التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩٢
-الأنعام

تفسير المنار

ختم الله سبحانه سياق قصة إبراهيم مع قومه بذكر هداية بعض الرسل من أهل بيته وذريته، تمهيدا بذلك إلى بيان كون رسالة خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جنس رسالتهم، وكون هدايته متممة ومكملة لهدايتهم، ومن ذلك أنه لا يسأل على تبليغ هذا القرآن أجرا، لا يرجو من غير الله عليه فائدة ولا نفعا، وقفى على ذلك بالرد على منكري الوحي، وبيان أنهم ما قدروا الله حق القدر، وتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، وإقامة الحجة الواضحة المحجة، قال:
{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من }، قدر الشيء - بسكون الدال وفتحها - ومقداره: مقياسه الذي يعرف به ومبلغه، يقال قدره يقدره وقدره إذا قاسه، وقادرت الرجل مقادرة قايسته وفعلته مثل فعله، والقدر والقدرة والمقدار القوة. ومنه القدر بمعنى الغنى واليسار - وكذا الشرف - لأن كله قوة كما قال صاحب اللسان، وكل ما تقدم مختصر منه. (قال) وقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } أي ما عظموه حق تعظيمه.
وقال الليث: ما وصفوه حق صفته، والقدر والقدر هنا بمعنى واحد انتهى. وعزى الأول إلى ابن عباس وروي عنه أيضا أن القدر هنا بمعنى القدرة، واحد انتهى. قال: إن الآية نزلت في الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره.
وعن الأخفش أن المعنى ما عرفوه حق معرفته. وعن أبي العالية: ما وصفوه حق صفته. وتفسيره بالمعرفة أقوى، لأنه بالمعنى الاشتقاقي ألصق، وتعلق الظرف " إذ قالوا " بفعله أو معنى نفيه أظهر، سواء تضمن معنى العلة أم لم يتضمن، والعبارة محتملة الأمرين،
فمنكرو الوحي الذين يكفرون برسل الله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بهذا النوع من قدرته، وهو إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به أمر الناس من الهدى والشرع على من شاء من البشر بواسطة الملائكة، أو بتكليمه إياهم بدون واسطة، أو قدرته على ما يتبع الرسالة من تأييد الرسل بالآيات،
وبهذا الاعتبار يكون تفسير القدر بالقدرة أظهر، ومن يجيز استعمال المشترك في كل معانيه والجمع بين حقيقته ومجازه مع أمن اللبس يجيز إرادة كل ما ذكر من معاني القدر هنا. على أن المعنى المختار يتضمن سائر هذه المعاني، فمن عرف الله حق معرفته وصفه حق وصفه وآمن بقدرته على كل شيء وعظمه حق تعظيمه.
نطقت الآية بأن منكري الوحي ما عرفوا الله تعالى حق معرفته، ولا وصفوه بما يجب وصفه به، ولا عرفوا كنه فضله على البشر، إذ قالوا إنه ما أنزل شيئا على أحد منهم، فهي دليل على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من شئونه سبحانه ومتعلق صفاته في النوع البشري،
فإنها من مقتضى الحكمة، وأجل آثار الرحمة. فمن عرفه تعالى بصفات الكمال، التي هي متعلق أحاسن الأفعال، ومصدر النظام التام، في عالم الأرواح والأجسام، كالحكمة البالغة، والرحمة السابغة، والعلم المحيط، والقيام بالقسط، ونظر في الآيات البينات في أنفس البشر والآفاق، فعلم منها أنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء صنعه، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، مستعدا للعروج إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله الذي ترقيه إليه مواهب روحه الملكية، ونقصه الذي تدسيه فيه مطالب جسده الحيوانية، أثرا لعلومه وأعماله الكسبية، التي عليها مدار حياتيه الدنيوية والأخروية.
