التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٥٠
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٥١
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٥٢
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٥٣
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
٥٤
-الأنفال

تفسير المنار

{ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } هذا بيان لبعض مضمون قوله تعالى في الآية التي قبل الأخيرة: { والله شديد العقاب } ومعناه: ولو رأيت أيها الرسول - أو الخطاب لكل من سمعه أو يتلوه - إذ يتوفى الذين كفروا من قتلى بدر وغيرهم (ومعلوم أن " لو " الامتناعية ترد المضارع ماضيا) ملائكة العذاب حالة كونهم { يضربون وجوههم وأدبارهم } أي: ظهورهم وأقفيتهم بجملتها - وهو ضرب من عالم الغيب بأيدي الملائكة، فلا يقتضي أن يراه الناس الذين يحضرون وفاتهم، كما أنهم لا يسمعون كلامهم عندما يقولون لهم: { وذوقوا عذاب الحريق } - لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما، يرد الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه، إذا هو علم عاقبة أمره.
والمراد بعذاب الحريق عذاب النار الذي يكون بعد البعث. وروي أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر: كان المؤمنون يضربون ما أقبل من المشركين من وجوههم، والملائكة تضرب أدبارهم من ورائهم. وقد علمت مما تقدم من التحقيق أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر، وإنما كانت مثبتة للمؤمنين، فلا تغرنك الروايات، ومنها حديث الحسن البصري عند ابن جرير قال: قال رجل: يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك. فقال: " ذلك ضرب الملائكة " ولعلك تعلم أن مراسيل الحسن البصريرحمه الله عند المحدثين كالريح أي لا يقبض منها على شيء.
ويؤيد القول الظاهر بأن هذا في عذاب الآخرة بقية قولهم لهم: { ذلك بما قدمت أيديكم } أي: ذلك العذاب الذي ذقتم وتذوقون بسبب ما كسبت أيديكم في الدنيا فقدمتموه إلى الآخرة من كفر وظلم، وهو يشمل القول والعمل سواء كان من عمل الأيدي أو الأرجل أو الحواس أو تدبير العقل - كل ذلك ينسب إلى عمل الأيدي توسعا وتجوزا، وأصله أن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.
{ وأن الله ليس بظلام للعبيد } أي: وبأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد فيكون ذلك العذاب ظلما منه على تقدير عدم وقوع سببه من كسب أيديكم، ولكن سبب ذلك منكم ثابت قطعا، كما أن وقوع الظلم منه لعبيده منتف قطعا، فتعين أن تكونوا أنتم الظالمين لأنفسكم قطعا، فلوموها فلا لوم لكم إلا عليها.
وفي الحديث القدسي الذي يرويه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " إلخ. رواه مسلم من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ والحق أن الظلم حقيقة، وأنه تعالى منزه عنه كتنزهه عن سائر النقائص، وما ينافي كمال الربوبية والألوهية، لا لاستحالة وقوعه منه عقلا؛ لأن معناه التصرف في ملك الغير، ولا ملك لغيره تعالى - كما قالت الأشعرية - وهو خطأ في تعريف الظلم، وخطأ في أصل المسألة بيناه من قبل هذا التعبير بعينه
{ { وذوقوا عذاب الحريق } [آل عمران: 181] إلى { { للعبيد } [آل عمران: 182] قد تقدم في سورة آل عمران فيراجع تفسيره في (ص 217 و218 ج 4 ط الهيئة) ومنه بيان نكتة نفي المبالغة في الظلم مع أن الظلم قليله وكثيره لا يقع منه تعالى، ويراجع في بيان هذا أيضا تفسير { { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [النساء: 40] في (ص85 - 91 ج 5 ط الهيئة).
ونكتة هذا التكرار اللفظي بيان أن هذه الحجة الإلهية تقام في الآخرة على جميع الكفار المجرمين بهذا القول، فليست خاصة بحال أناس أو قوم دون آخرين، وما سبق في سورة آل عمران ورد في اليهود الذين عاندوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجحدوا نبوته، كما آذوا النبيين قبله، وكانوا يقتلونهم بغير حق، على ما كان من بخلهم وقول بعضهم:
{ { إن الله فقير ونحن أغنياء } [آل عمران: 181] ويتضح هذا المعنى بما بعده وهو.
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم } أي: دأب هؤلاء وشأنهم الثابت لهم - والدأب الاستمرار على الشيء - كدأب آل فرعون والذين من قبلهم من الفراعنة، وسائر الملوك العتاة، وأقوام الرسل في التاريخ، وقد فسره بقوله تعالى: { كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم } ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين بهم عليهم، على ما بين الفريقين من تفاوت في العدد والعدد وسائر الأسباب، فكما كان دأبهم واحدا كانت سنة الله فيهم واحدة، فنصره تعالى لرسوله، والمؤمنين في بدر هو مقتضى تلك السنة { إن الله قوي شديد العقاب } لمن يستحق عقابه، ولكن لكل شيء عنده أجلا. قال ـ صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه - من حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ.
وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة آل عمران إلا أنه قال فيها:
{ { كذبوا بآياتنا } [آل عمران: 11] والنكتة في هذا التكرار بيان أنه سنة الله فاطرد. والفرق بين الموضعين أن آية آل عمران في الكفار المغرورين بكثرة أموالهم وأولادهم، المحتقرين للرسل وأتباعهم من ضعفاء المؤمنين بفقرهم وضعف عصبيتهم النسبية، وأما آية الأنفال فهي في الكفار المغرورين بقوتهم وبأسهم، المحتقرين للمؤمنين بفقد ذلك وهي سابقة في النزول.
{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } أي ذلك الذي ذكر من أخذه تعالى لقريش بكفرها لنعم الله عليها، التي أتمها ببعثه خاتم رسله منهم، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم، مؤيد بأمر آخر يتم به عدله تعالى وحكمته، وهو أنه لم يكن من شأنه، ولا مقتضى رسالته أن يغير نعمة ما أنعمها على قوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة وأن الله سميع عليم سميع لأقوالهم عليم بأحوالهم وأعمالهم محيط بما يكون من كفرهم للنعمة فيعاقبهم عليه.
فصل في بيان سنته تعالى في تغيير أحوال الأمم
هذا بيان لسنة عظيمة من أعظم سنن الله تعالى في نظام الاجتماع البشري، يعلم منها بطلان تلك الشبهات التي كانت غالبة على عقول الناس من جميع الأمم، ولا يزال جماهير الناس يخدعون بها، وهي ما يتعلق بنوط سعادة الأمم وقوتها وغلبها وسلطانها بسعة الثروة، وكثرة حصى الأمة، كما قال الشاعر العربي:

ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر

وكان من غرورهم بها أن كانوا يظنون أن من أوتيها لا تسلب منه، وأنه كما فضله الله على غيره بابتدائها، كذلك يفضله بدوامها { { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } [سبأ: 35] وقد بينا غرور البشر بهذه الظواهر في مواضع من هذا التفسير. ثم ظهر أقوام آخرون يرون أن الله تعالى يحابي بعض الأمم والشعوب على بعض بنسبها، وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوة أو ما دونها، فيؤتيهم الملك والسيادة والسعادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إلى مللهم ولا سيما إذا كانوا من آبائهم، كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وكما فعل الذين اتبعوا سننهم من النصارى ثم المسلمين.
بالغرور في الدين، ودعوة اتباع النبيين، وبكرامات الأولياء والصالحين، وإن كانوا لهم من أشد المخالفين. فبين الله تعالى لكل قوم خطأهم بهذه الآية، وبما سبق في معناها، وهو أعم منها في سورة الرعد من قوله:
{ { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] وأثبت لهم أن نعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشئون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الرب الكريم لينتزعها منهم انتزاعا بغير ظلم منهم ولا ذنب، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتب عليها من محاسن الأعمال، غير الله عندئذ ما بأنفسهم، وسلب نعمته منهم، فصار الغني فقيرا، والعزيز ذليلا، والقوي ضعيفا. هذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم، وهو كذلك في الأفراد إلا أنه غير مطرد فيهم، لقصر أعمار كثير منهم دون تأثير التغيير حتى يصل إلى غايته.
