التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
٩٤
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٩٥
-الأعراف

تفسير المنار

سنن الله وحكمه في هذه القصص وأمثالها والاعتبار بها
من سنة القرآن الحكيم أنه يبين العقائد بدلائلها، والأحكام مؤيدة بحكمها وعللها، والقصص مقرونة بوجوه العبرة والموعظة بها وسنن الاجتماع فيها، كما ترى في هذه الآيات التسعة التي قفى بها على قصص القوم المهلكين.
{ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } الواو في أول الآية لعطف الجملة، وما بعدها إلى آخر السياق الذي وضعنا له العنوان على مجموع ما قبلهن من القصص، لمشاركته إياه في كونه حكما له وعبرا مستفادة منه، فعطف الجمل يشمل الكثير منها، كالسياق برمته، ولا وجه للفصل هنا، والقرية: المدينة الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها التي يعبر عنها في عرف هذا العصر بالعاصمة كما تقدم مرارا، وكان الأنبياء يبعثون في القرى الجامعة؛ لأن سائر البلاد تتبع أهلها إذا آمنوا.
والبأساء: الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء: ما يضر الإنسان في بدنه أو نفسه أو معيشته والأخذ بها: جعلها عقابا، وقد تكون تجربة وتربية نافعة.
وتقدم مثل هذا في قوله تعالى من سورة الأنعام:
{ { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } [الأنعام: 42] فيراجع (في ص 345 ج 7 ط الهيئة) فإنه بمعنى ما هنا، ولكن السياق مختلف، فلما كان ما هنا قد ورد عقب قصص طائفة من الرسل، جعل هذا المعنى قاعدة كلية وسنة مطردة في الرسل مع أقوامهم ليعتبر به كل من سمعه أو قرأه في عصر التنزيل وما بعده، ولما كان ما هنالك قد ورد في سياق تبليغ خاتم الرسل للدعوة ومحاجة قومه، جعل خطابا خبريا له، لتسليته وتثبيت قلبه من جهة، ولتخويف كفار قريش وإنذارهم من جهة أخرى، وهذا ملاحظ هنا أيضا، ولكن بالتبع للاعتبار بالسنة العامة لا بالقصد الأول.
والمعنى: ذلك شأن الرسل مع أقوامهم الهالكين، وما أرسلنا نبيا في قومه إلا وقد أنزلنا بهم الشدائد والمصائب بعد إرساله أو قبيله، لنعدهم ونؤهلهم بها للتضرع، وهو إظهار الضراعة؛ أي الضعف والخضوع لنا والإخلاص في دعائنا بكشفها، فـ " لعل " تفيد الإعداد للشيء، وجعله مرجوا، ومما ثبت بالتجارب وتقرر عند علماء النفس والأخلاق أن الشدائد وملاحج الأمور مما يربي الناس، ويصلح من فسادهم، فالمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه، والشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها بفقدها، فينقلب شاكرا بعد عودها، بل الكافر بالله عز وجل قد تنبه الشدائد والأهوال مركز الشعور بوجود الرب الخالق المدبر لأمور الخلق في دماغه، وتذكره بما أودع في فطرته من وجود مصدر لنظام الكون وأقداره، كما وقع كثيرا، والآيات في هذا كثيرة تقدم بعضها، وقد روي لنا أن الحرب العظمى قد كان لها هذا التأثير حتى في أقل الناس تدينا، وهم أهل مدينة باريس، فكانت المعابد ترى مكتظة بالمصلين في أثناء شدائد الحرب.
ومن مباحث البلاغة أن نكتة خلو جملة أخذنا أهلها الحالية من الواو، " وقد " هي أن الأصل في المقترنة بهما أن يكون مضمونها مقدما على العامل فيها كالجملة الاسمية، فإذا قلت: ما فعل زيد كذا إلا، وقد أعد له عدته، كان المتبادر أنه أعدها قبل الشروع في فعله لأجله، كقوله تعالى في الجملة الاسمية:
{ { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } [القصص: 59] أي: متلبسون بالظلم من قبل لا حال الإهلاك فقط، وإذا قيل: ما فعله إلا أعد له عدته شمل إعدادها قبله لأجله وهي الحال السابقة، وإعدادها عند الشروع فيه وهي الحال المقارنة، بل هذه المتبادرة إلى الذهن هنا، كقولك: ما سألته إلا أجابني؛ أي: عند السؤال، ولا يصح أن تقول: إلا وقد أجابني، ويصح أن تقول: ما سألته إلا وقد أذن لي؛ أي: قبل السؤال.
