التفاسير

< >
عرض

كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
٥
يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ
٦
وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ
٧
لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ
٨
-الأنفال

تفسير المنار

تقدم في تفسير قصة البقرة من سورتها أن سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع مخالفة للمعهود في أساليب الكلام من سردها مرتبة كما وقعت، وأن سبب هذه المخالفة أنه لا يقص قصة، ولا يسرد أخبار واقعة; لأجل أن تكون تاريخا محفوظا، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك; لأجل العبرة والموعظة، وبيان الآيات والحكم الإلهية، والأحكام العملية. بدئت قصة البقرة بأمر موسى لقومه بذبح بقرة، وذكر في آخرها سبب ذلك خلافا للترتيب المألوف من تقديم السبب على مسببه كتقديم العلة على معلولها، والمقدمات على نتيجتها. ولكن أسلوب القرآن البديع أبلغ في بابه كما بسط هنالك.
وهاهنا بدئت قصة غزوة بدر الكبرى التي كانت أول مظهر لوعد الله تعالى بنصر رسوله والمؤمنين، والإدالة لهم من أكابر مجرمي المشركين، بذكر حكم الغنائم التي غنمها المسلمون منهم - ويالها من براعة مطلع - مقرونا ببيان صفات المؤمنين الكاملين الذين وعدهم النصر كما وعد النبيين، وهم الذين يقبلون حكم الله وقسمة رسوله في الغنائم - ويالها من مقدمات للفوز في الحرب وغيرها - ثم قفى على ذلك بذكر أول القصة، وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في المدينة وكراهة فريق من المؤمنين لخروجه، خلافا لما يقتضيه الإيمان من الإذعان لطاعته، والرضاء بما يفعله بأمر ربه، وما يحكم أو يأمر به، كما علم من الشرط في الآية الأولى إن كنتم مؤمنين ولعل بيان هذا الشرط، وما وليه من بيان صفات المؤمنين حق الإيمان هو أهم ما في هذه السورة على كثرة أحكامها وحكمها وفوائدها الروحية والاجتماعية والسياسية والحربية والمالية.
قال تعالى: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } أي: إن الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية، وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها، والذين كانوا يرون أنهم أحق بها وأهلها، فهي كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين في الظاهر، وكون تلك الطائفة هي المقاتلة في الواقع، والحال إن كثيرا من المؤمنين لكارهون لذلك; لعدم استعدادهم للقتال، أو له، ولغيره من الأسباب التي تعلم مما يأتي.
هذا ما أراه المتبادر من هذا التشبيه، وقد راجعت بعض كتب التفسير فرأيت للمفسرين فيها بضعة عشر وجها أكثرها متكلف، وبعضها قريب، ولكن هذا أقرب، وقد بسطه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري باعتبار غايته، وما كان من المصلحة فيه، وهو حق في نفسه، ولكن اللفظ لا يدل عليه، وذكره الزمخشري مبنيا على قواعد الإعراب. ولا يظهر المعنى تمام الظهور في الآيات إلا ببيان ما وقع من ذلك، وأجمعه رواية محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر
" قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولغيرك، فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا، ودعا له بخير، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشيروا علي أيها الناس" ، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، "وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من غير بلادهم. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل. فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله به، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله، وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " .
{ يجادلونك في الحق بعدما تبين } قال بعض العلماء: إن هذه الآية نزلت في مجادلة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والتوحيد، وهي بهم أليق، ولكن ما قبلها وما بعدها في بيان حال المؤمنين، وما كان من هفوات بعضهم التي محصهم الله بعدها يعين كونها فيهم وفاقا لأبي جعفر بن جرير فيه، وفي رد ذلك القول، ومشايعة ابن كثير له، وذكر أن مجاهدا فسر الحق هنا بالقتال وكذا ابن إسحاق، وعلل الجدال فيه بقوله: كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم، وبيان ذلك أن المسلمين كانوا في حال ضعف، فكان من حكمة الله تعالى أن وعدهم الله أولا إحدى طائفتي قريش تكون على الإبهام، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام؛ لأنها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه; لضعف حاميته، فلما ظهر أنها فاتتهم، وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما كان عند قريش من قوة وقربت منهم، وتعين عليهم قتالها، إذ تبين أنها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى إذ لم يبق غيرها، صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها، وضعفهم