التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
٣٦
لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٣٧
-الأنفال

تفسير المنار

نزل هذا في استعداد قريش لغزوة بدر، وما سيكون من استعدادهم لغيرها بعدها. ويشمل اللفظ بعمومه ما سيكون مثل ذلك من الكافرين في كل زمن. ذكر رواة التفسير عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: أن هذه الآية الأولى نزلت في أبي سفيان، وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر، ومن إعانته على ذلك في غزوة أحد وغيرها ففي بعض الروايات أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال، فجاءوا كل من كان لهم تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم، فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا - ففعلوا. وقال سعيد بن جبير: إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب. وفيهم قال كعب بن مالك:

وجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن عصابة ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

وقال الحكم بن عتيبة في الآية: نزلت في أبي سفيان، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا، هذا على ما كان معروفا من بخل أبي سفيان كما قالت زوجته يوم المبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } أي عن الإسلام واتباع خاتم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - { فسينفقونها } في سبيل الشيطان صدا وفتنة وقتالا ثم تكون عليهم حسرة وندما وأسفا، لذهابها سدى، وخسرانها عبثا، إذ لا يعطيهم ممن أراد الله هدايتهم أحد { ثم يغلبون } المرة بعد المرة، وينكسرون الكرة بعد الكرة { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } أي: يساقون يوم القيامة إليها دون غيرها كما أفاده تقديم الظرف على متعلقه. هذا إذا أصروا على كفرهم حتى ماتوا عليه، فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما. ومن العبرة في هذا للمؤمنين أنهم أولى من الكفار ببذل أموالهم وأنفسهم في سبيل الله; لأن لهم بها من حيث جملتهم سعادة الدارين، ومن حيث أفرادهم الفوز بإحدى الحسنيين، هكذا كان في كل زمان قام المسلمون فيه بحقوق الإسلام والإيمان، وهكذا سيكون، إذا عادوا إلى ما كان عليه سلفهم الصالحون. والكفار في هذا الزمان ينفقون القناطير المقنطرة من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العوام، بجهاد سلمي، أعم من الجهاد الحربي، وهو الدعوة إلى أديانهم، والتوسل إلى نشرها بتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم. والمسلمون مواتون، يرسلون أولادهم إليهم ولا يبالون ما يعملون
{ { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } [المائدة: 58].
{ ليميز الله الخبيث من الطيب } يعني أن الله تعالى كتب النصر والغلب والفوز لعباده المؤمنين المتقين، والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكافرين للصد عن سبيل الله الذي استقاموا عليه، وجعل هذا جزاء كل من الفريقين ما داما على حالهما، فإذا غيرا ما بأنفسهما غير الله ما بهما. جعل هذا جزاءهما في الدنيا، وجعل جهنم مأوى للكفار وحدهم في الآخرة؛ لأجل أن يميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، فلن يجتمع في حكمته سبحانه الضدان، ولا يستوي في جزائه النقيضان
{ { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله ياأولي الألباب } [المائدة: 100] الخبيث والطيب المعنويان في حكم العقلاء والفضلاء، كالخبيث والطيب الحسيين في حكم سليمي الحواس ولا سيما الشم. وقد سبق لنا تحقيق هذا المعنى في تفسير هذه الآية من سورة المائدة، وفي تفسير { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } [آل عمران: 179].
قرأ حمزة والكسائي (يميز) بالتشديد من التمييز، وقرأها الجمهور بالتخفيف. والمراد بالميز والتمييز ما كان بالفعل والجزاء كما قلنا لا بالعلم فهو بكل شيء عليم، وهذا التمييز الإلهي بين الأمرين في الاجتماع البشري يوافق ما يسمى في عرف هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي، وبقاء أمثل الأمرين المتقابلين وأصلحهما. وسنن الله في الدنيا والآخرة واحدة كما قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى - وإن جهل ذلك الخبيثون المتكلمون على الشفاعات والمغترون بالألقاب الدينية من كل ملة وأمة. فالخبيث في الدنيا خبيث في الآخرة لا ينفعه شيء، ولذلك قال: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا } أي ويجعل سبحانه الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات، وانضمام المتناسبات، وائتلاف المتعارفات، واختلاف المتناكرات، يقال: ركمه إذا جمع بعضه إلى بعض، ومنه
{ { سحاب مركوم } [الطور: 44] { فيجعله في جهنم } يجعل أصحابه فيها يوم القيامة { أولئك هم الخاسرون } التاموا الخسران وحدهم؛ لأنهم خسروا أموالهم وأنفسهم.
جاء مصر القاهرة من عهد قريب صاحب صحيفة سورية دورية من دعاة الإلحاد المتفرنجين، فأقام فيها أياما قلائل استحكمت فيها له مودة أشهر ملاحدة مصر، ودعاة الزندقة والإباحة فيها، فعاد ينوه بهم، وينشر دعايتهم، ويزعم أنهم دعاة الترقي والعمران، بالدعاية إلى تجديد ثقافة لمصر تخلف ما كان لها من ثقافة العرب والإسلام، والحق أن هؤلاء كلهم هدامون للعقائد والفضائل وجميع مقومات الأمة ومشخصاتها، وليسوا بأهل لبناء شيء لها، إلا إذا سميت الزندقة، وإباحة الأعراض، وتمهيد السبيل لاستعباد الأجانب لأمتهم بناء مجد لها. وقد ذكرني ذلك رجلا من قرية صالحة مر به رجل من معارفه كان في إحدى المدن فطفق يسأله عن المساجد ومدارس العلم فيها، وعن الصالحين من أهلها، فأجابه الرجل: أعن هذا تسأل مثلي؟ سلني عن أهل الحانات والمواخير، فإنني بها وبهم عليم خبير
{ { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } [الأنعام: 129].