجعل الملك متمثلا في صورة بشر، لتمكينهم من رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله تعالى، ولو جعله ملكا في صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا، وقد كانوا في غنى عن هذا، وإنما شأنهم فيه شأن أكثر الناس حتى العلماء منهم فيما يوقعون فيه أنفسهم من المشكلات بسوء اختيارهم، وما يخترعونه من الشبهات بسوء فهمهم، ثم يحارون في أمر المخرج منها.
مادة ل ب س تدل على الستر والتغطية: يقال: لبس الثوب يلبسه (بكسر الباء في الماضي وفتحها في المضارع) وهو من الستر الحسي. ويقال: لبس الحق بالباطل يلبسه (بفتح باء الأول وكسر باء الثاني) بمعنى ستره به، أي جعله مكانه ليظن أنه الحق، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه وهذا كله من الستر المعنوي.
وقد علل جمهور المفسرين جعل الملك بصورة البشر في هذه الحالة بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة في صورتهم الأصلية، وتقدم في تفسير الآية السابقة قول من علل بذلك قضاء الأمر بهلاكهم بمجرد نزول الملك، واستدلوا على ذلك بتمثل الملائكة لإبراهيم ولوط بصورة الناس، وتمثل جبريل لمريم بشرا سويا، وظهوره للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي غالبا، وبصورة غيره أحيانا كما في حديث الإيمان والإسلام وغيره،
وذكر بعضهم من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه في صورته الأصلية مرتين فقط. وقد نازع آخرون في عد هذا خصوصية له صلى الله عليه وسلم إذ لا يثبت ذلك إلا بنص، ولا نص في المسألة وإنما ورد من حديث ابن مسعود عند الإمام أحمد وحديث عائشة عند الترمذي " أنه لم يره في صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين " وقد ورد أن من الصحابة من رأى الملائكة في غير صورة البشر كرؤية أسيد بن حضير لهم في مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، كما رواه الشيخان عنه. ولكن هذا تمثيل أيضا.
والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة والجن في حالتهم التي خلقوا عليها، كما قال تعالى في الشيطان:
{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [الأعراف: 27] لا لأنهم لا يطيقونها لهولها، بل لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات، بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام كالماء وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دون ما هو ألطف منه كالهواء، وما هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء، والملائكة والجن من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر،
وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة وراء عالم المادة، وليس عند المسلمين عالم غير مادي، ولذلك يعدون الملائكة والجن من الأجسام اللطيفة، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام الكثيفة، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف وصورة المائع السيال وصورة الثلج والجليد، ولكن الماء يتشكل بما يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه، وذانك يتشكلان باختيارهما، إذ جعل الله لهما سلطانا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم وتركيبها مع غيرها من المواد،
فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه، ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمها، فإذا وقع ذلك كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات، والخوارق لا تثبت إلا بنص; لأنها خلاف الأصل، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل، إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة فيكون التشكل في هذا الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية، والتشكل في غيرها بالمادة والصورة معا، على أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما ليس لغيرها، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تجلوا فيه.
هذا وأن ما لا يرى قد يدرك بضرب من ضروب الإدراك غير الرؤية، فإذا كان الملك مخلوقا عالما، وكان في لطافته من قبيل الأرواح الموجودة في هذا الكون نوع من الاتصال يقتبس به أحدهما من الآخر شيئا من العلم كما يقتبس البشر بعض العلم البشري من الجو، إذ يبث الأخبار فيه بعضهم بالآلات الكهربائية (المعروفة بالتلغراف اللاسلكي أو الأثيري والهوائي) ويقتبسها آخرون؟ بل ثبت أن الأنفس البشرية يقتبس بعضها العلم من الموجودات بشرا كانت أو غير بشر بغير وساطة الحواس
والاستنباط العقلي كما روى بعض الأطباء الماديين الذين كانوا ينكرون مثل هذا عن مريض كان يعالجه في القاهرة أنه قال: إن فلانا وذكر قريبا له في الإسكندرية يريد أن يسافر الآن إلى مصر لأجل عيادتي، ثم إنه عين القطار الحديدي الذي ركب فيه ثم الوقت الذي وصل فيه إلى محطة مصر، ثم لم تكن إلا مسافة سير المركبة بين المحطة ودار المريض إلا وقد وصل هذا القريب، وكان ينتظره لاستبانة المكاشفة ذلك الطبيب، وروى عنه غير ذلك من المكاشفات، ومثل هذه يقع كثيرا في كل عصر، فلم لا يجوز أن يقتبسوها من أحياء البشر ومن غير البشر من الأشياء؟
نقول: إن هذا جائز عقلا مروي نقلا، ولكنه كغيره يتوقف على الفاعل والقابل، فإذا تدبرنا ما ورد في الكتاب والسنة من خبر الوحي والإلهام يظهر لنا منه أن الإنسان ليس له سلطان على ملائكة السماء، كسلطانه على ما في الأرض من أبناء جنسه وسائر الأشياء، فلا يستطيع كل فرد من أفراده أن يدرك هؤلاء الملائكة ويقتبس منهم العلم شاءوا أم أبوا، ولكن بعض الأرواح البشرية قد تصل بطهارتها وعلو مكانتها إلى قابلية التلقي من الملائكة، لما بينها وبينهم من القرب المناسبة، وهذه المقابلة نوعان:
(أحدهما) ما يختص به الله تعالى أنبياءه ورسله بدون سعي منهم ولا كسب، فيؤهلهم لنبوته ورسالته، وينزل عليهم الملائكة بالروح من أمره، فلا القابل الذي يتلقى عن الملك يكون له كسب أو اختيار فيما يوحى إليه، ولا الفاعل هو الملك الذي ينزل بالوحي يكون له اختيار فيما يوحيه، بل يفعل ما يأمره الله تعالى به ولا يستطيع أن يعصيه،
ولكمال استعداد الأنبياء وعلو أرواحهم يرون الملائكة في صورهم الأصلية قليلا، ويتمثل الملك لهم بصورة البشر أو يلابسهم ملابسة روحية فيلقي في أرواحهم ما شاء الله أن يلقيه وهو الأكثر، وهذا النوع قد ختم وتم ببعثه محمد خاتم النبيين، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وما هو من شئون البشر الكسبية، فيبقى ببقائهم.