فإن قلنا: إنه يتعين أن تكون الحال مقارنة في الآية، اقتضى ذلك أن يكون ما أفادته هي وما بعدها من الابتلاء بالسيئة ثم بالحسنة ثم بما يترتب عليها من الكثرة وكفر النعمة واقعا كله بعد إرسال الأنبياء وفي عهدهم، وهو قد يصدق في قوم نوح دون من بعده فلذلك قلنا: إنها تشمل الحال السابقة والمقارنة، فليتأمل فإننا لم نر لأحد بحثا في هذه المسألة، ولكن الإمام عبد القاهر الجرجاني حقق أن الحال المفردة تفيد المقارنة، والجملة الحالية تفيد سبق مضمونها، وفرق بعض الفقهاء بين قولك: على أن أعتكف صائما، وقولك: على أن أعتكف وأنا صائم، وقد بينا هذا في التفسير:
{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا } [النساء: 43] الآية: (فراجعه في ص 92 وما بعدها ج 5 ط الهيئة).
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } أي: ثم بلوناهم بضد ذلك، فجعلنا الحالة الحسنة في مكان الحالة السيئة كاليسر بعد العسر، والغنى في مكان الفقر، والنصر عقب الكسر، { حتى عفوا } أي: كثروا ونموا، كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: وهو من: عفا النبات والشحم والشعر ونحوه إذ كثر، وله شواهد عن العرب، وذلك أن اليسر والرخاء سبب لكثرة النسل وبه تتم نعم الدنيا على الموسرين.
ومن الشواهد على هذا الابتلاء في القصص التي قفى عليها بهذه العبر قول هود عليه السلام لقومه:
{ { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } [الأعراف: 69] وقول صالح عليه السلام لقومه: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [الأعراف: 74]. وقول شعيب عليه السلام لقومه: { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } [الأعراف: 86] ولكن لم تزد الآلاء هؤلاء الكافرين إلا بغيا وبطرا وفسادا في الأرض.
{ وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } أي: وقالوا مع ذلك قولا يدل على فساد فطرتهم، وانطماس بصيرتهم وفقدهم الاستعداد للاتعاظ والاعتبار بأحداث الزمان، وتغير أحوال الإنسان، وتقلب شئون العمران، قالوا: قد مس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر وتناوبهم ما ينفع وما يضر، ونحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم فتلك عادة الزمان في أبنائه، فلا الضراء عقاب من الخالق الحكيم على معاص تقترف ورذائل ترتكب، ولا السراء جزاء منه على صالحات تعمل وفضائل تلتزم، والمراد: أنهم جهلوا سننه تعالى في أسباب الصلاح والفساد في البشر، وما يترتب عليهما من السعادة والشقاء، المعبر عنها بقوله تعالى:
{ { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] فلما ذكرتهم رسلهم بها لم يتذكروا ولم يعتبروا، بل نسوا وأعرضوا وأنكروا.
{ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } أي: فكان عاقبة ذلك أن أخذناهم بالعذاب فجأة، وهم فاقدون للشعور بما سيحل بهم؛ لأنهم كانوا يجهلون سنن الله تعالى في الاجتماع البشري فلا عرفوها بعقولهم، ولا هم صدقوا الرسل في نذرهم، وهذا معنى قوله تعالى في سياق سورة الأنعام الذي ذكرناه آنفا:
{ { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } [الأنعام: 44] وذلك شأن الكافرين والجاهلين، إذا مسهم الشر يئسوا وابتأسوا، وإذا مسهم الخير أشروا وبطروا، فإذا كان ذلك الخير قوة وسلطة بغوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل.
