التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

تفسير المنار

هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم، بما أودع في فطرتهم، وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة؛ ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة، أو سياق على سياق، قال تعالى:.
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الظهور جمع ظهر وهو العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته، ومركز النخاع الشوكي الذي عليه مدار حياته، فيصح أن يعبر به عن جملة وجوده الجسدي الحيواني، والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث، قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب (ذرياتهم) بالجمع والباقون بالإفراد ومعناهما واحد؛ فإن المفرد المضاف يفيد العموم، ورسمها في المصحف الإمام واحد.
وقوله: { من ظهورهم } بدل من بني آدم بمعناه، والجمهور على أنه بدل البعض من الكل، وهو الظاهر إذا لم يرد بهذا البعض ذلك الكل، وقال أبو البقاء: هو بدل اشتمال.
والمعنى: واذكر أيها الرسول في أثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني إسرائيل ذريتهم بطنا بعد بطن، فخلقهم الله على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، سلطانا أعلى على جميع الكائنات، هو الأول والآخر هو المستحق للعبادة وحده - وقد بسطنا هذه المسألة - وهذا معنى قوله تعالى: { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } [الأعراف: 172] أي: أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته، واستعداد عقله قائلا قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟
فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا، فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء:
{ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11] وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل، وهو أعلى أساليب البلاغة، وشواهده في القرآن وكلام البلغاء كثيرة.
بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال:
{ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } أي: فعلنا هذا منعا لاعتذاركم أو احتجاكم يوم القيامة بأن تقولوا: إذا أنتم أشركتم به: إنا كنا غافلين: عن هذا التوحيد للربوبية، وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده. والمراد أنه تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل.
{ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } باختراع الشرك فتجعل عذابنا كعذابهم، مع عذرنا بتحسين الظن بهم. والمراد: أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم، كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل، بعد ما أقام عليهم من حجة الفطرة والعقل.
{ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } أي: وبمثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبني آدم الآيات والدلائل؛ ليستعملوا عقولهم، ولعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليدهم. والآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله تعالى، ولا بفعل الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطرة السليمة، وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة، وإنما يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم. وهو أكثر العبادات التفصيلية.
هذا ما يتبادر إلى الفهم من الآيات لذاتها. ولكن ورد في أخذ الذرية من بني آدم، وإشهادهم على أنفسهم أحاديث وآثار لا يمكن أن تعرف إلا من خبر الوحي، وقد كانت موضوع بحث ومناقشة بين علماء المنقول والمعقول فنورد أمثل ما قالوه فيها. قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:. "يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه. قال تعالى:
{ { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [الروم: 30] وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مولود يولد على الفطرة" وفي رواية "على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " "يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " ، وقال الإمام أبو جعفر بن جريررحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: "غزوت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع غزوات قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاشتد عليه ثم قال: ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟ فقال رجل: يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصرانها" قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية. وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن، قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتميزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم، قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
" يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي " أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به ".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير - يعني - ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
" "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم فتلا قال: ألست بربكم؟.
قالوا { بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا } إلى قوله: { المبطلون }"
وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم عن صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به. إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا. وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبير به وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه به، وكذا رواه عطاء بن السائب، وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم، وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال: أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر، وهو في أذى من الماء.
وقال أيضا: حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جويبر: مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال: فقال يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحدة فأبرز وجهه، وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسئول، ففعلت الذي به أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله عم يسأل ابنك؟
من يسأله إياه؟
قال: يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم.
قلت: يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟
قال: حدثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة، فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا عبد الرحمن بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي ظبية عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
"{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال: أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ، أحمد بن أبي ظبية هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه وقال: أبو حاتم الرازي يكتب حديثه، وقال ابن عدي: حدث بأحاديث كثيرة غرائب، وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قوله، وكذا رواه جرير عن منصور به، وهذا أصح والله أعلم:
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك، وحدثنا إسحاق بن مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } الآية. فقال عمر بن الخطاب:
"سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار"
.
وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة، والترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن، وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، وابن جرير من حديث روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به قال الترمذي: وهذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع عمر، وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة، وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمرو بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب، وقد سئل عن هذه الآية { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } فذكره.
وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمرو بن جعثم بن زيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك، والله أعلم: (قلت): الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة لما جهل حال نعيم، ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات، ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم.
(حديث آخر) قال الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص عينيه قال: أي رب من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود. قال: رب وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟، قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته" ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدثه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: " ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم: يا رب لم فعلت هذا بذريتي؟ قال كي تذكر نعمتي. وقال آدم: يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا؟ قال: هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك " ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم.
(حديث آخر) قال عبد الرحمن بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم ـ رضي الله عنه ـ،
"أن رجلا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله ابتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء قال: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار " رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه.
(حديث آخر) روى جعفر بن الزبير - وهو ضعيف عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
" لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال يا أصحاب اليمين. فقالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى: ثم خلط بينهم، فقال قائل له: يا رب لم خلطت بينهم؟ قال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم" رواه ابن مردويه.
(أثر آخر) قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآيات. قال: فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم { ألست بربكم قالوا بلى } الآية. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئا، وإني سأرسل لكم رسلا لينذروكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب لو سويت بين عبادك، قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى
{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [الأحزاب: 7] الآية. وهو الذي يقول: { { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله } [الروم: 30] الآية. ومن ذلك قال: { { هذا نذير من النذر الأولى } [النجم: 56] ومن ذلك قال: { { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } [الأعراف: 102] الآية. رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم من رواية أبي جعفر الرازي به، وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها وبالله المستعان.
فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - وفي حديث عبد الله بن عمرو، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع، وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا ولهذا قال: { وإذ أخذ ربك من بني آدم } ولم يقل من آدم من ظهورهم، ولم يقل من ظهر ذرياتهم أي: جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، كقوله تعالى:
{ { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } [الأنعام: 165] وقال: { { ويجعلكم خلفاء الأرض } [النمل: 62] وقال: { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } [الأنعام: 133] ثم قال: { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول كقوله: { { قالوا شهدنا على أنفسنا } [المائدة: 130] الآية. وتارة تكون حالا كقوله تعالى: { { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } [التوبة: 17] أي: حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك، كقوله تعالى: { { وإنه على ذلك لشهيد } [العاديات: 7] كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: { وآتاكم من كل ما سألتموه } [إبراهيم: 34] قالوا: ومما يدل على أن الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره؛ ليكون حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: أن تقولوا أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين أي: عن التوحيد غافلين: أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا الآية. انتهى كلام ابن كثير.
