التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨٥
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨٦
وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٧
-الأعراف

تفسير المنار

قصة شعيب عليه السلام
هو من أنبياء العرب المرسلين واسمه مرتجل وقيل: مصغر شعب بفتح المعجمة أو كسرها، وما قيل من حظر تصغير أسماء الأنبياء لا يدخل فيه الوضع الأول، بل المراد به تصغير الاسم المعروف بما يوهم الاحتقار، كأن تقول في شعيب " شعيعيب " بناء على أنه غير مصغر في الأصل، وقصد الاحتقار لا يقع من مؤمن بأنه من رسل الله عليهم السلام.
أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر قال: أخبرني عبيد الله بن زياد بن سمعان عن بعض من قرأ الكتب قال: إن أهل التوراة يزعمون أن شعيبا اسمه في التوراة ميكائيل واسمه بالسريانية خبري بن يشخر بن لاوى بن يعقوب عليهم السلام وأخرج من طريقه عن الشرقي بن القطامي وكان نسابة عالما بالأنساب قال: هو يتروب بالعبرانية وشعيب بالعربية ابن عيفا بن يوبب بن إبراهيم عليه السلام يوبب بوزن جعفر أوله مثناة تحتية وبعد الواو موحدتان انتهى من الدر المنثور. ولعل يشخر فيه مصحف يشجر.
وأقول: إن اليهود كانوا يغشون المسلمين فيما يروون لهم من كتبهم، والذي في توراتهم أن حمى موسى كان يدعى رعوئيل كما في سفر الخروج (2: 18) وسفر العدد (10: 29) وقالوا: إن " رعو " معناه صديق فمعنى رعوئيل (صديق الله) أي الصادق في عبادته، وفي (3: 1 خروج) أن اسمه يثرون بالمثلثة والنون، إذ قال: وكان موسى يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين ومثله في (4: 18 منه) وضبط في ترجمة الأميركان بكسر الياء وسكون الثاء وفي ترجمة الجزويت " يثرو " بفتح الياء وبدون نون، وفي قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوست الأميركاني: يثرون (فضله) كاهن أو أمير مديان وهو حمو موسى (خر 3: 1) ويدعى أيضا رعوئيل (خر 2: 18 وعد 1: 29) ويثر (حاشية خر 4: 18) ويرجح أن يثرون كان لقبا لوظيفته، وأنه كان من نسل إبراهيم وقطورة (تك 25: 2) اهـ. وذكر قبل ذلك يثر وفسره بفضل كما فسر يثرون بفضله - أي فضل مضافا إلى ضمير الغائب. ولعل مرجع الضمير إلى الله تعالى كضمير عبده علما في زماننا ويختصرون به عبد الله.
وفي الفصل الخامس من سفر التكوين أن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان ومدين، وأهل الكتاب يكسرون ميم مدين، وبعضهم يقول: مديان، والمدينيون عرب، والعرب تفتح ميم الكلمة، وفي قاموس بوست أن معناها خصام، ونقل عن بعض المؤرخين أن أرضهم كانت تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. وعن آخرين أنها كانت تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى الفرات. وقال: إن الإسماعيليين كانوا من سكان مدين، ثم ذكر أن أهل مدين حسبوا مع العرب والموآبيين.
وأما علماؤنا فقال بعضهم كأبي عبيدة من حملة اللغة والبخارى من المحدثين والمؤرخين: إن مدين بلد، وإن قوله تعالى: { وإلى مدين } فيه حذف المضاف إلى أهل مدين، وهو غلط. وأما شعيب فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن جده يشجر بن لاوى بن يعقوب عليهم السلام وقال الحافظ في الفتح: هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن لاوى بن يعقوب. كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت، وقيل: هو شعيب بن صفور بن عنقا بن ثابت بن مدين وكان مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق.
وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل " أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد " فعلى هذا هو من العرب الخلص. وقيل: إنه من بني عنزة بن أسد ففي حديث سلمة بن سعيد العنزي أنه قدم على النبي فانتسب إلى عنزة فقال صلى الله عليه وسلم:
"نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون رهط شعيب وأختان موسى" أخرجه الطبراني وفي إسناده مجاهيل اهـ.
