التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٦٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
٦٥
ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٦٦
-الأنفال

تفسير المنار

لما أمر تعالى رسوله في الآية 61 أن يجنح للسلم إذا جنح لها الأعداء، وكان جنوح الأعداء لها مظنة الخداع والمكر كما تقدم قريبا في تفسيرها، وعده عز وجل في الآية 62 بأن يكفيه أمرهم إذا هم أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب، أو غيرها من الإيذاء والشر، وامتن عليه بما يدل على كفايته إياه وهو تأييده له بنصره وبالمؤمنين إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه. ثم إنه تعالى وعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم عليه في حال الحرب كحال السلم وفي كل حال، وجعل هذا الوعد تمهيدا لما بعده من أمره بتحريضهم على القتال عند الحاجة إليه من بدء العدو بالحرب، أو خيانتهم في الصلح، أو نقضهم للعهد، أو غير ذلك فقال: { ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي: إن الله تعالى هو كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيره، وكاف لمن أيدك بهم من المؤمنين - فالحسب في تلك الآية كفاية خاصة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حال خاصة، وفي هذه كفاية عامة له ولمن اتبعه من المؤمنين في كل حال من قتال أو صلح يفي به العدو أو يخون، وفي غير ذلك من الشئون. ويحتمل أن يكون العطف على معنى: وحسبك من اتبعك من المؤمنين، أي فإنه ينصرك بهم. ولكن مقتضى كمال التوحيد هو الأول، وهو كفاية الله تعالى له ولهم، كما قال تعالى في المؤمنين في سياق غزوة أحد أو غزوة حمراء الأسد: { { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [آل عمران: 173] فالحسبلة مقتضى التوكل، وإنما يكون التوكل على الله وحده كما قال لنبيه: { { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } [الزمر: 38] أي عليه وحده، بدلالة تقديم الظرف، ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة. وقال في المنافقين: { { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } [التوبة: 59] أي لكان خيرا لهم علمهم الله تعالى أن يسندوا الإعطاء من الصدقات إلى الله؛ لأنه المعطي الذي فرض الصدقات وأوجبها، وإلى رسوله؛ لأنه هو الذي يقسمها - وأن يسندوا كفاية الإحساب إلى الله وحده، وتكون رغبتهم إلى الله وحده، ولم يأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله ورسوله، إذ لا يكفي العباد إلا ربهم وخالقهم. كما قال تعالى: { { أليس الله بكاف عبده } [الزمر: 36] ولا سيما الكفاية الكاملة التي يعبر عنها بحسبك، أي التي يقول فيها المكفى: حسبي حسبي، وهي المرادة هنا كما تقدم.
وإذا كان دأب آحاد المؤمنين وهجيراهم { حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنبياء الله ورسله أولى بهذا؛ لأنهم أكمل توحيدا وتوكلا من غيرهم. وناهيك بخاتمهم وأفضلهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ناهيك بوعد الله تعالى إياه بهذه الكفاية، وهذا المعنى هو الذي اقتصر عليه ابن كثير راويا عن الشعبي أنه قال في الآية: حسبك الله وحسب من شهد معك. (قال): وروي عن عطاء الخرساني مثله وعبد الرحمن بن زيد.