ثم علم من تدبر أحواله في حياته الحاضرة، ومن درس طباعه وتاريخ أجياله الغابرة، أن لم يكد يوجد فرد من أفراده أحاط علما بمصالح شخصه، فلم يجن على جسده ولا على نفسه، ولم يوجد جيل من أجياله، ولا شعب من شعوبه، ارتقت به علومه الكسبية، وقوانينه الوضعية، إلى نيل السعادة المنزلية والقومية، والكمال الذي يؤهله للسعادة الأبدية، إلا من اهتدى بهداية المرسلين، وهم في كل ملة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين -
من عرف الله بما ذكرنا من الصفات، وعرف البشر بما أجملنا من الأحوال والمميزات، علم علم اليقين أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من آثار تلك الصفات التي هي مصادر النظام ومظاهر الكمال، قد توقف عليه إكمال استعداد البشر للعروج الذي أشرنا إليه، وتوقي الهبوط الذي ذكرنا به، فكان إرشاد الوحي سببا لكل ارتقاء إنساني، في ركني وجوده الجسماني والروحاني،
وقد فتن في هذا العصر خلق كثير بترقي النظام الاجتماعي، وسعة التمتع الشهواني في شعوب كانت قد استفادت كثيرا من هداية الوحي، ثم نسيت ذلك الأصل الذي هو مصدر كل الخير، فعتت عن أمر ربها ورسله فمنهم من كفر بهم وحدهم ومنهم من كفر بهم وبه، وادعوا أنهم قد استغنوا بعقولهم عن تلك الهداية، بل وصموها بما وسموها به من سمات الغواية،
حتى إذا ما برح الخفاء، وفضح الرياء، وانكشف الغطاء، ظهر أن تلك المدنية، هي أفظع الوحشية والهمجية، فأيهم أوسع فيها علوما وفنونا وأدق نظاما وقانونا، هم أشد فتكا بالإنسان وتخريبا للعمران، وأن غاية هذا الترقي استعباد الأقوياء للضعفاء بتسخيرهم لخدمتهم واستخراج خيرات الأرض لهم، استمتاعا بالشهوات الحيوانية السفلى، وإسرافا في زينة هذه الحياة الدنيا.
وقد بين شيخنا الأستاذ الإمام في (رسالة التوحيد) وجه حاجة البشر إلى الرسل من طريقين أو مسلكين:
(المسلك الأول) مبني على عقيدة بقاء النفس واستعداد البشر لحياة أبدية في عالم غيبي، وحاجتهم إلى إرشاد إلهي يعلمون به ما يجب عليهم من العلم والعمل للسعادة في تلك الحياة، وكون إيتاء الله تعالى إياهم ذلك من آثار إحسانه كل شيء خلقه، وإتقانه كل شيء صنعه إذ اختص بعض أفراد هذا النوع بفطرة عالية، وأعد أرواحهم للإشراف على عالم الغيب وتلقي علم الهداية عن رب العالمين بواسطة الروح الأمين من الملائكة أو بغير واسطة;
وبذلك كانوا نهاية الشاهد، وبداية الغائب، في هذا النوع الذي جعل الله من التفاوت بين أفراده في العلم والعمل ما لا يعهد مثله ولا ما يقاربه في نوع آخر من أنواع الأحياء، حتى إن الواحد منهم لينهض بأمة أو أمم فيرفع شأنها، وألوف الألوف يكونون كالأنعام يسخرهم لخدمته رجل واحد أو آحاد منهم أو من غيرهم.
(المسلك الثاني) مبني على ما علم من فطرة الإنسان من كونه خلق ليعيش مجتمعا متعاونا، يقوم أفراد متفرقون وجماعات متعاونون بكل نوع من أنواع الأعمال التي يحتاج إليها في حفظ حياتيه الشخصية والنوعية، ويظهر به استعداده لتسخير جميع ما في عالمه لمنافعه، وكونه يعمل أعماله بحسب علمه وشعوره وتخيله، وكون أفراده يختلفون في ذلك اختلافا يقتضي التنازع والشقاق، الذي يفضي إلى التخاذل والتقاتل إذا لم يتداركه الله بهداية تزيل الخلاف وتوحد الآراء والأهواء،
وهذه الهداية هي هداية الوحي الذي بعث الله به الرسل، وإنما تزيل الخلاف لأن الله أودع في فطرة الإنسان فوق كل ما ذكر غريزة هي أقوى غرائزه وأعلاها، وهي غريزة الشعور بوجود قوة غيبية هي فوق قوته وقوى جميع عالم الشهادة الذي يعيش فيه والخضوع لكل ما يأتيه من جانب ذلك السلطان الأعلى، فأرسل الله الرسل بالآيات الدالة على تأييدهم من قبل تلك القوة العالية، والسلطة الغالبة، وكونهم يتكلمون عن قيوم السماوات والأرض بما جاءوا به من الكتاب ليحكم بين الناس بالقسط.