أصاب أهل بيت في إحدى المدن السورية نفحة من جاه الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي أحد المقربين من السلطان عبد الحميد في عصره، فنهبوا بجاهه الأموال، وانتهكوا الأعراض، وبغوا في الأرض الفساد، فكنا نتحدث مرة في أمرهم فقلنا: ألم يكن خيرا لهؤلاء لو اغتنموا هذه الفرصة باصطناع الناس بالمعروف وعمل البر النافع للوطن، فإن جاه أبي الهدى ليس له دوام، ونحوا من هذا الكلام، فقال السيد الوالدرحمه الله تعالى: إن أمثال هؤلاء لا يفهمون هذه الحكم ولا يعقلونها، ولقد أصاب والدهم من قبلهم رياسة إدارية صغيرة كواحد منهم فبغى وبطر وتكبر وتجبر وآذى الناس، فنصحت له إذ كان يوادني ويحترمني وذكرته بتغير الأحوال، فقال لي: يا سيد، إن لكل أحد يوما يرقص له فيه الزمان فينبغي له أن يستمتع فيه، ولا يضيع الفرصة على نفسه.
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى:
{ { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } [الإسراء: 83 - 84] وقال: { { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } [الشورى: 48] المراد بالفرح ما كان عن بطر وغرور، وقال: { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } [يونس: 22 - 23] اقرأ تتمة الآية وما بعدها.
وأما المؤمنون بالله، وما جاء به رسله حقا فهم الذين تكون الشدائد والمصائب تربية لهم وتمحيصا، كما تكون للكافرين عقابا وإبلاسا، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه، أظهرها بيانه إياه بالتفصيل في قصة أحد من سورة آل عمران: إذ قضت حكمته بأن يقصر المسلمون في سبب من أسباب النصر في الحرب فيظهر عليهم المشركون، فينزل تلك الآيات الحكيمة المبينة للحقائق، وسنن الاجتماع في الحروب والشدائد التي أولها:
{ { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا } [آل عمران: 137] إلى قوله: { { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] ومنها قوله: { { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران: 140] ولكن شأن المؤمن أن يعرف هذه المداولات بأسبابها وحكمها، ويتحرى الاتعاظ، وتربية نفسه بها، لا كما يراها الكافرون والجاهلون بظواهرها وصورها، والآيات التي بعد ما أشرنا إليه منها تتمة وإيضاح لها، فيراجع تفسيرها في الجزء الرابع من التفسير.
وفي معناها أحاديث كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" رواه أحمد ومسلم من حديث صهيب الرومي ـ رضي الله عنه ـ.
فإن قيل: إننا نرى غير المسلمين يعلمون في هذا العصر ما لا يعلم المسلمون من هذه السنن الاجتماعية التي أرشد إليها القرآن، ويستفيدون منها عبرا وتقوى للمضار، يظهر أثرها باستعدادهم للمصائب قبل وقوعها، حتى لا تأخذهم بغتة، وحتى يتلافوا شرورها بعد وقوعها بقدر الطاقة، ونرى أكثر المسلمين جاهلين وغافلين عن ذلك، وقد فتن بعضهم بهؤلاء الإفرنج وحسبوا أنهم لا يكونون مثلهم في استمتاعهم واستعدادهم لدفع الشدائد، والاستفادة من الأحداث والوقائع، إلا إذا تركوا الإسلام ونبذوا هداية القرآن!! كما فتنوا هم بالمسلمين باحتقارهم لدينهم تبعا لاحتقارهم لهم، وطعنا فيه بما يظنون من تأثيره في إذلالهم وإضعافهم، فما قولك في ظلم الفريقين له، وفي انتهاء الحرب العامة الأخيرة باستيلاء غير المؤمنين على أقطار عظيمة من بلاد المسلمين؟ وكون أشد أهل هذه الأقطار استسلاما للذل وخضوعا للقهر، هم الذين يدعون أنهم أصح إيمانا، وأحسن إسلاما؟ حتى كان ذلك فتنة لبعض زعماء شعب سلم من الهلاك بعد أن كاد يحاط به، فظنوا أن التقيد بالإسلام سبب الهلكة والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وأن في الانسلال منه المنجاة وارتقاء المملكة؟!
قلنا: إننا كشفنا أمثال هذه الشبهات في تفسير كثير من الآيات، وفي غير التفسير من المنار، وبينا مرارا أن المسلمين قد تركوا هداية القرآن في حكوماتهم ومصالحهم العامة، وفوضوا أمورهم إلى حكامهم الذين يندر أن يوجد منهم من له إلمام بتفسيره أو علم السنة، حتى من سلموا لهم بمنصب خلافة النبوة، كما تركوا هداية الكتاب والسنة في أعمال الأفراد، فأكثرهم لا يعرف من دينه إلا ما يسمعه ويراه ممن يعيش معهم من قومه، وفيه الحق والباطل والسنة والبدعة، وأقلهم يتلقى عن بعض الشيوخ بعض كتب الكلام الجدلية التي ألفت الرد على فلسفة نسخت وبدع باد أهلها، وكتب الفقه التقليدية الخالية من جل هداية القرآن والسنة في مثل موضوع الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، وما أشرنا إليه في هذا التفسير من آيات الشواهد، حتى بلغ الجهل من المسلمين في أم المسائل الخاصة بحياتهم السياسية التي هي مناط دولتهم، وبقاء ملكهم أو زواله، وهي مسألة الإمامة العظمى، أن يكتب الأفراد والجماعات من علمائهم فيها ما هو مخالف لجميع أئمتهم ومذاهبهم، ولإجماع سلفهم على تهافت ظاهر، واختلاف فاضح.
على أن العلماء المتقدمين قد قصروا في هذه المسألة، وهم الذين كان العلم صفة من صفاتهم، وملكة من ملكاتهم لا ورقة شهادة يحملونها ممن سبق الإجماع على أن مثلهم من المقلدين لا يعد عالما في خاصة نفسه، حتى يعتد بشهادته لغيره، بله ما عرف عن بعضهم من شهادة الزور وقول الكذب وأكل السحت، وقد استسفر بعض مجاوري الأزهر المقدمين لامتحان شهادة العالمية واحدا منهم لعرض الرشوة على الأستاذ الإمام ـرحمه الله تعالى ـ ليساعدهم في الامتحان فضربه الأستاذ ـرحمه الله ـ بيديه، ورفسه برجليه، وقال له: يا عدو الله أتريد أن أغش المسلمين بك وبأمثالك من الجاهلين بعد هذه الشيبة وانتظار لقاء الله؛ فأكون ممن يشترون بآيات الله ثمنا قليلا؟ ولو كنت ممن يطيبهم المال ويحفلون بجمعه ولو من الحلال، لكنت من أغنى الأغنياء؟
ولما كان القرآن هو الذي هدى المسلمين إلى أنواع العلم، وأعطاهم الحكمة والحكم كان تركهم لهدايته هو الذي سلبه ذلك حتى انقلب الأمر، وانعكس الوضع، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، كما صح في الحديث، فالسواد الأعظم الجاهل اتبع سنن أهل الكتاب في شر ما كانوا عليه في طور جهلهم من الخرافات، وابتداع الاحتفالات، وتقليد الآباء والأجداد، واتخاذ الأرباب والأنداد، كإعطاء حق التحريم والتحليل للأحبار والرهبان، وطلب النفع، ودفع الضر من دجالي الأحياء، وقبور الأموات، فغشيهم ما غشي أولئك من ظلمات الجهل، وجعل الدين عدوا للعلم والعقل، والنابتة العصرية المتفرنجة اتبعت سنن المرتدين الفاسقين منهم في شر ما صاروا إليه من طور فساد حضارتهم، وقلدوهم حتى فيما لا ينطبق على أحوالهم ومصالحهم، كذلك ضل الفريقان عن هداية القرآن، واشتركا في إضاعة ما بقي من ملك الإسلام.

لا عالم الشرق بدينه ولا مقتبس العلم من الغرب هدى

وأما الإفرنج، فهم وإن كانوا على علم واسع بسنن الله في أحوال البشر وسائر أمور الكون، قد نالوا به ملكا عظيما في الأرض، فأكثرهم يجهل مصدر هذه السنن وحكم الله تعالى فيها، ولا يعتبرون حق الاعتبار بما تعقب الشرور والمعاصي من الفساد في الأرض، فهم كأقوام أولئك الرسل الذين لم تفدهم النعم شكر الرب المنعم، ولم تفدهم النقم تقوى الرب المنتقم، فقد استعملوا نعمه بالعلوم والفنون وتسخير قوى العالم لاستعباد الضعفاء، والسرف في فجور الأغنياء، والتقاتل على السلطان والثراء؛ ولذلك سلط الله بعضهم على بعض، وصدق عليهم قوله عز وجل: { { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } [الأنعام: 65] كما بيناه في تفسيرها (ص 408 وما بعدها ج 7 ط الهيئة).