وقال الآلوسي: ومدين - وسمع مديان في الأصل - علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة، وقيل: هو عربي اسم لماء كانوا عليه، وقيل اسم بلد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث فلابد من تقدير مضاف حينئذ اهـ. ومما تقدم تعلم أن الراجح من هذه الثلاثة الأقوال هو الأول. قال الله تعالى:
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } قد تقدم مثله من كل وجه في قصة صالح عليه السلام إلا أنه ذكر هنا أنه قد جاءتهم بينة من ربهم، وذكر هنالك آية، وقد عين الآية بعد الإعلام بمجيئها وهي الناقة. ولم يذكر هنا ولا في سورة أخرى آية كونية معينة لشعيب عليه السلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة، ومعناه: أن كل نبي مرسل أعطاه الله من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر بدلالة مثله.
وقد يقال إن إنذار قومه بأن يصيبهم ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح إذا هم أصروا على شقاقه وعناده - هو آية بينة على صدقه، وقد صدق إنذاره هذا وهو مبين في قصته من سورة هود. ولكن لابد أن يكون له آية أخرى دالة على صدقه تقوم بها الحجة عليهم، فإن ظهور صدق هذا الإنذار إنما يكون بوقوع العذاب المانع من صحة الإيمان، فلا فائدة لهم من قيام الحجة به، على أن البينة على ما يتبين به الحق، فهي تشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية، والمعروف من أحوال الأمم القديمة أنها لم تكن تذعن إلا لخوارق العادات ولو لم تكن البينة التي أيد الله تعالى بها شعيبا عليه السلام ملزمة للحجة قاطعة لألسنة العذر ومكابرة الحق لما ترتب عليها قوله:
{ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم } فإن عطف هذا الأمر بالفاء لا يصح إلا إذا كان مبنيا على ما هو سبب له، وهو البينة على صدقه ووجوب طاعته، ولو كان معطوفا على قوله: { اعبدوا الله } لعطف بالواو.
بدأ الدعوة بالأمر بالتوحيد في العبادة لأنه أساس العقيدة وركن الدين الأعظم، وقفي عليه بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا؛ لأن هذا كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي، فكان شأنه معهم كشأن لوط عليه السلام إذ بدأ بنهي قومه عن الفاحشة السوأى التي كانت فاشية فيهم.
كان قوم شعيب من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه، وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه، فيبخسونهم أشياءهم وينقصونهم حقوقهم والبخس أعم من نقص المكيل والموزون فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشي والمعدودات ويشمل البخس في المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، وكل من البخسين فاش في هذا الزمان، فأكثر التجار باخسون مطففون مخسرون، فيما يبيعون وفيما يشترون وأكثر المشتغلين بالعلم والأدب وكتاب السياسة بخاسون لحقوق صنفهم، ونفاجون فيما يدعون لأنفسهم، يتشبعون بما لم يعطوا كلابس ثوبي زور، وينكرون على غيرهم ما أعطاه الله بباعث البغي والحسد والغرور.
وجملة { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } تشعر بأنهم كانوا يتواطئون على هضم الغريب وبخسه، وإن كانت تشمل بخس الأفراد بعضهم أشياء بعض، وهضم الشعب في جملته أشياء الغرباء الذين يعاملونهم، فقد روي أنهم كانوا إذا دخل الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف، فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس يعني النقصان، وهذه النقيصة فاشية بين الأمم والشعوب في هذا العصر، فتجد بعضهم يذم بعضا وينكر فضله كالأفراد وترى التجار في عواصم أوربة يغالون من الأسعار للغرباء ما يرخصون لأهل البلاد وترى بعض الغرباء يستحلون من نهب أموال المصريين بضروب الحيل والتلبيس ما لا يستحلون مثله في معاملة أبناء جلدتهم، وأما المصريون وأمثالهم من الشرقيين فهم في معاملة الإفرنج كما قال الشاعر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا

ويا ليتهم يعاملون أنفسهم ومن تجمعهم معهم أقوى المقومات هذه المعاملة، بل يكثر فيهم من يبخسون أبناء قومهم وملتهم أشياءهم ويهضمون حقوقهم، ويعظمون الأجنبي ويعطونه فوق حقه. وإنما استذلهم للأجانب حكامهم، فهم في جملتهم مبخوسون لا باخسون، ومظلومون لا ظالمون، وهم على ذلك مذمومون لا محمودون، ومكفورون لا مشكورون.