فزال من بين المؤمنين لهم كل خلاف، وتمهد لهم طريق السير إلى الكمال، فكان العاملون بالكتاب من كل أمة خيارها وعدولها. ولولا البغي الذي حمل آخرين على الخلاف في الكتاب المزيل للخلاف، لبلغت به منتهى ما هي مستعدة له من السعادة والكمال.

من غص داوى بشرب الماء غصته... فكيف يفعل من قد غص بالماء؟.

ومن شاء أن يقف على هذا البحث بالتفصيل، ورد ما يرد من الاعتراض عليه بالدليل، فليقرأه بالإمعان والتدبر في رسالة التوحيد، وليراجع في الجزء الثاني من هذا التفسير، ما نقلناه عن الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [البقرة: 213] وقد بذ الأستاذ - أثابه الله تعالى - في هذه المسألة جميع العلماء والحكماء الذين كتبوا في بيان حكمة بعثة الأنبياء، ولولا أن طال هذا الجزء وتجاوز كل تقدير لنقلنا عبارة رسالة التوحيد برمتها هنا، ولعلنا نجد لها مناسبة في جزء آخر وإن كانت أضعف من مناسبة هذه الآية التي يصح أن يكون ذلك البحث تفسيرا لها.
{ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } هذا رد على منكري الوحي والرسالة لقنه الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إثر بيان كون ذلك من شئونه تعالى ومقتضى صفاته في تدبير أمر البشر كما تقدم آنفا.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " تجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون " بالمثناة التحتية على أنها إخبار عن الذين أوتوا الكتاب،
وقرأها الآخرون " تجعلونه " إلخ بالمثناة الفوقية على الخطاب. وبذلك اختلف المفسرون في الآية وعدها بعضهم من مشكلات القرآن،
وقد تقدم في الكلام على نزول السورة في أول تفسيرها أن بعضهم عد هذه الآية مما استثني من نزول هذه السورة كلها دفعة واحدة بمكة، وزعموا أنها نزلت في شأن بعض اليهود في المدينة، وأن ظاهر معنى الآية يدل على ذلك لأن هذا الاحتجاج إنما يقوم على اليهود دون مشركي العرب الذين خوطبوا بسائر السورة،
وقد ورد في أسباب نزولها عن ابن عباس أنه قال: قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا. وعن السدي قال: قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمد من شيء - وعن محمد بن كعب القرظي قال: أمر الله محمدا أن يسأل أهل الكتاب عن أمره وكيف يجدونه في كتبهم فحملهم حسدهم على أن يكفروا بكتاب الله ورسله. فقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء - فأنزل الله { وما قدروا الله حق قدره } الآية.
وروي عن قتادة وكذا عن مجاهد أن الآية نزلت في اليهود ولم يذكرا اسما ولا قصة، وعن عكرمة وسعيد بن جبير أنها نزلت في مالك بن الصيف اليهودي قال الكلمة في قصة سيأتي ذكرها. وفي رواية عن مجاهد أنها في العرب ورجحه ابن جرير، فإنه بعد ذكر الخلاف صوب قول من قال إن الآية في مشركي قريش بأن الكلام في سياق الخبر عنه ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة، وبأنه لم يصح من الرواية عن نزولها فيهم خبر متصل الإسناد، وبأن المعروف من دين اليهود أنهم لا ينكرون الوحي بل يقرون بنزوله على إبراهيم وموسى وداود.