فعلم بما ذكر وبغيره أن العلم بسنن الاجتماع والعمران لا يغني عن هداية الدين التي توقف أهواء البشر ومطامعهم أن تجمح إلى ما لا غاية له من الشر، ولولا أن عند بعض أمم أوربة بقية قليلة منها تتفاوت في أفرادهم قوة وضعفا لحشرتهم المطامع والأحقاد صفا صفا، فدكوا معالم أرضهم التي بلغت منتهى العمران دكا دكا، فجعلوها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، بل لجعلوها بعد دك صروحها وهادا عميقة، ومهاوي سحيقة، بقذائف المدافع الضخمة التي تشق الأرض شقا، وتسحق ما فيها سحقا، على أنهم قد شرعوا، فإما أن يجهزوا وإما أن ينزعوا.
قال تعالى في سورة هود:
{ فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } [هود: 116 - 117] القرون: هي الأجيال والشعوب، وأولو بقية: أصحاب بقية من دين وتقوى وعقل وحكمة، روى ابن مردويه، عن أبي بن كعب، قال: أقرأني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية } - وأحلام - { ينهون عن الفساد في الأرض } " والأحلام: العقول الراجحة.
والمراد من التحضيض في الآية الأولى النفي؛ أي: أنه كان ينبغي أن يكون في القرون الذين كانوا قبل ظهور الإسلام بالإصلاح العام أصحاب بقية من دين موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء أو حكماء العقلاء، الذين فسر بهم الآمرون بالعدل في قوله تعالى:
{ { ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } [آل عمران: 21] ولكن لم يكن ذلك إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الأكثرون ما أترفوا فيه من الشهوات واللذات، وكانوا ظالمين لأنفسهم وللناس؛ أي: أزال الله ملكهم بظلمهم وبطرهم وتركهم للإصلاح في الأرض، قال مجاهد: في أتباع هذا الإتراف في ملكهم وتجبرهم وتركهم الحق.
ومعنى الآية الثانية: أنه لم يكن من شأن ربك أيها الرسول المصلح ولا من سنته في خلقه أن يهلك العواصم والمدائن بظلم منه أو بشرك من أهلها، والحال أنهم مصلحون في أحكامهم وأعمالهم، وفي تفسير المرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سئل عن قوله تعالى: { وأهلها مصلحون } فقال: " وأهلها ينصف بعضهم بعضا " رواه الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي، عن جرير ـ رضي الله عنه ـ موقوفا أيضا.
وهؤلاء البقية لا تخلو منهم أمة فهم حجة الله على الأقوام، ومتى قلوا في أمة غلب عليها الفساد، وقرب انتقام الله منها، وقد شهد القرآن بوجود أناس منهم كانوا في أهل الكتاب، وهم يقلون في أوربة عاما بعد عام، وقد كان من أصحاب الأحلام منهم الفيلسوف هربرت سبنسر الإنجليزي الذي نهى اليابانيين عن الاستعانة بقومه الإنكليز على إصلاح بلادهم فيها، وقال لهم: إنهم إذا دخلوها لا يخرجون منها، وقال الأستاذ الإمام حين تلاقيا بمدينة بريتن (في صيف سنة 1321 - 10 أغسطس سنة 1903) ما ترجمته: محي الحق من عقول أهل أوربة، واستحوذت عليها الأفكار المادية فذهبت الفضيلة، وهذه الأفكار المادية ظهرت في اللاتين أولا فأفسدت الأخلاق، وأضعفت الفضيلة، ثم سرت عدواها منهم إلى الإنكليز، فهم الآن يرجعون القهقري بذلك، وسترى هذه الأمم يختبط بعضها ببعض وتنتهي إلى حرب طامة ليتبين أيها الأقوى، فيكون سلطان العالم.