وقد بسط العلامة ابن القيم هذه المسألة في كتاب الروح في سياق البحث في خلق الأرواح قبل الأجساد - فذكر الروايات المرفوعة والموقوفة والآثار فيها وما قيل من الجرح والتعديل في أسانيدها ثم قال:.
وهاهنا أربع مقامات:
(أحدها) أن الله سبحانه استخرج صورهم وأمثالهم، فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم.
(والثاني) أن الله سبحانه أقام عليهم الحجة حينئذ، وأشهدهم بربوبيته، واستشهد عليهم ملائكته.
(الثالث) أن هذا هو تفسير قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم }. (الرابع) أنه أقر تلك الأرواح كلها بعد إخراجها بمكان وفراغ من خلقها، وإنما يتجدد كل وقت إرسال جملة منها بعد جملة إلى أبدانها.
(فأما المقام الأول) فالآثار متظاهرة به مرفوعة وموقوفة.
(وأما المقام الثاني) فإنما أخذه من أخذه من المفسرين من الآية وظنوا أنه تفسيرها، وهذا قول جمهور المفسرين من أهل الأثر.
قال أبو إسحاق: جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال:
{ قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم } [النمل: 18] وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير.
وقال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية: أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم، وأنهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد، والنخلة التي سمعت وانقادت حين دعيت.
وقال الجرجاني: ليس بين قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
" "إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته " وبين الآية اختلاف بحمد الله؛ لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته؛ لأن ذرية آدم ذرية لذريته، بعضهم من بعض.
وقوله تعالى: { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } [الأعراف: 172] أي: عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق. قال: وفي هذا دليل على التفسير الذي جاءت به الرواية من أن الله تعالى قال للملائكة: اشهدوا فقالوا: شهدنا. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد؛ لأن الأرواح هي التي تعقل وتفهم، ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم. قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة. قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم، قال الجرجاني: واحتجوا بقوله تعالى:
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء } [آل عمران: 169] والأجساد قد بليت، وضلت في الأرض، والأرواح ترزق وتفرح، وهي التي تلذ وتألم، وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر، وبيان ذلك في الأحلام موجود، إن الإنسان يصبح وأثر لذة الفرح وألم الحزن باق في نفسه مما تلاقي الروح دون الجسد.
قال: وحاصل الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحدا منهم من الطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركب فيهم من القدرة، وآتاهم من الأدلة. وبين سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
(فصل)
ونازع هؤلاء غيرهم في كون هذا معنى الآية، وقالوا معنى قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } أي: أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما يشهد على أنه باريه، ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته. كما قال في غير هذا الموضع:
{ { شاهدين على أنفسهم بالكفر } [التوبة: 17] يريدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا نحن كفرة، وكما تقول: قد شهدت جوارحي بقولك، تريد: قد عرفته، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت، ومن هذا إعلامه وتبيينه أيضا { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [آل عمران: 18] يريد: أعلم وبين فأشبه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم. هذا كلام ابن الأنباري. وزاد الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكيا عن أصحابه: إن الله لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن، وما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه نابع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد - مما لم يقع بعد - موقع الواقع، لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله: { ونادى أصحاب النار } [الأعراف: 50] { ونادى أصحاب الجنة } [الأعراف: 44] { { ونادى أصحاب الأعراف } [الأعراف: 48] قال: فيكون تأويل قوله { وإذ أخذ ربك }: وإذ يأخذ ربك، وكذلك قوله: { وأشهدهم على أنفسهم } [الأعراف: 172] أي: ويشهدهم بما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب وكل من ولد وبلغ الحنث، وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله، وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ، ولم يقدح فيه مانع من فهم إلا إذا حزبه أمر يفزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بإصبعه علما منه بأن خالقه تعالى فوقه، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق، إذ جعل فيه السبب والأدلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق، وجائز أن يقال له قد أقر وأذعن وأسلم كما قال الله عز وجل { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها } [الرعد: 15] قال واحتجوا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه" .
وقوله عز وجل: { { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ثم قال: وحملها الإنسان } [الأحزاب: 72] الأمانة هي عهد وميثاق. فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه. قال: وللعرب فيها ضروب نظم فمنها قوله:

ضمن القنان لفقعس بثباتها إن القنان لفقعس لا يأتلي

والقنان: جبل، فذكر أنه قد ضمن لفقعس وضمانه لهم أنهم كانوا إذا حزبهم أمر من هزيمة أو خوف لجئوا إليه فجعل ذلك كالضمان لهم، ومنه قول النابغة:

كأجارف الجولان هلل ربه وجوران منها خاشع متضائل

وأجارف الجولان جبالها، وجوران الأرض التي إلى جانبها. وقال هذا القائل إن في قوله تعالى: { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 172 - 173] دليلا على هذا التأويل؛ لأنه عز وجل أعلم أن هذا الأخذ للعهد عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إما أن تكون عن يوم القيامة، أو عن أخذ الميثاق. فأما يوم القيامة فلم يذكر سبحانه في كتابه أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط، وأما أخذ الميثاق فالأطفال، والأسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم - كما قال المخالف - فهم لم يبلغوا بعدما أخذ هذا الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه فيجحدونه وينكرونه، فمتى تكون هذه الغفلة منهم، وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم؟ وذكر ما لا يجوز ولا يكون محال، وقوله تعالى: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أنفسهم أن يكون منهم أو من آبائهم، فإن كان منهم فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ، وثبوت الحجة عليهم إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره وإن كان من غيرهم فالأمة مجمعة على
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام: 164] كما قال عز وجل في الكتاب، وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الله مسح ظهر آدم وأخرج منه ذريته فأخذ عليهم العهد" لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اقتص قول الله عز وجل فجاء مثل نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل، قال: وهذا شبيه بقصة قوله تعالى: { { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به } [آل عمران: 81] فجعل سبحانه ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم، يدل على ذلك قوله تعالى: { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } [آل عمران: 81] ثم قال للأمم: { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } [آل عمران: 81] فجعل سبحانه بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجعل معرفتهم به إقرارا منهم. قلت: وشبيه به أيضا قوله تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } [المائدة: 7] فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه ونظيره قوله تعالى: { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } [الرعد: 20] وقوله تعالى: { { ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } [يس: 60 - 61] فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله، ومثله قوله تعالى لبني إسرائيل: { { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [البقرة: 40] ومثله: { { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [آل عمران: 187] وقوله تعالى: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } [الأحزاب: 7] فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم، كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم، وهذا الميثاق الذي لعن سبحانه من نقضه وعاقبه بقوله تعالى: { { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } [المائدة: 13] فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله، وقد صرح به في قوله تعالى: { { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } [البقرة: 63] ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سورة مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق فيها أهل الكتاب فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله، ولما كانت آية الأعراف هذه في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقروا بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك بما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده، ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:
(أحدها) أنه قال: وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل آدم وبني آدم.
(الثاني) أنه قال: من ظهورهم ولم يقل ظهره، وهذا بدل بعض من كل أو بدل اشتمال وهو أحسن].
(الثالث) أنه قال (ذريتهم) ولم يقل ذريته.
(الرابع) أنه قال: وأشهدهم على أنفسهم أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم فلا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار لا يذكر شهادة قبلها.
(الخامس) أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: { إنا كنا عن هذا غافلين } والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى:
{ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165]:
(السادس) تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين معلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
(السابع) قوله تعالى: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 173] فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد:
(إحداهما) ألا يدعوا الغفلة.
(والثانية) ألا يدعوا التقليد فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره.
(الثامن) قوله تعالى: { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله، وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار.
(التاسع) أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى:
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } [العنكبوت: 61] أي: فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم، وهذا كثير في القرآن، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله بقوله تعالى: { { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } [إبراهيم: 10] فالله تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم ولا أقام به عليهم حجة.
(العاشر) أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به فقال تعالى: { وكذلك نفصل الآيات } أي مثل هذا التفصيل والتبيين نفصل الآيات { ولعلهم يرجعون } من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، وهذه الآيات التي فصلها هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية، آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى، مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدق رسله، وعلى المعاد والقيامة، ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مخلوق مصنوع حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون حدث بلا محدث أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده ليس كمثله شيء، وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة، وهذه الآية وهي قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } مطابقة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة" ولقوله تعالى: { { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه } [الروم: 30 - 31].
ومن المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري، ومنهم من لم يذكر إلا القول الأول فقط. ومنهم من حكى القولين، كابن الجوزي والواحدي والماوردي وغيرهم.
قال الحسن بن يحيى الجرجاني: فإن اعترض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره" وقال إن هذا مانع من جواز التأويل الذي ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر، إن كان أخذ الميثاق عليهم بعد البلوغ وتمام العقل قيل له: إن معنى " ثم ردهم في ظهره " ثم يردهم في ظهره، كما قلنا إن معنى أخذ ربك: يأخذ ربك فيكون معناه: ثم يردهم في ظهره بوفاتهم: لأنهم إذا ماتوا ردوا إلى الأرض للدفن وآدم خلق منها ورد فيها، فإذا ردوا فيها فقد ردوا في آدم، وفي ظهره إذ كان آدم خلق منها، وفيها رد بعض الشيء من الشيء، وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى، إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرنا؛ لأنه عز وجل قال: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } ولم يذكر آدم في القصة، إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم أولاده، وفي الحديث أنه مسح ظهره فلا يمكن رد ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.
قال الجرجاني: وأنا أقول " ونحن إلى ما روي في الآية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أميل، وله أقبل وبه آنس، والله ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى على أن بعض أصحابنا من أهل السنة قد ذكر في الرد على هذا القائل معنى يحتمل ويسوغ في النظم الجاري، ومجاز العربية بسهولة، وإمكان من غير تعسف ولا استكراه، وهو أن يكون قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم } مبتدأ خبره من الله عز وجل عما كان منه في أخذ العهد عليهم و " إذ " يقتضي جوابا يجعل جوابه قوله تعالى: { قالوا بلى } وانقطع هذا الخبر بتمام قصته، ثم ابتدأ عز وجل خبرا آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال: " شهدنا " يعني نشهد. قال الحطيئة:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر

بمعنى يشهد الحطيئة. يقول تعالى نشهد إنكم ستقولون يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين أي: عما هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر، ثم أضاف إليه خبرا آخر فقال: { أو تقولوا } بمعنى: وأن تقولوا، لأن " أو " بمعنى واو النسق مثل قوله تعالى: { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } [الإنسان: 24] فتأويله ونشهد أن تقولوا يوم القيامة: { إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 173] أي إنهم: أشركوا وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا، فجرينا على مذاهبهم، واقتدينا بهم فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنب في ذلك لهم { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [الزخرف: 23] يدل على ذلك قولهم: { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } [الأعراف: 173] أي حملهم إيانا على الشرك، فتكون القصة الأولى خبرا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم، والقصة الثانية خبرا عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار، وقال فيما ادعاه المخالف: إنه تفاوت فيما بين الكتاب والخبر، لاختلاف ألفاظهما فيهما، قولا يجب قبوله بالنظائر والعبر التي تؤيد بها مخالفته فقال: إن الخبر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله مسح ظهر آدم أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكر الله تعالى في الكتاب بعضها، ولم يذكر كلها، ولو أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسوى هذه الزيادة التي أخبر بها، فما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه، لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت، بل كان زيادة في الفائدة، وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها، وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك تناقضا، كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم فذكر مرة أنه خلق من تراب، ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار، فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة؛ لأن الصلصال غير الحمأة، والحمأة غير التراب إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال. فقوله سبحانه وتعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الله مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته" معنى واحد في الأصل إلا أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " "مسح ظهر آدم" في الخبر عن الله عز وجل، ومسحه عز وجل ظهر آدم واستخراج ذريته منه مسح لظهور ذريته، واستخراج ذرياتهم من ظهورهم - كما ذكر تعالى -؛ لأنا قد علمنا أن جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه، لكن لما كان الطبق الأول من صلبه، ثم الثاني من صلب الأول، ثم الثالث من صلب الثاني جاز أن ينسب ذلك كله إلى ظهر آدم؛ لأنهم فرعه وهو أصلهم، وكما جاز أن يكون ما ذكر الله عز وجل أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم جاز أن يكون ما ذكر صلى الله عليه وسلم أنه استخرجه من ظهر آدم من ظهور ذريته، إذ الأصل والفرع شيء واحد، وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم، كما قال عز وجل: { فظلت أعناقهم لها خاضعين } [الشعراء: 4] والخبر في الظاهر عن الأعناق والنعت للأسماء المكنية فيها، وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليست جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر، ولا يحتمل أن يكون قوله: { خاضعين } للأعناق؛ لأن وجه جمعها خاضعات، ومنه قول الشاعر:

وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم

فالصدر مذكر وقوله شرق أنث لإضافة الصدر إلى القناة اهـ.