(قال): فلا يجوز لنا أن نصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل. وذكر أنه يظن أن من قال إنها نزلت في اليهود تأولوا بذلك قراءة الأفعال فيها بالخطاب " تجعلونه قراطيس " إلخ وقال إن الأصوب قراءة " يجعلونه " إلخ. على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب، ورجح أن هذا مراد مجاهد. ولكنه لم يبين وجه الاحتجاج على المشركين بما أنزل على موسى وهم لا يؤمنون به، ولا وجه تخريج قراءة الخطاب التي قرأ بها أكثر القراء بل اكتفى بترجيح القراءة الأخرى، فكل من القراءتين مشكل من وجه، وقد أجاب بعضهم عن الإشكال الأول مما يرد عليه بأن مشركي قريش كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسى عليه السلام وسيأتي الدليل على ذلك.
وأما جمهور المفسرين الذين قالوا إن الآية نزلت في اليهود، فيجيبون عن إشكال ابن جرير الأول - وهو نزول السورة في مكة وكون السياق قبلها وبعدها في محاجة مشركي قريش - بأن هذه الآية مستثناة من ذلك كما تقدم، فإنها نزلت في المدنية، وأدخلت في هذا الموضع لتكون مقدمة للكلام في بحث الرسالة بعد بحث التوحيد، وفيه - كما قال: إنه ليس في سابق الكلام ذكر لليهود ليعود الضمير إليهم بغير تكلف، وأجابوا عن إشكاله الثاني وهو كون اليهود يقرون بالوحي ولا ينكرونه من وجوه:
(أحدها) أن هذا إنكار مطلق أريد به المقيد، وقد بنى الرازي هذا الجواب على قصة مالك بن الصيف التي رويت في المأثور عن سعيد بن جبير - وعزاها الرازي إلى ابن عباس - وهي أنه كان سمينا وهو من أحبارهم فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - واستحلفه " هل يجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ " فقال الكلمة. قال الرازي ومراده ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين.
(ثانيها) أنه قال ذلك في حالة الغضب مبالغة، وذكروا أن اليهود سألوه عن قوله هذا فاعتذر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغضبه فقال ذلك، أي في حالة الغضب المدهش للعقل أو على سبيل طغيان اللسان.
(ثالثها) أنه يجوز أن يكون المراد ما أنزل الله على بشر كتابا من السماء، أي سفرا مخطوطا - كما روي عن ابن عباس - وهو من تحريفهم، فإنهم يعلمون أن الوحي الذي ينزله الله ليكتب يسمى كتابا قبل كتابته تجوزا وبعدها حقيقة.
(رابعها) أن مرادهم ما أنزل الله عليك من شيء - كما روي عن السدي - فذكر العام وأورد الخاص. وأما قراءة " يجعلونه قراطيس " إلخ. فلا تشكل على هذا الوجه من التفسير فيحتاج إلى الجواب عنها كما تشكل قراءة " تجعلونه " على الوجه الآخر.
هذا ما اطلعنا عليه في توجيه القراءتين وفيه من التكلف ما لا يخفى. وقد تقدم في تفسير سياق مثل هذا من هذه السورة أوله
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } [الأنعام: 20] أن قريشا أرسلوا إلى المدينة من يسأل اليهود عن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنكروا معرفته، وسيأتي في تفسير سورة الكهف أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة - وفي رواية أنهم أرسلوا وفدا منهم هذان الزعيمان للكفر - فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا إلخ.
فهذه الرواية تدل على أن كون التوراة كتابا من عند الله لليهود خاصة كان معروفا عند مشركي قريش، وأنهم لهذا أرسلوا وفدا. إلى أحبار اليهود فسألوهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يكون الاحتجاج عليهم بالتوراة في هذه السورة التي أنزلت في محاجتهم في جميع أصول الدين احتجاجا وجيها ولا يصح ما قاله الرازي من أن المشركين بلغتهم معجزات موسى الدالة على نبوته وكتابه بالتواتر وأنهم كذبوا الرسول بسبب طلب مثلها.