(النوع الثاني) ما يمنحه الله تعالى من التثبيت في الحق والإلهام لمن دون الأنبياء من خيار خلقه الذين سلمت فطرتهم، وصفت سريرتهم، وزكت بالعمل الصالح أنفسهم، حتى غلبت فيها الصفات الملكية على النزعات الحيوانية والنزعات الشيطانية، فالأرواح البشرية العالية قد تقوي المناسبة بينهما وبين الملائكة فتستفيد من أرواح الملائكة قوة في الخير والحق وثباتا على الصلاح والإصلاح
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } [الأنفال: 12] وقد تستفيد منها علما بالحق وبشارة بالخير، وهو ما يسمى التحديث والإلهام، ومنه بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وتمثل جبريل لها عندما أراد الله أن تحمل بنفخه فيها، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن عمر بن الخطاب كان من المحدثين، وقد عبر عن ملك الإلهام بأنه "واعظ الله في قلب كل مؤمن" وفي حديث النواس بن سمعان عند أحمد والترمذي، ويوضحه حديث ابن مسعود "أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان" رواه الترمذي والنسائي وابن حبان، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة.
وقد أطال الإمام الغزالي في إيضاح هذا المطلب في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء وتقدم في تفسير سورة البقرة من الجزء الأول بحث فيه، والماديون المحجوبون ينكرون مثل هذا " ومن جهل شيئا عاداه " ولو قيل لمن كان على شاكلتهم قبل كشفهم عن نسمة هذه الجنة (الميكروبات) إن في العالم أنواعا كثيرة من المخلوقات الخفية التي لا يمكن أن يراها أحد بعينه هي سبب الأدواء والأمراض التي لا تحصى، وهي سبب التغيرات والاختمارات التي نراها في المائعات والفواكه وغيرها لقالوا: إنما هذه خرافة من الخرافات، وقد كان غير المسلمون يعدون من هذا القبيل حديث أبي موسى
"الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة" رواه الحاكم وصححه، ثم صاروا بعد اكتشاف باشلس الطاعون يتعجبون منه بصدق كلمة " الجن " على ميكروب الطاعون كغيره، وقد ورد أن الجن أنواع منها ما هو من الحشرات وخشاش الأرض.
وقد بين الأستاذ الإمام النوع الأول في رسالة التوحيد أكمل بيان، بأوضح برهان، واختصر في بيان النوع الثاني فقال:
" أما أرباب النفوس والعقول السامية من العرفاء، ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء، وعلى شرعهم ودعوته أمناء: فكثير منهم نال حظه من الأنس، بما يقارب تلك الحال في النوع أو الجنس، لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب، ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لا تنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع، فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به من الأنبياء صلوات الله عليهم، ومن ذاق عرف، ومن حرم انحرف، ودليل صحة ما يتحدثون به وعنه: ظهور الأثر الصالح منهم، وسلامة أعمالهم مما يخالف شرائع أنبيائهم، وطهارة فطرهم مما ينكره العقل الصحيح، أو يمجه الذوق السليم، واندفاعهم بباعث من الحق الناطق في سرائرهم المتلألئ في بصائرهم، إلى دعوة من يحف بهم في خير العامة، وترويح قلوب الخاصة، ولا يخلو العالم من متشبهين بهم، ولكن ما أسرع ما ينكشف حالهم، ويسوء مآلهم، ومآل من غرروا به، ولا يكون لهم إلا سوء الأثر في تضليل العقول وفساد الأخلاق وانحطاط شأن القوم الذين رزئوا بهم، إلا أن يتداركهم الله بلطفه، فتكون كلمتهم الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلم يبق بين المنكرين لأحوال الأنبياء ومشاهدهم وبين الإقرار بإمكان ما أنبئوا به بل بوقوعه إلا حجاب من العادة، وكثيرا ما حجب العقول حتى عن إدراك أمور معتادة ".