إنَّ للعقائد الدينية الصحيحة والخرافية آثارا في وحدة الأمة وتكافلها وقوة سلطانها أو ضعفه، ولا يظهر الفرق بينهما في الوجود إلا بوقوع التنازع بين أمتين مختلفتين فيها. وإن للأخلاق الشخصية التي يتحقق بكثرة بعضها ما يسمى خلقا للأمة أو الشعب مثل ذلك في حكمها وسلطانها وفي ثروتها وعزتها أيضا، ويظهر ذلك في سيرة كل أمة ودولة ذات تاريخ معروف.
ومن اطلع على كتب (الدكتور غوستاف لوبون) الاجتماعي الكبير في علم الاجتماع يجد فيها شواهد كثيرة على هذه القواعد أظهرها ما يبينه من الفروق بين فرنسة وإنكلترة - وبين الشعوب اللاتينية والشعوب " الأنجلوسكسونية " عامة - في الأخلاق، وما لذلك من الآثار في حياة الفريقين الاجتماعية والسياسة والاستعمارية والتجارية.
ومن كلامه في تأثير الأخلاق في ترقي الأمم وتدليها وقوتها وضعفها على الإطلاق، قوله في الفصل الثالث من كتابه (روح الاشتراكية) وموضوعه (نفسية الشعوب): وأذكر هنا ما أشرت إليه كثيرا في كتبي الأخيرة، وهو أن الأمم لا تنحط وتزول إذا تناقص ذكاء أبنائها، بل إذا سقطت أخلاقها.
هذه سنة طبيعية جرت أحكامها على اليونان والرومان، وأخذت تجري في هذه الأيام أيضا، لا يزال أكثر الناس لا يفقهون هذا القول، ويجادلون في صحته، غير أنه أخذ ينتشر، وقد رأيته مفصلا في كتاب وضعه حديثا الكاتب الإنكليزي (المستر بنيامين كيد) ولا أرى لتأييد قضيتي أفضل من اقتباس بعض عبارات عنه بين فيها - منصفا غير محاب - الفرق بين الخلق (الأنجلوسكسوني) والخلق الفرنسوي ونتائج هذا الفرق اهـ. (ص104 و105) من الترجمة العربية.
ثم أورد شواهد منه على ما أشار إليه من مراده، وبيان تفوق الإنكليز على الفرنسيس بأخلاقهم، فإن فساد الأخلاق الذي أهلك الأمم التاريخية الشهيرة كالفرس واليونان والرومان والعرب قد دب إلى الإفرنج، وكان بدء فتكه باللاتين ولا سيما الفرنسيس منهم، فقل نسلهم، وصاروا يرجعون القهقري أمام الإنكليز وإخوانهم الأميركانيين في كل شيء، دع الألمان الذين فاقوا الفريقين.
وقد دب هذا الفساد الأخلاقي إلى الإنكليز أيضا كما صرح بذلك أعظم فلاسفتهم (هربرت سبنسر) الشهير لأستاذنا الشيخ (محمد عبده) وسبق نقله في هذا التفسير من أن الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين في أوربة قد دبت إلى الإنكليز، وأخذت تفتك بأخلاقهم، وأنها ستفسد أوربة كلها.
ومن الغريب أن تكون هذه المسألة مما يغفل عنه أكثر المتعلمين في هذا العصر بعد اتساع نطاق علم الاجتماع، وكثرة المصنفات فيه، وكثرة ما يكتب في الصحف العامة في موضوع الأخلاق، وتأثيرها في أحوال الأفراد والأمم، حتى قال غوستاف لوبون: أكثر الناس لا يفقهون هذا القول بل يجادلون في صحته، فالمسألة على كونها صارت معروفة للجماهير لا تزال موضع مراء وجدال عند الأكثرين؛ لأنها من مسائل العلم الصحيح العالي التي لا يفقهها إلا أصحاب البصيرة النافذة، والمعرفة الممحصة. ولو فقهها الجمهور لكان لها الأثر الصالح في أعماله. وإننا لنرى الألوف في بلادنا يتمثلون بقول أحمد شوقي بك أشهر شعراء العصر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

يتمثلون به معجبين؛ لأنهم يفهمون مدلول ألفاظه، وشرف موضوعه، ولكن أكثرهم لا يفقهون حكمته التفصيلية العملية، وماذا يكون من تأثير فساد كل خلق من أخلاق الفضائل في أعمال الأفراد، ثم في ضعف الأمة وانحلالها - ذلك الفقه الذي حققنا معناه في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف: { { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } [الأعراف: 179] فراجعه مع بيان مراتب السماع والفهم من تفسير الآيات 20 - 23 من هذه السورة.
إن من الأخلاق ما لا يجادل أحد في حسنه في نفسه، وفي استقامة المعاملات العامة في الأمة به كالصدق والأمانة والعدل، وإن امترى كثيرون أو ماروا في كونها دعائم أسباب النجاح والفلاح في المعيشة أو الترقي في مناصب الحكومة، ولكن قلما يجهل أحد من أذكياء هؤلاء الممترين في فساد الجماعة أو الشركة أو الحكومة التي يرتقي العامل فيها بالكذب، والخيانة والظلم، وإذا بلغ قوم هذه الغاية من الفساد ألفوه وعدوه من ضروريات الحياة، ولم تعد قلوبهم تتوجه إلى الخروج منه بإصلاح ما بأنفسهم، وإنما يتلافون من شره ما استطاعوا ببعض النظم والقوانين الصورية.
وإن من الأخلاق الكريمة ما صار الفاسدون المفسدون يجادلون في حسنه، وكونه من الفضائل التي يصلح بها حال الأفراد، ويرتقي به مجموع الأمة كالحياء والرحمة والعفة. يقولون: إن الحياء ضعف في النفس، وكذلك الرحمة. وهذا خطأ لا محل هنا لبيانه، وهو قديم، وإنما الجديد الذي لم يطرق مسامعنا قبل هذه الأيام هو المراء في فضيلة العفة، فإن دعاة الفساد الذي يسمونه تجديد الأمة قد اقترفوا هذه الجريمة، ولا غرو فإن من أركانه عندهم تهتك النساء، وامتزاجهن بالرجال في الملاعب والمراقص والمسارح والمسابح مواضع السباحة في البحر (فقد كتب أحدهم في بعض الصحف الناشرة لدعايتهم أن العفة يختلف معناها باختلاف معارف الناس وعرفهم وأذواقهم وتقدمهم في الحضارة، ومن ذلك أن المرتقين الآن لا يعدون رقص النساء مع الرجال منافيا للعفة، ولا مخلا بها.
ووثب كاتب آخر منهم وثبة أخرى فقال: إنه قد ظهر في هذا الزمان أن إرخاء العنان للشهوات البدنية لا يضر في الجسد، ولا في النفس، ولا يخل بالآداب، ولا يضعف الأمة عدم التزام الأديان والشرائع فيه - قال المفسد قاتله الله: وقد ثبت هذا بالتجربة في الأمة الأميركانية فظهر به خطأ المتقدمين فيه، وهذا زعم باطل يتقرب به قائله إلى المسرفين من الفساق، ولا يزال الأطباء والحكماء مجمعين على هدم الإسراف في الشهوات لبناء البنية بما يولده من الضعف والأمراض، كما أنه مفسد للآداب والأخلاق.
ما زال البشر يمارون في كل شيء حتى الحسيات والضروريات، وإنما الكلام المقبول في كل موضوع لعلماء أهله، ألم تر أنهم يمارون في مضار شرب الخمر، ويدعون نفعها، والأطباء المحققون يثبتون خلاف ذلك، يثبتون أن إثمها أكبر من نفعها، وأن النفع القليل الخاص ببعض الأحوال المرضية قد يعارضها فيها نفسها من الضرر ما هو أقوى منه، فيجعل ترك التداوي بها أولى إذا وجد أي شيء آخر يقوم مقامها.
إنني ذكرت في فاتحة هذا التفسير من الجزء الأول أن مسلك جريدة العروة الوثقى في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي من طريق إرشاد القرآن، وبيانه لسنن الله تعالى في الإنسان والأكوان قد فتح لي في فهم القرآن بابا لم يأخذ بحلقته أحد من المفسرين المتقدمين، وإنني أختم هذا الفصل الاستطرادي بمقالة من مقالات تلك الجريدة افتتحه أستاذنا محررهارحمه الله بهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، ليكون مصباحا للمفسرين والمرشدين والوعاظ يهتدون بضوئه - وليعلم الفرق بين فهم هذا الإمام وأستاذه الحكيم للقرآن، وبين أفهام المتقدمين الذين كانت حظوظهم من تفسير هذه الآية كتابة سطرين أو بضعة أسطر أكثرها في غير سبيل هدايتها. وهذا نص المقالة:
المقالة الثامنة عشرة
سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين
{ { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد، وأقدر من أوعد؟ هل كذب الله رسله؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه، وسلك بهم طريق الضلال؟ نعوذ بالله ! ! هل أنزل الآيات البينات لغوا وعبثا؟ هل افترت عليه رسله كذبا؟ هل اختلقوا عليه إفكا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها، وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله، أليس قد أنزل القرآن عربيا غير ذي عوج؟ وفصل فيه كل أمر، وأودعه تبيانا لكل شيء؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولا كذابا، ولا أتى شيئا عبثا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض، ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله:
{ { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105] ويقول: { { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون: 8] وقال: { { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [الروم: 47] وقال: { { ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } [الفتح: 28] هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلا، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل، إلا من ضل عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه. هذا عهده إلى تلك الأمة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل الله لمجدها أمدا، ولا لعزتها حدا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبت أقدامها على قنن الشامخات، ودكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر الضاريات، وذابت للرعب منها أعشار القلوب، هال ظهورها الهائل كل نفس، وتحير في سببه كل عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، جماعة قاموا بنصر الله، واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده.
هذه أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر، معوزة من الأسلحة وعدد القتال، فاخترقت صفوف الأمم، واختطت ديارها، لا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم، ولا صدتها قلاع الرومان ومعاقلهم، ولا عاقها صعوبة المسالك، ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية، ولا فعل في نفوسها غزارة الثروة عند من سواها، ولا راعها جلالة ملوكهم، وقدم بيوتهم، ولا تنوع صنائعهم، ولا سعة دائرة فنونهم، ولا عاق سيرها أحكام القوانين، ولا تنظيم الشرائع، ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة. كانت تطرق ديار القوم فيحقرون أمرها، ويستهينون بها، وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدول العظيمة، وتمحو أسماءها من لوح المجد. وما كان يختلج بصدر أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة، وتمكن في نفوسها عقائد دينها، وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها، لكن كان كل ذلك، ونالت تلك الأمة المرحومة على ضعفها ما لم تنله أمة سواها. نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم أجورهم مجدا في الدنيا، وسعادة في الآخرة.
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء مائتي مليون من النفوس وأراضيها آخذة من المحيط الإتلانتيكي إلى أحشاء بلاد الصين - تربة طيبة، ومنابت خصبة، وديار رحبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبا شعبا، ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تسمع، ولا أمر يطاع، حتى إن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة، ويمسون في كربة مدلهمة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلم بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
هذه هي الأمة التي كان الدول العظام يؤدين لها الجزية عن يد وهن صاغرات، استبقاء لحياتهن، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية، يا للمصيبة ويا للرزية ! !.
أليس هذا بخطب جلل، أليس هذا ببلاء نزل، ما سبب هذا الهبوط، وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالعهود الإلهية؟ معاذ الله ! هل نستيئس من رحمة الله، ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله ! هل نرتاب في وعده بنصرنا بعدما أكده لنا؟ حاشاه سبحانه ! لا كان شيء من ذلك ولن يكون، فعلينا أن ننظر لأنفسنا، ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننا متبعة ثم قال:
{ { ولن تجد لسنة الله تبديلا } [الأحزاب: 62].
أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة، حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر، وإشراق البصيرة.
والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة، والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا، وحل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل، ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم، فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها. سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق، وتحديد الآجال.
علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، وتسير أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا، لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان، هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح؟ هل غير الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا، وخالف فينا حكمه، وبدل في أمرنا سنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون، بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر، وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئا، فبدل عزنا بالذل، وسمونا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية. نبذنا أوامر الله ظهريا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة والإنابة إليه.