والذي يتجه على قولنا أن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة - كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لخطاب الله للبشر باعترافهم بكتاب موسى، وإرسالهم الوفد إلى أحبار اليهود واعترافهم بأنهم أهل الكتاب الأول العالمين بأخبار الأنبياء،
فهو تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (قل) لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره من قومك إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء - كقولهم
{ أبعث الله بشرا رسولا } [الإسراء: 94]: { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا } انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثه بنو إسرائيل عن المصريين (وهدى للناس) أي الذين أنزل عليهم أخرجوا من الضلال بما فيه من الأحكام والشرائع التي أنشأتهم خلقا جديدا، فكانوا معتصمين بالحق مقيمين للعدل إلى أن اختلفوا فيه، ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء { يجعلونه قراطيس يبدونها } عند الحاجة: إذا استفتي الحبر من أحبارهم في مسألة له هوى في إظهار حكم الله فيها كتب ذلك الحكم في قرطاس - وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرها - فأظهره للمستفتي ولخصومه " ويخفون كثيرا " من أحكام الكتاب وأخباره إذا كان لهم هوى في إخفائها ; وذلك أن الكتاب كان بأيديهم ولم يكن في أيدي العامة من نسخه شيء.
وهذا الإخفاء للنصوص في الوقائع غير ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب القدس وإجلائهم إلى العراق المشار إليه بقوله تعالى:
{ ونسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 13] خلافا لما توهمه الرازي وغيره.
والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم بالمدينة، وأخفوا ما هو أعظم من ذلك وهو البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكتمان صفاته عن العامة وتحريفها إلى معان أخرى للخاصة، وإلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم (إن صحت الروايات في ذلك) فلما كان ذلك كله، كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل في المدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لهم فيقول: { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } مع عدم نسخ القراءة الأولى، وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما.
وأما قوله تعالى: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } فقال قتادة: اليهود آتاهم الله تعالى علما فلم يهتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعملوا به فذمهم الله في عملهم ذلك. وقال مجاهد هذه للعرب، وفي رواية عنه للمسلمين ومؤداهما واحد. فإن ما علمه العرب من علوم القرآن وحكمه وهدايته قد أدوه إلى سائر المسلمين من غيرهم فكانت فائدته عامة.
وفي الجملة امتنان منه سبحانه على الرسول وقومه وسائر المؤمنين بإيتائهم هذا الكتاب الحكيم المبين،
والمعنى عندنا على تقدير جعل الخطاب لليهود: وعلمتم بما أنزل على خاتم النبيين ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم الذين كانوا أعلم وأهدى منكم، فمن ذلك ما أفاده قوله تعالى:
{ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } [النمل: 76] وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى،
ومنه ما انفرد به الإسلام - وهو ما أكمل الله تعالى به دينه - من بسط أصول العقائد موضحة بالأمثلة مؤيدة بالدلائل، ومن إتمام مكارم الأخلاق وعقائل الفضائل والآداب بجعلها وسطا بين ما كانوا عليه هم والنصارى من التفريط والإفراط، ومن جعل أحكام العبادات والمعاملات مصلحة لأنفس الأفراد وموافقة لمصالح الجماعات، ومن جعل الحكومة شورى بين أهل الحل والعقد، والشريعة مساوية بين الأجناس والملل والأفراد في ميزان العدل، لا يميز فيها إسرائيلي لنسبه ولا عربي لحسبه، ولا يحابى مسلم بإسلامه ولا يظلم كافر بكفره - كما تقدم في تفسير
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } [النساء: 135] وتفسير { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } [المائدة: 8] وغيرهما، فكان المعقول أن يكون علماء اليهود - وكذا النصارى - بعد مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأصول الكاملة في هداية البشر، التي أكمل الله تعالى بها دينه المطلق الذي أرسل به جميع رسله، أن يكونوا أسبق الناس إلى الإيمان به كما هو المعهود من كل ذي علم وفن حريص على الكمال فيه إذا جاءه من يفوقه في العلم به، أو رأى كتابا فيه يفضل كل ما عرف من كتبه، ولكن الحسد والعصبية وحب الرياسة القومية، هي التي صدت عن الإيمان من صدت من علمائهم المستقلين، ولا تسل عن حال المقلدين، وقد اعترف بذلك من آمن من فضلاء المعتدلين. وجملة " وعلمتم " إلخ. حالية، وقيل: استئنافية.
بين سبحانه إنكار المنكرين للوحي بعبارة تدل على جهلهم وترشد إلى البرهان المفند لزعمهم، وشفعه بأمر الرسول أن يسألهم ذلك السؤال الملجم لهم، ثم لقنه الجواب الذي كان يجب أن يجيبوا به لو أنصفوا، وأقروا بالحق واعترفوا، وما ينبغي أن يعاملوا به وهم جاحدون، لا ينطقون بالحق ولا يذعنون، وذلك قوله:
{ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أي قل أيها الرسول: الله أنزله - أي كتاب موسى - ثم دعهم بعد بيان الحق مؤيدا بالحجج والدلائل، فيما هم فيه من الخوض في الباطل، حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان، فإنما عليك البلاغ والبيان، وعلينا الحساب والجزاء.
وفي أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيذان بأنهم لا ينكرونه ولا يقولونه، لما في الإنكار من مكابرة النفس. وما في الاعتراف من خزي الغلب والإقرار بما يجحدون من الحق. وقد قيل: إن الأمر بتركهم منسوخ بآية القتال، ورده الجمهور بأنه لا منافاة بينهما.
ومن الجهل باللغة والشرع احتجاج بعض المتصوفة بالآية على شرعية ذكر الله تعالى بالأسماء المفردة كتكرار لفظ (الله، الله) وغيره من الأسماء الحسنى، وهم يكررون هذه الأسماء ساكنة لأنها ليست كلاما مفيدا والاسم الكريم في الآية مرفوع بإجماع القراء لأنه جملة حذف أحد جزأيها لقرينة السؤال التي هي جوابه كما علمت.
{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه } أي ذلك ما لزمكم من أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى عليه السلام، أي أوحاه إليه ليكتب ويهتدى به إلى أن ينزل بترقيته تعالى لاستعداد جملة البشر - ما ينسخه، (وهذا) " أي القرآن " (كتاب عظيم القدر)، فتنكيره للتفخيم (أنزلناه على خاتم رسلنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أنزلنا التوراة على موسى من قبل (مبارك) باركه الله أو بارك فيه بما فضل به ما قبله من الكتب في النظم والمعنى، وبما يكون من ثباته وبقائه إلى آخر عمر البشر في الدنيا، هو من " البركة " وهي - بالتحريك - النماء والزيادة والسعة النافعة كبركة الماء. ومن معاني المادة الثبات والاستقرار كبرك البعير.
{ مصدق الذي بين يديه } وهو ما تقدمه من كتب الأنبياء، أي مصدق لإنزال الله تعالى إياها في الجملة، لا لكل ما يعزى إليها بالتفصيل وقد ذكر فيه بعض الكتب بأسمائها والصحف مضافة إلى أصحابها، وذكر بعض قواعدها وأحكامها، على أنه أنزل مهيمنا عليها، ناعيا على بعض أهلها تحريفهم لها، ونسيانهم لحظ عظيم منها، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير سورة المائدة وما قبلها.
ونقل الرازي في تفسير " مبارك " عن أهل المعاني أن معناه كثير خيره، دائم بركته ومنفعته، يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية. ثم فسر ذلك هو بأن ما فيه من العلوم النظرية فهو أشرفها وأكملها وهو العلم بالله تعالى وصفاته، وأفعاله وأحكامه وأسمائه، وما فيه من العلوم العملية لا توجد في غير مثله سواء كانت أعمال الجوارح أو أعمال القلوب.
ثم قال: وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادة في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم انتهى. أي علم القرآن بتفسيره فليعتبر بهذا من يضعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام وغيرها، مما يعدون الرازي الإمام المطلق فيها، لعلهم يرجعون إلى كتاب الله تعالى ويهتدون به، ويطلبون السعادة من فيضه دون غيره، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتمام تفسيره، وأن يجعله حجة لنا لا علينا بكمال التخلق به.