{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } تقدم نص هذه الجملة في آية (56) خطابا لأمتنا ففسرناها بما يناسب المقام. ونقول فيما يناسب المقام هنا: إن الإفساد في الأرض يشمل إفساد نظام الاجتماع البشري بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل والبغي والعدوان على الأنفس والأعراض، وإفساد الأخلاق والآداب بالإثم والفواحش الظاهرة والباطنة وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. وإصلاحها هو ما يصلح به أمرها وحال أهلها من العقائد الصحيحة المنافية لخرافات الشرك ومهانته، والأعمال الصالحة المزكية للأنفس من أدران الرذائل، والأعمال الفنية المرقية للعمران وحسن المعيشة، فقد قال تعالى في أوائل هذه السورة:
{ { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون } [الأعراف: 10] فقد أصلح الله تعالى حال البشر بنظام الفطرة وكمال الخلقة، ومكنهم من إصلاح الأرض بما آتاهم من القوى العقلية والجوارح، وبما أودع في خلق الأرض من السنن الحكيمة، وبما بعث به الرسل من مكملات الفطرة، فالإفساد إزالة صلاح أو إصلاح، وقد كان قوم شعيب من المفسدين للدين والدنيا كما يعلم من هذه الآية وما بعدها، والإصلاح ما يكون بفعل فاعل، وهو إما الخالق الحكيم وحده، وإما من سخرهم للإصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، والحكام العادلين الذين يقيمون القسط، وغيرهم من العاملين الذين ينفعون الناس في دينهم ودنياهم، كالزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة، وهذه الأعمال تتوقف في هذا العصر على علوم وفنون كثيرة، فهي واجبة وفقا لقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
{ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } الإشارة إلى كل ما تقدم من أمر ونهي، أي هو خير لكم في دينكم ودنياكم لا تكليف إعنات، فربكم لا يأمركم إلا بما هو نافع لكم، ولا ينهاكم إلا عما هو ضار بكم، وهو على كل حال غني عنكم، ولو شاء لأعنتكم ولكنه رحيم لا يفعل ذلك، وإنما تتحقق لكم خيرية ما ذكر إن كنتم مؤمنين بوحدانيته وصفاته تعالى وبرسوله وما جاءكم به عنه سبحانه من الدين والشرع وسيأتي تعليل ذلك بعد بيان ما قيل في هذا الإيمان.
فسر بعضهم الإيمان هنا بالتصديق اللغوي، أي اعتقاد صحة قوله عليه السلام لما هو معروف به عندهم من الصدق والأمانة والنصح بناء على أن خيرية الأوامر والنواهي الدنيوية لا تتوقف على عبادة الله وحده والإيمان برسالة رسوله. وذهب بعض المفسرين إلى أن الإشارة إلى قوله: { فأوفوا الكيل } وما بعده دون ما قبله من الأمر بعبادة الله وحده تعالى، وقال الطيبي: إن مثل هذا الشرط إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد. وقال القطب الرازي: إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم، كأنه قيل: فأتوا به إن كنتم مصدقين بي. فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. وقد أطالوا الاحتمالات في الآية حتى زعم الخيالي أن قوله: { ذلكم خير لكم } جملة معترضة وهو من خيالاته الغريبة التي انفرد بها.
والصواب أن هذا التذييل كأمثاله في القرآن مقصود بالذات، وأن المعنى: ذلكم الذي أمرتكم به من عبادة الله وحده وعدم إشراك شيء من خلقه في عبادته لما ترون فيه من خير ترجونه أو ضر تخافونه - ومن إيفاء الكيل والميزان بالقسط. وما نهيتكم عنه من الإفساد في الأرض - ذلكم كله خير لكم في معاشكم ومعادكم. وإنما تتحقق خيريته لكم إن كنتم مؤمنين بالله ورسوله وما جاءكم به من هذه الأوامر والنواهي وغيرها. ذلك بأن الإيمان يقتضي الاتباع والامتثال والعمل بجميع ما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف الهوى أو لم تظهر له فائدته ومنفعته بادي الرأي، بل يقتضيه حتى فيما يظن المؤمن أنه مناف لمصلحته، فتحصل له فوائده ومنافعه وإن لم يعلم أنه علة أو سبب لها بحسب حكمة الله وسننه التي أقام بها نظام العالم الإنساني. فكيف إذا علم ذلك بالتفقه في الدين والوقوف على حكمه وأسراره - ككون التوحيد واجتناب نزعات الشرك ترفع قدر الإنسان، وتطهر عقله ونفسه في الخرافات والأوهام وتعتق إرادته من العبودية والذلة لمخلوق مثله مساو له في كونه مخلوقا مسخرا لإرادة الخالق وسننه، وإن فاقه في عظمة الخلق أو عظم المنفعة كالشمس، أو بعض الصفات أو الخصائص كالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما عبد من دون الله، أو في الملك والسلطان فإن بعض الناس قد عبدوا الملوك الجبارين فاتخذوهم آلهة وأربابا، ومنهم من لا يزال يذل لهم ويطيعهم ولو في الباطل والجور خوفا منهم، أو رجاء في رفدهم، وليس هذا من شأن الموحدين، قال تعالى:
{ { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175] فالمؤمن الموحد لا يخضع لأحد لذاته إلا لربه وإلهه، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلغ عنه،
قال تعالى:
{ { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء: 80] وقال خاتم رسله: "إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر" رواه أحمد ومسلم من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وقال: "إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله" رواه أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح وقال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" رواه الجماعة كلها من حديث أم سلمة رضي الله عنهما وفي رواية "فلا يأخذه" بدل تخيير التهديد. وفي بعضها "من حق أخيه" بدلا من "بحق مسلم" وأجمع العلماء على أن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وأن الذمي والمعاهد كذلك.