وقوتها، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها، وطفقوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم اعتذارات جدلية بأنهم لم يخرجوا إلا للعير؛ لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له، كأنهم يحاولون إثبات أن مراد الله تعالى بإحدى الطائفتين العير، بدليل عدم أمرهم بالاستعداد للقتال، ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدال فيه وجه ما - لا بأن يقال إن طائفة العير مراد الله تعالى فإنها نجت وذهبت من طريق سيف البحر، ولو كانت هي المرادة لما نجت، ولا بأن يقال إننا لم نعد للقتال عدته فلا يمكننا طلب الطائفة الأخرى فإنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر لوعد الله تعالى، فلم يبق لجدالهم وجه إلا الجبن والخوف من القتال؛ ولذلك قال: كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي: كأنهم من فرط جزعهم ورعبهم يساقون إلى الموت سوقا لا مهرب منه; لظهور أسبابه، حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم، وهي ما ذكرنا من التفاوت بين حالهم وحال المشركين في العدد والعدد والخيل والزاد، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين الظفر بهم، وهذا دليل قطعي لا يتخلف عند المؤمن الموقن، وما تلك إلا أسباب عادية كثيرة التخلف { { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } [البقرة: 249] وهكذا أنجز الله وعده، وكان الظفر التام للمؤمنين، وقد بين تعالى ذلك كله بقوله:
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } تولى الله تعالى إقامة الحجة عليهم بالحق فيما جادلوا فيه رسوله بالباطل، ووجه الخطاب إليهم بعد أن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فقال: واذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين - العير أو النفير - أنها لكم، وهذا التعبير آكد في الوعد من مثل: { وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم }؛ لأن هذا إثبات بعد إثبات، إثبات للشيء في نفسه، وإثبات له في بدله.
{ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي: وتحبون وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير تكون لكم؛ لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا.
والشوكة الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح، ثم أطلقوها تجوزا على كل حديد من السلاح، فقالوا: شائك السلاح وشاكي السلاح. وإنما عبر عنها بهذا التعبير; للتعريض بكراهتهم للقتال، وطمعهم في المال، { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } أي: ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يحق الحق الذي أراده بكلماته المنزلة على رسوله، أي وعده لكم إحدى الطائفتين مبهمة وبيانها له معينة مع ضمان النصر له { ويقطع دابر الكافرين } المعاندين له من مشركي مكة وأعوانهم باستئصالهم شأفتهم، ومحق قوتهم، فإن دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم، ويكون من ورائهم، ولن يصل إليه الهلاك إلا بهلاك من قبله من الجيش، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة، وما تخلل ذلك من نيلهم من المؤمنين في أحد وحنين فإنما كان تربية على ذنوب لهم اقترفوها كما قال تعالى في الأولى:
{ { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } [آل عمران: 165] وكقوله تعالى: { { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] وقال في الثانية: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا } [التوبة: 25] إلى قوله: { { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [التوبة: 26] إلخ.
قال في الكشاف: يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفاسف الأمور، وألا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد لكم معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة، والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين: ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزكم، وأذلهم، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها.
{ ليحق الحق ويبطل الباطل } أي: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ليحق الحق، أي يقره ويثبته; لأنه الحق - وهو الإسلام - ويبطل الباطل أي يزيله ويمحقه - وهو الشرك - { ولو كره المجرمون } أولو الاعتداء والطغيان من المشركين. وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون باستيلائهم على العير، بل بقتل أئمة الكفر والطاغوت من صناديد قريش المعاندين الذين خرجوا إليكم من مكة؛ ليستأصلوكم. وقد علم مما فسرنا به الحق في الآيتين أنه لا تكرار فيه، فالحق الأول هو القتال لطائفة النفير مع ضمان النصر للمؤمنين، ومحق الكافرين، والثاني هو الإسلام، وهو المقصد، والأول وسيلة له. وهذا أظهر مما قاله الزمخشري وابن المنير.