{ ولتنذر أم القرى ومن حولها } قال الزمخشري: إن هذا عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قال: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه وللإنذار، واختار السعد التفتازاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار لأن عطف الظرف على المفرد كثير في بابي الخبر والصفة، وفيه بحث. ويجوز أن يكون عطفا على مقدر حذف لدلالة القرينة عليه كفعل التبشير الذي يقابل الإنذار، وقد جمع بينهما في أول سورة الكهف وآخر سورة مريم، وجرى البيضاوي على أن التعليل المحذوف دل عليه المذكور أي ولتنذر أم القرى أنزلناه.
وقرأ أبو بكر عن عاصم " ولينذر " بالإسناد المجازي إلى الكتاب، وأم القرى مكة والمراد أهلها بالاتفاق، كنيت بهذه الكنية لأنها قبلة أهل القرى، أي البلاد التي يجتمع فيها الناس كبيرة كانت أو صغيرة، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس، أو لأنها حجهم ومجتمعهم، أو لأنها أعظم القرى شأنا في الدين، أو لأنهم يعظمونها كالأم، أو لأن الأرض دحيت من تحتها كما روي عن بعض مفسري السلف. والمراد بالأخير أنها أول ما ظهر من الأرض اليابسة في الماء، ولا يعرف مثل هذا إلا بوحي صريح، والمراد بقوله تعالى: { ومن حولها } أهل الأرض كافة كما روي عن ابن عباس، ويقويه تسميتها بأم القرى
ونحن نعلم الآن علم اليقين أن الناس يصلون متوجهين إلى بيت الله فيها، في جميع أقطار الأرض القريبة منها والبعيدة عنها فهذا مصداق كونهم حولها، وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا، واستدلوا به على أن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة بقومه العرب، والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور، فإن إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم،
وقد ثبت عموم بعثته في آيات أخرى كقوله تعالى في هذه السورة:
{ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام: 19] أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته وقد تقدم، وقوله في أول سورة الفرقان: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } [الفرقان: 1] وقوله في سورة سبأ { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا } [سبـأ: 28].
{ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } أي والذين يؤمنون بالآخرة أو الحياة الآخرة وما فيها من الجزاء على الإيمان والأعمال إيمانا إذعانيا صحيحا أو استعداديا قويا سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم، يؤمنون بهذا الكتاب المبارك إذا بلغهم أو إذا بلغهم دعوته ; لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى في تلك الدار، فمثلهم كمثل قوم سفر ضلوا في مفازة من مجاهل الأرض، حتى إذا كادوا يهلكون جاءهم رجل بكتاب في علم خرت الأرض وتقويم البلدان، فيه بيان مكانهم وبيان أقرب السبل لمنجاتهم، فإنهم لا يتلبثون بقبوله والعمل به،
وأما المنكرون للبعث والجزاء فلا يشعرون بشدة الحاجة إلى هدايته. وفي هذا تعريض أو تصريح بسبب إعراض جمهور أهل مكة الأعظم عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم. وبالغ الرازي في قوله: يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين، لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة من العقاب، وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام اهـ. ويعلم وجه المبالغة مما فسرنا به الجملة الشريفة
{ وهم على صلاتهم يحافظون } يؤدونها في أوقاتها، مقيمين لأركانها وآدابها ; فإن الإيمان بالبعث وبالقرآن يقتضي ذلك حتما، وخصت الصلاة بالذكر لأنه لم يكن فرض عند نزول السورة من أركان العبادات غيرها، على أنه لما كانت الصلاة عماد الدين ورأس العبادات وممدة الإيمان بالتقوية وكمال الإذعان، كانت المحافظة عليها داعية إلى القيام بسائر العبادات المفروضة وترك جميع المحرمات المنصوصة، ومحاسبة النفس على الشبهات والأفعال المكروهة.