ومعلوم أن الذمي هو الخاضع لأحكامنا من غير المسلمين، والمعاهد من بيننا وبينه أو بين قومه معاهدة على السلم والمراد: أن غير المسلم إذا لم يكن حربيا فهو مساو للمسلمين في احترام ماله ونفسه وعرضه وفي أحكام الشريعة التي تصدر بذلك. والشاهد المراد لنا من الحديث أن الحق في شرع الله تعالى مقصود لذاته، وإن حكم الحاكم ولو كان رسولا من رسل الله إنما ينفذ على الظاهر لأنه حكم بالظاهر دون الباطن، فإذا علم المحكوم له أنه خطأ في الواقع لم يحل له ديانة والحديث ليس نصا في وقوع الخطإ أو جوازه منه صلى الله عليه وسلم إذ يصح أن يكون قاله على سبيل الفرض، حتى لا يستعين أحد بخلابة اللسان لدى الحكام على القضاء له بالباطل. والذين قالوا بجواز خطإ الأنبياء في اجتهادهم قالوا إن الله تعالى لا يقرهم عليها على أن الحكم هنا بالبينة، وهي إنما تكون بحسب الظاهر لا بمحض الاجتهاد، وهذه المباحث ليست من موضوعنا هنا.
هذا مثال لكون التوحيد في العبادة هو لمصلحة الناس وتكريمهم وإعلاء شأنهم، وكذلك سائر العبادات وأحكام الحظر والإباحة، حتى ما يسمونه في عرف هذا العصر بالأحكام المدنية - قد شرعت لدفع المفاسد وتقرير المصالح العامة والخاصة، وترى غير المؤمن المتدين لا يلتزم اجتناب كل مفسدة بل يستبيح ما يراه نافعا له وإن كان ضارا بغيره فردا كان أو جماعة أو أمة بأسرها، فإن مجرد العلم بكون الأمانة خيرا من الخيانة، وكون القسط في البيع والشراء وسائر المعاملات خيرا من الغش والخيانة وبخس الحقوق - لا يكفي لحمل الجمهور على العمل به أولا؛ لأن هذا العلم إجمالي يعرض له عند التفصيل ضروب من الأشكال في تحديد الأمانة والخيانة والقسط والبخس، وضروب من الهوى في تطبيق حدودها أو رسومها على جزئياتها، وضروب من التأويل والشبهات في المساواة فيها بين القريب والغريب والصديق والعدو والضعيف والقوي والفقير والغني. وأما الدين فيوجب على المؤمن إقامة العدل لذاته بالمساواة كما قال تعالى:
{ { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله } [المائدة: 8] ويقول: { { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } [النساء: 135].