قال له الإمام: إني آمل أن يحول دون ذلك همم الحكماء (مثلكم) واجتهادهم في تقرير مبادئ الحق والعدل ونصر الفضيلة.
قال الفيلسوف: وأما أنا فليس عندي مثل هذا الأمل، فإن هذا التيار المادي لا بد أن يبلغ مده غاية حده.
وأقول: إنني ذاكرت في هذا المعنى سياسيا أوربيا في جنيف من بلاد سويسرة، فرأيته يعتقد اعتقاد سبنسر، بل أخبرني أن كثيرا من عقلاء أوربة يعتقدون أن فساد الأخلاق بالترف الذي أهلك الأمم الكبرى كاليونان والرومان والفرس والعرب قد أوشك أن يقضي على أوربة، وستهلك بالحرب التي تلي هذه الحرب الأخيرة، وما هي ببعيدة، ونصح لنا بألا نقلد أوربة في مدنيتها المادية، وأن نحافظ على آداب ديننا وفضائله، وأن نجمع كلمتنا، ونجعل الزعامة فينا لأهل الرأي والفضيلة منا، ونتربص الدوائر بالأوربيين المعتدين علينا.
وجملة القول: أن الإنسان حيوان إنسي وحشي بجسده، وملك روحاني بعقله وروحه، وأنه إنما يكمل بكمال العقل والروح، ويعتدل بالتوازن بينهما، ولا يكون هذا إلا بهداية الإسلام الجامع لكل ما يحتاج إليه البشر من ذلك، ولهذا نصحنا لزعماء الترك المفتونين بمدينة الإفرنج المادية لجهلهم بما يفتك بها من دود الفساد بأن يقيموا حكم الإسلام وإصلاحه الذي يكفل لهم القوة المادية والعمران، ويقيهم غوائل هذا الفساد كالبلشفية التي ثلت عرش قيصرية الروسية، فقلنا في فاتحة الكتاب الذي صنفناه في مسألة الخلافة - أو - الإمامة العظمى ما نصه:
" أيها الشعب التركي الحي! إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو الذي يمكن أن يحيي مدينة الشرق، وينقذ مدينة الغرب، فإن المدينة لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا الإسلام، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من التوازن بين بقايا الفضائل المسيحية مع التنازع بين العلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فإن الأمم لا تنسل من فضائل دينها، بمجرد طروء الشك في عقائده على أذهان بعض الأفراد والجماعات منها، وإنما يكون ذلك بالتدريج في عدة أجيال، وقد انتهى التنازع، بفقد ذلك التوازن، وأصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح روحي مدني ثابت الأركان، يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الأغنياء للفقر، وخطر البلشفية على الأغنياء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتحقق الأخوة العامة بين الناس، ولن يكون ذلك إلا بحكومة الإسلام، التي بيناها بالإجمال في هذا الكتاب، ونحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إذا وفق الله للعمل بها ".
" أيها الشعب التركي الباسل، إنك اليوم أقدر الشعوب الإسلامية على أن تحقق للبشر هذه الأمنية، فاغتنم هذه الفرصة؛ لتأسيس مجد إنساني خالد، لا يذكر معه مجدك الحربي التالد، ولا يجرمنك المتفرنجون على تقليد الإفرنج في سيرتهم، وأنت أهل لأن تكون إماما لهم بمدنية خير من مدنيتهم، وما ثم إلا المدنية الإسلامية الثابتة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدينية، فلا تزلزلها النظريات التي تعبث بالعمران، وتفسد نظم الحياة الاجتماعية على الناس ".
نصحنا للشعب التركي بهذا، ولكن زعماءه الكماليين اليوم كزعمائه الاتحاديين من قبلهم قد فتنوا بهذه المدنية المادية، وجهلوا كنه الإسلام والحكومة الإسلامية، وقد أعذرنا إليهم بيانها، وأنذرناهم عذاب الله بإهمالها، فتماروا بالنذر، وطفقوا يطمسون ما بقي من الإسلام في حكومتهم وأمتهم، وسنرى ما يكون من أمرهم، وقد ظهر ما كان مستورا من فساد سريرتهم، ونسأله تعالى لنا ولهم صلاح الحال، وحسن المآل.
[