التفاسير

< >
عرض

وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
٤٨
أَهَـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
٤٩
-الأعراف

تفسير المنار

هذا النداء حقيق أن يكون من النبيين أو من دونهم من الشهداء، ولا مانع من صدوره عمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم على ما نذكر في تفسيره { ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون } كرر ذكرهم مع قرب العهد به فلم يقل: (ونادوا) لزيادة التقرير، وكون هذا النداء خاصا في موضوع خاص، فكان مستقلا دون ما قبله الموجه إلى أهل الجنة في جملتهم، والظاهر أن هذا النداء يكون في بعضهم لمن كانوا يعرفونهم في الدنيا من المستكبرين بغناهم وقوتهم المحتقرين لضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم، أو لحرمانهم من عصبة تمنعهم وتذود عنهم، الذين كانوا يزعمون أن من أغناه الله تعالى وجعله قويا في الدنيا هو الذي يعطيه نعيم الآخرة إن كان هنالك آخرة { { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } [سبأ: 34، 35] ومنهم طغاة قريش الذين قاوموا الإسلام في مكة واضطهدوا أهله كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل.
وقد ذكروا أنهم يعرفونهم بسيما أهل النار العامة كسواد الوجوه وزرقة العيون والذي يظهر أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها في الدنيا أو بسيما المستكبرين إذ ورد ما يدل على أن لكل من تغلب عليهم رذيلة خاصة صفة وعلامة تدل عليهم. وفي الصحيح
"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة" فيعرفه فيشفع له فلا تقبل شفاعته ثم يمسخه الله ذيخا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه. قال العلماء: إن مسخه ضبعا مناسب لحماقته ونتن الشرك [راجع ص449 وما بعدها ج 7 ط الهيئة] والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع. أي ما أغنى عنكم جمعكم للمال وكذا للرجال عند القتال واستكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان، وهو لم يمنع عنكم العذاب ولا أفادكم شيئا من الثواب؟.
{ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } أي يشيرون إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم في الدنيا كآل ياسر وصهيب الرومي وبلال الحبشي، ويقولون لهم متهكمين بخزيهم وفوز من كانوا يحتقرونهم: أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا أن الله تعالى لا ينالهم برحمة لأنه لم يعطهم من الدنيا ما أعطاكم { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } أي قيل لهم من قبل الرحمن عز وجل: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون من جراء شيء ينغص عليكم حاضركم، وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخلص، ولكنه قل في كلام المولدين، حتى لا تراه إلا في كلام بعض بلغاء المنشئين، وقيل: إن أهل الأعراف هم الذين يقولون لهؤلاء ادخلوا الجنة إلخ. وهو بعيد بل لا يصح مطلقا على القول بأنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ إذ لا يليق بحالهم أن يخاطبوا من هم فوقهم بهذا الأمر لا قبل دخول الجنة ولا بعده. وهو وإن كان يليق من الملائكة أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالمتبادر الأول، وهو الحكاية بتقدير القول وروي عن عكرمة. وقيل إن الأمر بدخول الجنة لأصحاب الأعراف. روي عن الربيع بن أنس في تفسير الآية قال: كان رجال في النار قد أقسموا بالله لا ينال أصحاب الأعراف من الله رحمة، فأكذبهم الله فكانوا آخر أهل الجنة دخولا فيما سمعناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف معارض بما في الصحاح في آخر أهل الجنة دخولا وتقدم آنفا.
وجملة القول في أصحاب الأعراف: أن ما حكاه تعالى عنهم يحتمل أن يكون - إن صح وجود الأعراف حينئذ - بعد المرور على الصراط وقبل دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وأن يكون بعد ذلك، فالأول - لولا ما ينافيه مما تقدم - يرجح أنهم الأنبياء وحدهم أو مع غيرهم من الشهداء على الخلق؛ لأن وجودهم هنالك تمييز وتفضيل على جميع أهل الموقف، ولا يصح هذا لغيرهم إلا أن يكون للملائكة وهو ما يمنع منه التعبير برجال وإن أوله، أو مسلم بكونهم في صورتهم. والثاني والثالث يرجحان أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم بمعونة كثرة الروايات فيه، يوقفون على الأعراف طائفة من الزمن يظهر فيها عدل الله تعالى بعدم مساواتهم بأصحاب الحسنات الراجحة بدخول الجنة معهم، ولا بأصحاب السيئات الراجحة بدخول النار معهم ولو بقوا في هذه المنزلة بين المنزلتين لكان عدلا ولكن ورد أنه تعالى يعاملهم بعد هذا العدل بالفضل ويدخلهم الجنة، ولابد أن يكون ذلك قبل إخراج من يعذبون في النار من المؤمنين الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم، والدليل على عدم بقاء أحد في منزلة بين الجنة والنار ما ورد من الآيات الكثيرة في القسمة الثنائية
{ { فريق في الجنة وفريق في السعير } [الشورى: 7]. وكل من تلك الاحتمالات التي يبنى عليها الترجيح بين هذين القولين له مرجحات ومعارضات من الآيات كما علم من تفسيرنا لها، وقد يكون من مرجحات الثاني أو الثالث وضع هذه الآيات بين نداء أهل الجنة أهل النار: { { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } [الأعراف: 44] الآية. ونداء أهل النار أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء والطعام الذي يتمتعون به في قوله عز وجل: