التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
١١٧
فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١١٨
فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ
١١٩
وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
١٢٠
قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٢١
رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
١٢٢
-الأعراف

تفسير المنار

وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون } أي: أوحينا إليه بأن ألق عصاك فقد جاء وقتها، فألقاها كما أمر، فإذا هي تلقف ما يأتون به من الإفك، ذكر هنا وفي سورة طه أمره لموسى بالإلقاء، وفي سورة الشعراء أنه فعل الإلقاء الذي أمر به، ولم يذكر الأمر فحذف من كل سورة ما أثبت مقابله في الأخرى، وهو من قبيل الاحتباك في السور والإيجاز المؤدي للمعاني المتعددة بأخصر عبارة، قرأ حفص " تلقف " بالتخفيف من الثلاثي، والباقون بالتشديد وأصله " تتلقف "، وهو يدل على لقف شيء بعد شيء.
ما معنى لقف العصا للإفك؟ الإفك - بالكسر -: اسم لما يؤفك؛ أي: يصرف ويحول عن شيء إلى غيره، ويستعمل في التلبيس والشر وقلب الحقائق، وبالفتح: مصدر أفك بالفتح " كجلس وضرب " ويقال: أفك بالكسر " كتعب " قال في الأساس: أفكه عن رأيه: صرفه، وفلان مأفوك عن الخير، وقال الراغب: الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب: مؤتفكة، قال تعالى:
{ { وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة } [الحاقة: 9] وقال تعالى: { { والمؤتفكة أهوى } [النجم: 53] وقوله تعالى: { قاتلهم الله أنى يؤفكون } [التوبة: 30] أي: يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق في المقال إلى الكذب، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح، ومنه قوله تعالى: { يؤفك عنه من أفك } [الذاريات: 9]، { { أنى يؤفكون } [التوبة: 30]، وقوله: { { أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا } [الأحقاف: 22] فاستعملوا الإفك في ذلك لما اعتقدوا أن ذلك صرف عن الحق إلى الباطل - فاستعمل ذلك في الكذب لما قلنا ا هـ. ويعلم منه ومن سائر استعمال المادة في القرآن وغيره أن الإفك يكون بالقول، ومنه الكذب، وما يؤدي المراد من الكذب كالإبهام والتدليس والتجوزات والكنايات والمعاريض التي توهم السامع أو القارئ لها ما يخالف الحق، وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون.
وأما لقف الشيء وتلقفه - بالتشديد - فهو تناوله بحذق وسرعة، كما قال الشاعر:

كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل

قال الراغب: لقفت الشيء ألقفه " أي من باب علم " وتلقفته تناولته بالحذق، سواء في ذلك تناوله بالفم أو اليد قال: { فإذا هي تلقف ما يأفكون } ا هـ. ومن مجازه تلقف العلم أي: تلقيه بسرعة وحذق، و (ما) في قوله تعالى: ما يأفكون إما موصولة وإما مصدرية، وعلى الأول يتخرج ما نقل عن ابن عباس وقتادة والحسن والسدي من كون عصا موسى عليه السلام التقمت حبال السحرة وعصيهم واسترطتها؛ أي: ابتلعتها فهو مما يحتمله اللفظ، والراجح أنه مأخوذ عن اليهود لما علمت آنفا من نص سفر الخروج فيه، وينافيه كونها مصدرية إذ المعنى عليه أنها تناولت عملهم هذا، فأتت عليه بما أظهرت من بطلانه وحقيقة الأمر في نفسه بسرعة، فإن كان إفكهم عبارة عن تأثير أحدثوه في العين، فلقفها إياه عبارة عن إزالته وإبطاله ورؤية الحبال والعصي على حقيقتها - وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة، فكذلك - وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوة بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة، سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها، فلقفها لذلك يجوز أن يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصي فانكشفت به الحيلة، قال الشيخ محي الدين بن عربي ما معناه أو محصله على ما نتذكر أن إبطالها لسحر السحرة أنه ترتب على إلقائها أن رأى الناس تلك الحبال والعصي على أصلها، ولو ابتلعتها لبقي الأمر ملتبسا على الناس؛ إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا، ولكن أحد الغريبين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم، وهذا لا ينافي كونهما من جنس واحد، ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصي التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى - هو الذي ماز الحق من الباطل، وعرفت به الآية الإلهية، والحيلة الصناعية، وكل ما في الأمر أن عصا موسى أزالت هذا التخيل بسرعة، وهو معنى اللقف، ولكن لا نعلم بماذا كان لها هذا التأثير؛ لأنها آية إلهية حقيقة لا أمر صناعي حتى نعرف صفته وحقيقته.
وقوله تعالى: { فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون } أظهر في هذا المعنى منه في ابتلاع العصا للحبال والعصي إذا فسرت ألفاظه بمعانيها الحقيقة، فالذي بطل كان عملا عملوه، وكيدا كادوه، وليس شيئا ماديا أوجدوه، كما علم من سورة طه وسورة يونس؛ أي: فثبت الحق وفسد ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره.
{ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } أي: فغلب فرعون وملؤه في ذلك المجمع العظيم الذي كان في عيد لهم ويوم زينة من مواسمهم، ضربه موسى موعدا لهم بسؤالهم كما بين في سورة طه:
{ قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [طه: 59] لتكون الفضيحة ظاهرة مبينة لجماهير الناس، ولم يقل فغلبهم موسى؛ لأن ذلك لم يكن بكسبه وصنعه. وانقلبوا؛ أي: عادوا من ذلك المجمع صاغرين أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة، أو صاروا صاغرين، وإنما خص هذا بفرعون وملئه، وكان المتبادر أن يكون للسحرة أولا وبالذات، ولفرعون بالتبع أو للجميع على سواء؛ لأنه تعالى بين ما كان من عاقبة السحرة بقوله.
{ وألقي السحرة ساجدين } فسره الكشاف بقوله: وخروا سجدا كأنما ألقاهم ملق؛ لشدة خرورهم، وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا ا هـ، والمراد أن ظهور بطلان سحرهم، وإدراكهم فجأة لحقيقة موسى عليه السلام، وعلمهم بأنها من عند الله تعالى لا صنع فيها لمخلوق قد ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكان هذا اليقين في الإيمان البرهاني الكامل، والوجداني الحاكم على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لله رب العالمين الذي بيده ملكوت الخلق أجمعين، ولم يبق في أنفسهم أدنى مكان لفرعون وعظمته الدنيوية الزائلة، ولا سيما وقد ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية.
وفي آية سورة طه
{ { فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى } [طه: 70] فالفاء تدل على التعقيب، ومثلها في سورة الشعراء.
(فإن قيل): ولم قال هنا " وألقي " ولم يقل " فألقي " ليدل على التعقيب أيضا؟ (فالجواب) أن " ألقي " هنا عطف على قوله تعالى: فغلبوا فهو يشاركه بما تفيده فاؤه من معنى التعقيب، وكونه مثله أثرا لبطلان سحر السحرة، ووقوع الحق بثبوت آية موسى عليه السلام، ولو عطف عليه بالفاء لدل على كون السجود أثرا للغلب والصغار لا لظهور الحق، وبطلان كيد السحر، وحينئذ يكون منافيا لما في سورتي طه والشعراء.
{ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } الجملة إما بيان مستأنف، وإما حال من السحرة؛ أي: حال كونهم قائلين في سجودهم آمنا، ومثله في سورة الشعراء. (فإن قيل): ولم لم يذكر في سورة طه إيمانهم برب العالمين؟ ولم أخر فيها اسم موسى، وقدم اسم هارون؟ (فالجواب) عنهما أن سبب ذلك مراعاة فواصل السور بما لا يعارض غيره مما ورد في غيرها، ولا سيما وقد نزل قبلها، فالإيمان برب هارون وموسى هو الإيمان برب العالمين؛ لأنهما قالا لفرعون:
{ { إنا رسول رب العالمين } [الشعراء: 16] وقد بينا مرارا أن القرآن ليس كتاب تاريخ تدون فيه القصص بحكايتها كلها كما وقعت، ويذكر كل ما قيل فيها بنصه أو بترجمته الحرفية - وإنما هو كتاب هداية وموعظة، فهو يذكر من القصص ما يثبت به الإيمان، ويتزكى الوجدان، وتحصل العبرة، وتؤثر الموعظة، ولا بد في ذلك من تكرار المعاني مع التفنن في الأسلوب والتنويع في نظم الكلام وفواصل الآي، وتوزيع الفوائد وتفريقها، بحيث يوجد في كل قصة ما لا يوجد في غيرها.