لم يصل البشر في عصر من عصور التاريخ إلى عشر ما وصلوا إليه في هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار والمصالح والمفاسد في الاجتماع البشري في معاملاته وآدابه حتى زعم كثير من الباحثين والمفكرين منهم أنه يمكن الاستغناء بالعلم عن الدين في تربية الأحداث بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، ومضار الرذائل كأضدادها، وأن هذا أهدى وأقوى إقناعا من التبشير بثواب الآخرة والإنذار بعذابها. ولكنا نرى رؤساء أو وزراء أرقى الأمم في هذه العلوم يقترفون أفحش الرذائل بالتأويل لها، وتسميتها بغير أسمائها، وبالخفاء والحيل، وما زالوا يراءون الناس في ذلك حتى فضحتهم وفضحت شعوبهم الحرب الأخيرة، فثبت بها أنهم شر البشر وأعرقهم في الرذائل العامة كالإفساد في الأرض بالظلم والطمع. والمباراة في وسائل إفساد الشعوب صحة وأخلاقا واستذلالا، لأجل الاستلذاذ باستبعادها، والاستئثار بثمرات أعمالها. على أنهم يمنون عليها بذلك زعما منهم أنهم يجذبونها به إلى حضارتهم الملعونة المبنية على الإسراف في الشهوات، واستحلال الفواحش والمنكرات وجعل ذلك من الحرية الشخصية التي يبالغون في مدحها، وعد هذا الإطلاق سببا للكمال فيها.
هذا وإن منهم من يدعي الجمع بين علوم الحقوق والآداب والفضائل وسنن الاجتماع، وبين دين المبالغة في الزهد والعفة والتواضع والإيثار، وهي الملة المسيحية التي يفتخرون بوصف أممهم بها، وهم أبعد من جميع خلق الله عنها - فالتحقيق الذي ثبت بالدلائل العقلية والنقلية والتجارب الدقيقة أن ملكات الفضائل لا تنطبع في الأنفس إلا بالتربية الدينية كما بيناه في مواضع أخرى؛ ولذلك تقل السرقة والخيانة في البلاد التي يغلب على أهلها التدين الصحيح كبلاد نجد وأكثر بلاد اليمن على قلة وسائل المحافظة على الأموال فيهما، وتكثر في غيرها على كثرة تلك الوسائل.
ومن عجيب أمر حكومتنا المصرية أنها تقلد الإفرنج في نظام التعليم وفي إطلاق الحرية الشخصية، وتغفل عما يجب من التربية الدينية. حتى إن أداء الصلاة في مدارسها اختياري لا يطالب به التلاميذ والطلاب ولا ينكر عليهم تركه. وقد فشت في البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور، وقد اتخذت عدة وسائل لتقليل هذه الجنايات بعد أن عقدت عدة لجان لدرسها ولكنها لم تأت أدنى عمل لمقاومتها بالتربية الدينية للنابتة، وبث الوعظ والإرشاد في العامة. وهو أقرب الوسائل لمنع الفساد في الأرض؛ لأن الوازع النفسي أقوى وأعم من الوازع الخارجي. وإن كان لا بد من الجمع بينهما، كما قال الله تعالى:
{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا } قلنا: إنه عليه السلام قد بدأ بدعوتهم إلى توحيد العبادة لأنه ركن الدين الأعظم الذي هدمته الوثنية، وثنى بالأوامر والنواهي المتعلقة بحالهم الغالبة عليهم. وأما هذا النهي عن قطعهم الطرق على من يغشى مجلسه عليه السلام ويسمع دعوته ويؤمن به فلم يؤخره لأن اقترافه دون اقتراف التطفيف في الكيل والميزان وبخس الحقوق؛ بل لأنه متأخر عنها في الزمن، فالدعوة قد وجهت أولا إلى أقرب الناس إليه في بلده ثم إلى الأقرب فالأقرب منهم وممن يزور أرضهم، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له في الأكثر، وتلك سنة الله في الخلق. فلما رأوا غيرهم يقبل دعوته ويعقلها ويهتدي بها شرعوا يصدون الناس عنه، فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من يتوعد سالكيها إليه ويصدونهم عن سبيل الله التي يدعوهم إليها، يطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا وهداها ضلالا، وتقدم مثل هذه الجملة (في الآية) 45 من هذه السورة في ص 427 فليراجع).
روى ابن عباس رضي الله عنه في قوله: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } قال: كانوا يجلسون في الطريق فيقولون لمن أتى عليهم: إن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم. وفي رواية عنه، بكل صراط: طريق - توعدون، قال: تخوفون الناس أن يأتوا شعيبا. وهذا تفسير للصراط بالطريق الحسي الحقيقي، وروي عن مجاهد تفسيره بالسبيل المجازي قال: { بكل صراط } بكل سبيل حق إلخ. وروي أنهم كانوا يخوفون الناس بالقتل إذا آمنوا به.