كيف لا نلوم أنفسنا، ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلها، ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحد منا حراكا؟
هذا العدد الوافر، والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، كل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة، وإن كان غذاؤه الذلة، وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان، تفرقت كلمتنا شرقا وغربا، وكاد يتقطع ما بيننا، لا يحن أخ لأخيه، ولا يهم جار بشأن جاره، ولا يرقب أحدنا في الآخر إلا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة، ولا يمس سواد القلوب؟ هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف؟ فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة؟ هل ظنوا ألا يبتلي الله ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟ ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب؟ هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره، وإعلاء كلمته لا يبخلون في سبيله بمال، ولا يشحون بنفس؟ فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنا، وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟.
إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم - لا يزيدهم ذلك إلا إيمانا وثباتا، ويقولون في إقدامهم:
{ { حسبنا الله ونعم الوكيل } [آل عمران: 173]. كيف يخشى الموت المؤمن، وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه؟ ممتع بالسعادة الأبدية في نعمة من الله ورضوان، كيف يخاف مؤمن من غير الله، والله يقول: { { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175].
فلينظر كل إلى نفسه، ولا يتبع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطابق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين، وما جعله من خصائص الإيمان، فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.
يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يثبت ذلك نص الكتاب العزيز، وإجماع الأمة سلفا وخلفا، فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة، والمتسمون بسمة الإيمان آهلون لكل أرض متمكنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نعرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية؟.
ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إماما لكم في جميع أعمالكم مع مراعاة الحكم في العمل كما كان سلفكم الصالح، ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه:
{ { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } [محمد: 20] ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسر مؤمنا أن يتناوله هذا الوصف المشار إليه بالآية الكريمة؟ أو غر كثيرين من المدعين للإيمان ما زين لهم من سوء أعمالهم، وما حسنته لديهم أهواؤهم: { { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [محمد: 24].
أقول ولا أخشى نكيرا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يراعي في ذلك عذرا ولا علة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق، وعلامة البعد عن الله.
مع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضا يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يخلف لرأيت الحق يسمو، والباطل يسفل، ولرأيت نورا يبهر الأبصار، وأعمالا تحار فيها الأفكار.
وإن الحركة التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشرنا بأن الله تعالى قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبا، فإن فعل المسلمون، وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم، صحت لهم الأوبة، ونصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين، فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله: جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل و
{ { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } [الكهف: 17].
أقول: رحم الله محمد عبده كاتب هذا الخطاب، ورحم الله السيد الأفغاني الذي فتح له ولنا هذا الباب، فهكذا فليكن التذكير بالقرآن:
{ { وما يذكر إلا أولو الألباب } [البقرة: 269].
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم } الكلام في هذا كالكلام في نظيره، من حيث إنه شاهد حق واقع فيما تقدم من سنة الله تعالى في الأمم والدول، وإنما يخالفه في موضوع دأب القوم، وفي الجزاء عليه المشار إليهما فيما اختلف به التعبير من الآيتين، فالآية السابقة في بيان كفرهم بآيات الله، وهو جحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله، ووجوب إفراده بالعبادة إلخ. وفي تعذيب الله إياهم في الآخرة. فتكرار اسم الجلالة فيها يدل على ما ذكرنا؛ لأنه متعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفي الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدئ بالموت وينتهي بدخول النار.
وهذه الآية في تكذيبهم بآيات ربهم من حيث إنه هو المربي لهم بنعمه، ولهذا ذكر فيها اسم الرب مضافا إليهم بدل اسم الجلالة هناك - فيدخل في ذلك تكذيب الرسل ومعاندتهم وإيذاؤهم وكفر النعم المتعلقة ببعثهم والسابقة عليها، وفي الجزاء على ذلك بعذاب الدنيا.
فقوله تعالى:
{ { فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين كقوله في آية العنكبوت: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [العنكبوت: 40].
وحاصل المعنى: أن ما يحفظه التاريخ من وقائع الأمم من دأبها وعادتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض، ومن عقاب الله إياها، هو جار على سنته تعالى المطردة في الأمم، ولا يظلم تعالى أحدا بسلب نعمة، ولا إيقاع نقمة، وإنما عقابه لهم أثر طبيعي، لكفرهم وفسادهم وظلمهم لأنفسهم - هذا هو المطرد في كل الأمم في جميع الأزمنة. وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوي فهو خاص ممن طلبوا الآيات من الرسل، وأنذرهم العذاب إذا كفروا بها ففعلوا.