أقول: وهذا المعنى قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وأبطل مقابله. فاحتمال عطف من اتبعه من المؤمنين على اسم الجلالة باطل من حيث المعنى كما قال: وإن عده النحاة أظهر في الإعراب على قواعد البصريين التي يتعصب لها جمهورهم، وما من طائفة من علماء علم ولا فن لهم مذهب يخالفه آخرون إلا ويوجد فيهم من يتعصب لكل ما يقوله أهل مذهبهم ولأئمة فنهم. وقد قال الفراء والزجاج هاهنا: إن قوله تعالى: { ومن اتبعك من المؤمنين } في موضع النصب على المفعول معه، أي الواو بمعنى " مع " كقول الشاعر:

إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا فحسبك والضحاك سيف مهند

قال الفراء: وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا: حسبك وأخاك، بل المعتاد أن يقال: حسبك وحسب أخيك - ولهذا فضل الفراء الوجه الآخر، وهو أن المعنى: يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين، إيثارا منه للراجح في عرف النحاة البصريين، على الراجح في أصول الدين، وكذلك أبو حيان النحوي فإنه تعقب إعراب الوجه الأول بأنه مخالف لقول سيبويه، فإنه جعل زيدا في قولهم: " حسبك وزيدا درهم " منصوبا بفعل مقدر، أي وكفى زيدا درهم، ولا غرو فأبو حيان هذا كان معجبا بشيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية وشديد الإطراء له، وقد مدحه في حضرته بأبيات شبهه فيها بالصحابة جملة ـ رضي الله عنهم ـ وبأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ خاصة، وشهد له بتجديد الدين حتى قال فيها:

يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ هذا الإمام الذي قد كان ينتظر

ثم إنه ذاكره في شيء من العربية، واحتج عليه بقول سيبويه، فقال له شيخ الإسلام: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصوما، بل أخطأ في الكتاب (أي كتابه المشهور في النحو) في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت. ويروى أنه قال له: يفسر سيبويه. فقاطعه أبو حيان، وذكره في تفسيره بكل سوء، كما ذكره الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة. ولولا تعصب هؤلاء لأئمة فنهم لما جعلوا فهم سيبويه حجة في مثل هذه المسألة على ما تقتضيه أصول التوحيد من معنى عبارة القرآن. ولولا إرادة التذكير بهذه الجناية التي يرتكبها العلماء بعصبيتهم المذهبية لزعمائهم لما أطلت في هذه المسألة.
هذا وإن المراد بالمؤمنين هنا جماعتهم من المهاجرين والأنصار كما تقدم في الآيتين السابقتين لهذه الآية ولا سيما الذين شهدوا بدرا منهم، لا في الأنصار وحدهم كما قيل هنا وهناك، فإن جل هذه السورة نزل في شأن تلك الغزوة الكبرى كما تقدم أيضا. وعن الكلبي أن هذه الآية نزلت قبلها. وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت عندما أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ وصار المسلمون بإسلامه أربعين نسمة، منهم ست نسوة. رواه البزار من طريق عكرمة بسند ضعيف وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه بسند صححه السيوطي وفيه نظر. ورواه عنه الطبراني أيضا وأخرج أبو الشيخ مثله عن سعيد بن المسيب.
ومقتضى هذا أن الآية مكية والسورة مدنية بالإجماع، ولا يظهر معناها الذي قررناه إلا في وقت نزول سورتها، ولا المعنى الآخر المرجوح الذي أراده واضع الرواية فيما يظهر فإن أولئك الأربعين لم تتحقق بهم كفاية الإحساب بالنصر على الكفار، ولا يؤمن شرهم واضطهادهم للمؤمنين، بل اضطرهم المشركون إلى الهجرة العامة بعد هجرة الحبشة الخاصة.
ولما ضمن الله تعالى إحسابه لنبيه وللمؤمنين قال: { ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } قال الراغب: التحريض: الحث على الشيء بكثرة التنزيل وتسهيل الخطب فيه؛ لأنه في الأصل إزالة الحرض في نحو مرضته وقذيته، أي أزلت عنه المرض والقذى اهـ. والحرض بالتحريك المشفي، أي المشرف على الهلاك. ويطلق على ما لا خير فيه، وما لا يعتد به، وهو مجاز كما في الأساس. وقال الزجاج: التحريض في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم أنه مقارب للهلاك - أي إن لم يفعله.
والمعنى: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، ورغبهم فيه لدفع عدوان الكفار، وإعلاء كلمة الحق والعدل وأهلها، على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما؛ لأنه من ضرورات الاجتماع البشري، وسنة التنازع في الحياة والسيادة كما تقدم بيانه في تفسير هذا السياق، ويشير إليه هنا اختيار التحريض على ما هو في معناه العام كالتحضيض والحث كأنه يقول: حثهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم، وظلمهم لهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.
ثم قال: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا } هذا شرط بمعنى الأمر، فهو خبر يراد به الإنشاء بدليل التخفيف في الآية التالية، وكون المقام مقام التشريع لا الإخبار، وأما استدلالهم عليه بعدم مطابقة الخبر للواقع ففيه ما سيأتي من مطابقته للواقع عند استكمال شروطه في درجتي العزيمة والرخصة.
ومعنى اللفظ الخبري: إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الذين كفروا المجردين من هذه الصفات الثلاث، وهل هم الذين تقدم وصفهم في الآيتين [55 و56] من هذا السياق على القاعدة في إعادة المعرفة؟ أم بعد هذا سياقا آخر فيعم نصه كل الكفار المتصفين بما بينه من سبب هذا الغلب في منطوق ذلك { بأنهم قوم لا يفقهون } وفي مفهوم وصف المؤمنين بالصابرين؟ وجهان أوجههما الثاني، والمعنى الإنشائي له أنه يجب في حال العزيمة والقوة أن يكون جماعة المؤمنين الصابرين أرجح من الكفار بهذه النسبة العشرية سواء قلوا أو كثروا بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال، ولذلك ذكر النسبة بين العشرات مع المئات، وبين المائة مع الألف وهو نهاية أسماء العدد عند العرب.
ونكتة إيراد هذا الحكم بلفظ الخبر، الإشارة إلى جعله بشارة بأن المؤمنين الصابرين الفقهاء يكونون كذلك فعلا، وكذلك كانوا، كما ترى بيانه في تفسير الآية التالية:
ومعنى هذا التعليل أن هذه النسبة العشرية بين الصابرين منكم وبينهم، بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب، وما يجب أن تكون وسيلة له من المقاصد العالية في الإيجاب والسلب، وما يقصد به من سعادة الدنيا والآخرة، ومرضاة الله عز وجل في إقامة سننه العادلة، وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والآداب العالية، ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه ووعوده تعالى فيها بإعداد كل ما يستطاع من قوة مادية، ومرابطة دائمة، ومن قوة معنوية كالصبر والثبات، وعدم الفرار من الزحف إلا تحيزا إلى فئة أو تحرفا لقتال، وذكر الله تعالى، واستمداد نصره في تلك الحال، ومن كون غاية القتال عند المؤمن إحدى الحسنيين: النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية، وغير ذلك مما مر أكثره في هذا السياق، وهو كاف في تفسير القرآن بالقرآن.
وذلك كله بخلاف حال الكافرين، ولا سيما منكري البعث والجزاء كمشركي العرب في ذلك العهد، وكذلك اليهود الذين غلبت عليهم المطامع المادية وحب الشهوات، فأغراض الفريقين من القتال حقيرة خسيسة مؤقتة، يصرفهم عن الصبر والثبات فيها اليأس من حصولها، وهم أحرص من المؤمنين على الحياة لعدم إيمان المشركين منهم بسعادة الآخرة، ولغرور أهل الكتاب بحصولها لهم بنسبهم وشفاعة أنبيائهم وإن لم يسعوا لها سعيها، كما تقدم في بيان حالهم من سورة البقرة، ومنه قوله تعالى:
{ { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [البقرة: 96] الآية.
وقد حققنا معنى الفقه والفقاهة في مواضع، أوسعها بيانا وتفصيلا تفسير قوله تعالى:
{ { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } [الأعراف: 179] إلخ. ففيه بيان لما في القرآن من استعمال هذه المادة في المواضع المختلفة، ومنها القتال، وذكرنا من شواهد هذا النوع هذه الآية التي نزلت في المشركين، وقوله تعالى في اليهود الذين قاتلوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونصروا المشركين عليه: { { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } [الحشر: 13] فراجعه يزدك علما بما هنا وهو في [ص350 - 357 ج 9 ط الهيئة] فالفقه الذي هو العلم بالحقائق المتعلقة بالحرب من مادية وروحية ركن من أركان النجاح، وسبب للنصر جامع لسائر الأسباب.
والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين، وأفقه بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.
وهكذا كان المسلمون في قرونهم الأولى والوسطى بهداية دينهم على تفاوت علمائهم وحكامهم في ذلك، حتى إذا ما فسدوا بترك هذه الهداية التي سعدوا بها في دنياهم فكانوا أصحاب ملك واسع وسيادة عظيمة دانت لهم بها الشعوب الكثيرة - زال ذلك المجد والسؤدد، ونزع منهم أكثر ذلك الملك، وما بقي منه فهو على شفا جرف هار، وإنما بقاؤه بما يسمى في عرف علماء العصر بحركة الاستمرار، إذ صاروا أبعد عن العلم والفقه الذي فضلوا به غيرهم من المشركين ومن أهل الكتاب جميعا، ثم انتهى المسخ والخسف بأكثر الذين يتولون أمورهم إلى اعتقاد منافاة تعاليم الإسلام للملك والسيادة، والقوة والعلوم والفنون التي هي قوامها، فصاروا يتسللون من الإسلام أفرادا، ثم صرح جماعات من زعمائهم ورؤسائهم بالكفر به والصد عنه جهارا، ولكن بعد أن صار علماؤهم يعادون أكثر تلك العلوم والفنون التي أرشدهم إليها القرآن، وأوجب منها ما يتوقف عليه الجهاد في سبيل الله والعمران.
وبعد أن بين الله تعالى المرتبة العليا للمؤمنين التي ينبغي أن تكون لهم في حال القوة وهو ما يسمى بالعزيمة، قفى عليه بيان ما دونها من مرتبة الضعف وهي ما يسمى الرخصة، فقال: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } قرأ الجمهور: ضعفا بضم الضاد، وعاصم وحمزة بفتحها على أنه مصدر، وعن الخليل أن الضم لما كان في البدن، والفتح لما كان في الرأي والعقل أو النفس.
وقرأ أبو جعفر (وعلم أن فيكم ضعفاء) جمع ضعيف، وقد تقدم بيان حال ضعفاء المسلمين الذين كانوا يكرهون القتال في بدر، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى في هذه السورة:
{ { يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } [الأنفال: 6] فالضعف على هذا عام يشمل المادي والمعنوي، والمعنى أن أقل حالة للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وأن هذه الحالة رخصة خاصة بحال الضعف كما كان عليه المؤمنون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر.
فقد تقدم أن المؤمنين كانوا لا يجدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرس واحد، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب، ومع هذا كله كانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي العدة والأهبة. ولما كملت للمؤمنين القوة، كما أمرهم الله تعالى أن يكونوا في حال العزيمة، كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم.
وهل تم لهم فتح ممالك الروم والفرس وغيرهم إلا بذلك؟ وكان القدوة الأولى في ذلك أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم في عهده ومن بعده! كان الجيش الذي بعثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله (الحارث بن عمير الأزدي) إلى أمير بصرى ثلاثة آلاف، وأقل ما روي في عدد الجيش الذي قاتلهم من الروم ومنتصرة العرب مائة وخمسون ألفا، وروى الواحدي في البسيط أنه كان مائة ألف من الروم ومائة ألف من عرب لخم وجذام، فمن شك أو شكك في هذين العددين من المسلمين والروم في هذه الغزوة، فماذا يقول في وقعة اليرموك الشهيرة؟.
روى المؤرخون أن الجموع التي جمعها هرقل للمعركة الفاصلة فيها بينه وبين العرب من الروم والشام والجزيرة وأرمينية كانت زهاء مائتي ألف، وكان يأتيها المدد خشية الهزيمة، وكان عدد جيش الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أربعة وعشرين ألفا، ورووا أن قتلى الروم بلغت سبعين ألفا - فمن شك أو مارى في العدد في هذه المعركة وغيرها من المعارك الفاصلة المعينة، فهل يمكنه أن يماري في القدر المشترك في جملة المعارك التي فتح بها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تلك الممالك الواسعة على قلة عددهم، وكونهم كانوا في مجموعها أو أكثرها أقل من عشر أعدائهم؟ أنى وهو عين التواتر المعنوي الذي يفيد علم اليقين؟
وأما قوله تعالى في تعليل هذا الغلب: { بإذن الله } فقد فسروه هنا بإرادته ومشيئته تعالى، وأصل الإذن في اللغة إباحة الشيء والرخصة في فعله، ولا سيما إذا كان الشأن فيه أن يكون ممنوعا فيكون حاصل الإذن إزالة المنع، وهي إما أن تكون بالقول لمن يقدر على الفعل، وإما أن تكون بالفعل لمن لا يقدر عليه، فالإذن من الله تعالى إما أمر تكليف أو إباحة وترخيص وهو من متعلق صفة الكلام. فالأول - كقوله تعالى:
{ { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [الحج: 39] وقوله: { { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [النساء: 64] والثاني كقوله تعالى: { { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255] وقوله: { { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } [هود: 105] وقوله: { { وداعيا إلى الله بإذنه } [الأحزاب: 46].
وإما أمر تكوين أي بيان لسنة الله تعالى أو فعله أو تقديره أو إقداره لمن شاء على ما شاء فيكون من متعلق الإرادة ومن متعلق القدرة كقوله تعالى للمسيح عليه السلام:
{ { وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } [المائدة: 110] وقوله: { { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [الأعراف: 58] أي بقدرته وإرادته وقوله: { { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } [البقرة: 249] أي بأقداره ومعونته وتوفيقه.
وفي معناها هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وقد ختم كلا منهما بقوله تعالى:
{ { والله مع الصابرين } [البقرة: 249] وهذه المعية لا ندرك حقيقتها وكنهها، وإنما نعلم علم يقين أن من كان الله تعالى معه فهو الغالب المنصور ولن يغلبه أحد، فنفسرها بمعية المعونة والنصر، كما تقدم في تفسير مثل هذه الجملة من الآية 46 من هذه السورة في سياق الحرب وغزوة بدر، وقد أحلت فيه على تفسير مثل تلك الجملة من سورة البقرة وهو قوله: { { ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } [البقرة: 153] وقد قلت هناك: ثم قال: إن الله مع الصابرين ولم يقل معكم، ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم. ومن المفيد أن يراجع القارئ تفسير تلك الآية [في ص30 وما بعدها ج 2 ط الهيئة] فإنه يفيد في إتمام معنى ما هنا.
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية العزيمة من هاتين الآيتين منسوخة بآية الرخصة التي بعدها بدليل التصريح بالتخفيف فيها، ولكن الرخصة لا تنافي العزيمة، ولا سيما وقد عللت هنا بوجود الضعف، ونسخ الشيء لا يكون مقترنا بالأمر به وقبل التمكن من العمل به، وظاهر أن الآيتين نزلتا معا. وروى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم اهـ.
قال الحافظ في الفتح في شرح الجملة الأخيرة: كذا في رواية ابن المبارك، وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عن الإسماعيلي: نقص من النصر اهـ. وأقول: معنى الرواية الأولى أن الصبر في مقاتلة الضعفين دون الصبر في مقاتلة العشرة الأضعاف بهذه النسبة العددية. ومعنى الرواية الثانية أن النصر على الضعفين أقل أو أنقص من الصبر على العشرة الأضعاف، وكلاهما لازم ضروري للآخر. وهذه الرواية لا تدل على النسخ الأصولي الذي زعمه بعضهم على ما بيناه من كون الآية الأولى عزيمة أو مقيدة بحال القوة، والثانية رخصة مقيدة بحال الضعف، وما رواه ابن مردويه من طريق إسحاق ابن راهويه عن عطاء عنه، وفيه التصريح بالنسخ، قال الحافظ: في سنده محمد بن إسحاق وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة وصنيع ابن إسحاق وتبعه الطبراني وابن مردويه يقتضي أنها موصولة، والعلم عند الله تعالى اهـ.
وأقول: حسبنا أن الحافظ لم يقف لها على سند متصل، على أن النسخ في عرف الصحابة أعم من النسخ المصطلح عليه في الأصول، وجمهور الفقهاء يجعلون حكم الثانية الوجوب، وحكم الأولى الندب، ويستدلون على ذلك بتفسير ابن عباس الذي جعل بعضهم لروايته حكم الحديث المرفوع، قال الحافظ في الفتح: وهذا قاله الحافظ توقيفا على ما يظهر، ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء اهـ. ونقول: إن التوقيف من الشارع مستبعد أن يختص به ابن عباس الذي كان عند نزول السورة صغير السن، فلم يحضر غزوة بدر، ولم يسمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يقوله فيها يومئذ، وكونه سمعه بعد سنين ولم يصرح بسماعه مستبعد جدا، فالوجه المختار أن ما قاله ابن عباس فهم منه معناه أن قتال المثلين فرض لا ينافي أن قتال العشرة ندب، وقد عبر عنه بعض رواته عنه بالنسخ.
وقال الحافظ في أحكام الحديث من الفتح عند قوله فجاء " التخفيف " ما نصه: في رواية الإسماعيلي فنزلت الآية الأخرى وزاد ففرض عليهم ألا يفر رجل من رجلين، ولا قوم من مثليهم.
واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار، وتحريم الفرار عليه منهما سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر.
وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه: إنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين. ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما؟ وإن طلبهما فهل يحرم؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا.
لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن، وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار.
أما المفرد وحده بغير العسكر فلا؛ لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر فقد أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض أصحابه سرية وحده، وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين، واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى:
{ { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } [البقرة: 207] وبقوله تعالى: { { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } [النساء: 84] اهـ.
ومن مباحث القراءات اللفظية في الآيتين أن ابن كثير ونافعا وابن عامر قرءوا " يكن " المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء على التأنيث اللفظي، ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في " يكن " التي في الآية الثانية، وأما " يكن " المسند إلى عشرون صابرون فقرأها الجميع بالتذكير؛ لأن المسند إليه جمع مذكر موصوف بمثله.
ومن مباحث البلاغة فيهما أن المعنى المراد في تفضيل المؤمنين على الكافرين في القتال، مقيد بأن يكون المؤمنون صابرين دون الكافرين أو فوق صبرهم، ويكون الكافرون من الذين لا يفقهون من المقاصد الدينية والاجتماعية ما يفقهه المؤمنون.
فكان من إيجاز القرآن أن في الآية الأولى أن قيد العشرين بوصف صابرين ولم يقيد بذلك المائة، وقيد الغلب في قتال المائة للألف بأن يكون للذين كفروا الذين وصفهم بأنهم قوم لا يفقهون، ولم يذكر هذا القيد في غلب العشرين للمائة منهم، وكل من القيدين مراد، فأثبت في كل من الشرطين ما حذف نظيره في الآخر، وهو ما يسمى في البديع بالاحتباك، ثم إنه وصف المائة في آية التخفيف بالصابرة؛ لأن الصبر شرط لا بد منه في كل حال وكل عدد مع عدم وصف المائة في الأولى، لئلا يتوهم أنه شرط في العدد القليل كالعشرين دون الكثير كالمائة والألف، ولم يذكره في الألف استغناء بما قبله وبما بعده من قوله: { والله مع الصابرين } وهو مع قوله قبله: { بإذن الله } يدل على أن سنة الله تعالى في الغلب أن يكون للصابرين على غير الصابرين، وكذا على من هم أقل منهم صبرا، وفي هذا تحذير للمؤمنين من الغرور بدينهم، لئلا يظنوا أن الإيمان وحده يقتضي النصر والغلب وإن لم يقترن بصفاته اللازمة لكماله، ومن أعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور وسنن الله تعالى في الخلق المعبر عنه هنا بالفقه.