والحاصل: أنه نهاهم هنا عن ثلاثة أشياء: (أولها) قعودهم على الطرقات التي توصل إليه يخوفون من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته. (ثانيها) صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان والإسلام والاستقامة على سبيل الله تعالى الموصلة إلى سعادة الدارين. (ثالثها) ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة ذات عوج بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها، كقولهم له عليه السلام الذي حكاه الله تعالى عنهم في سورة هود:
{ { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } [هود: 87].
فهاهنا ضلالتان - ضلالة التقليد والعصبية للآباء والأجداد، ولا تزال تكأة أكثر الضالين في أصل الدين وفي فهمه وفي الاهتداء به - وضلالة الغلو في الحرية الشخصية التي لم تكن فتنتها في زمن ما أشد وأعم منها في هذا الزمن بما بث الإفرنج الفاتنون المفتونون لدعوتها في كل الأمم، حتى إن حكومة كالحكومة المصرية تبيح الزنا لشعب يدين أكثر أهله بالإسلام وأقله بالنصرانية واليهودية وكلهم يحرمون الزنا، وإنما أباحته بإغواء أساتذتها وسادتها من الإفرنج، وقد خنع الشعب المستذل المستضعف لها، وسكت علماؤه ومرشدوه الدينيون فلا ينكرون عليها أفرادا ولا جماعات، ولا يتظاهرون على الاحتجاج على عملها بالخطب الدينية والاجتماعية، ولا بالنشر في الصحف العامة، وقد أدى السكوت عن هذا وما أشبهه إلى أن صار المنكر معروفا يكثر أنصاره والمستحسنون له، ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن استحلال الزنا وإباحته كفر وردة. وعلماء الدين يتحدثون فيما بينهم بكفر واضعي أمثال هذه الأحكام في القوانين والمستبيحين لها من سواهم، ولكنهم قلما يتجاوزون التناجي في ذلك بينهم، إما لضعفهم أو لأن أرزاقهم من الأوقات ومنصب القضاء في أيدي هؤلاء الحكام، كما بيناه في مواضع. ومن مفاسد هذا السكوت عن إنكار المنكر أن بعض المسلمين يحتجون به على شرعية كل ما يسكت عنه علماء الدين.
{ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } أي وتذكروا ذلك الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد فكثركم الله تعالى بما بارك في نسلكم فاشكروا له ذلك بعبادته وحده واتباع وصاياه في الحق والعدل وترك الفساد في الأرض.
{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } من الشعوب المجاورة لكم كقوم لوط وقوم صالح وغيرهم، وكيف أهلكهم الله تعالى بفسادهم، فيجب أن يكون لكم عبرة في ذلك.
{ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين } أي إن كان بعضكم قد آمن بما أرسلني الله به إليكم من التوحيد والعبادة والأحكام المقررة للإصلاح المانعة من الإفساد، وبعضكم لم يؤمن به بل أصروا على شركهم وإفسادهم، فستكون عاقبتكم كعاقبة من قبلكم، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينكم بالفعل، وهو خير الحاكمين؛ لأنه يحكم بالحق والعدل، لتنزهه عن الباطل والجور، فإن لم يعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم، فسيرون ما يحل بهم، فالأمر بالصبر تهديد ووعيد.
حكم الله بين عباده نوعان: حكم شرعي يوحيه إلى رسله، وحكم فعلي يفصل فيه بين الخلق بمقتضى عدله وسننه، فمن الأول قوله تعالى في أول سورة المائدة:
{ { إن الله يحكم ما يريد } [المائدة: 1] فإنه جاء بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال بهيمة الأنعام إلا ما استثني منها بعد تلك الآية. ومن الثاني ما حكاه الله تعالى هنا عن رسوله شعيب عليه السلام. ومثله قوله تعالى في آخر سورة يونس خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم: { { واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } [يونس: 109] وفي معناه ما ختمت به سورة الأنبياء وهو في موضوع تبليغ دعوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: { { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } [الأنبياء: 108 - 112] وإنما حكمه تعالى بين الأمم بنصر أقربها إلى العدل والإصلاح في الأرض، وحكمه هو الحق، ولا معقب لحكمه، فليعتبر المسلمون بهذا قبل كل أحد، وليعرضوا حالهم وحال دولهم على القرآن وعلى أحكام الله لهم وعليهم، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتوبون إلى ربهم، فيعيد إليهم ما سلب منهم، ويرفع مقته وغضبه عنهم. اللهم تب علينا، وعافنا واعف عنا، واحكم لنا لا علينا. إنك على كل شيء قدير.