التفاسير

< >
عرض

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
٩٤
وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٩٦
وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٩٧
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
٩٨
-يونس

بحر العلوم

قوله تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } من القرآن { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءونَ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكَ } يعني مؤمني أهل التوراة. وذلك أن كفار قريش قالوا إن هذا الوحي يلقيه إليه الشيطان. فأنزل الله تعالى { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } فسيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا أسأل أحداً ولا أشك فيه. بل أشهد أنه الحق" ، وقال القتبي فيه تأويلان. أحدهما أن تكون المخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد فيه غيره من الشكاك لأن القرآن أنزل عليه بمذاهب العرب وهم يخاطبون الرجل بشيء ويريدون به غيره كما قالوا "إيَّاك أعني واسمعي يا جارة" وكقوله { يأَيُّهَا ٱلنَّبِىِّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } [الأحزاب: 1] أراد به الأمة يدل عليه قوله تعالى في آخره { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء: 94]. وكقوله { { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45]. ووجه آخر، إن الناس كانوا على ثلاث مراتب. منهم من كان مؤمناً ومنهم من كان كافراً ومنهم من كان شاكاً. وإنّما خاطب بهذا الشاك. ثم قال { لَقَدْ جَاءكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } يعني القرآن { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } يعني من الشاكين { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } يعني بالكتاب (وبالرسالات) { فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } يعني من المغبونين. قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ } يعني وجبت عليهم كلمة ربك بالسخط وقدر عليهم الكفر { لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني لا يصدقون بالقرآن انه من الله تعالى { وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ } يعني: علامة { حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلألِيمَ } يعني الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، قرأ نافع وابن عامر "كَلِمَاتُ رَبِّكَ" وقرأ الباقون "كَلِمةُ رَبِّكَ" قوله تعالى: { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يقول لم يكن أهل قرية كافرة آمنت عند نزول العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } وقبل منها الإيمان ودفع عنهم العذاب { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } قال مقاتل: فلولا على ثلاثة أوجه الأول يعني فلم. مثل قوله { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ }. الثاني: فلولا يعني فهلا، كقوله { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا } [الأنعام: 43] { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } [الواقعة: 86] والثالث: فلولا يعني فلوما. كقوله { { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [النساء: 83] { { فَلَوْلاَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } [الصافات: 143]. ويقال فلولا ها هنا بمعنى فهلا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها. ومعناه فهلا آمنت في وقت ينفعها إيمانها. فأعلم الله تعالى أن الإيمان لا ينفع عند نزول العذاب، ثم قال { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } معناه لكن قوم يونس { لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ } يعني إنهم آمنوا قبل المعاينة فكشفنا عنهم وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } كما نفع قوم يونس، وعن قتادة إنَّ قوم يونس عليه السلام خرجوا ونزلوا على تل فدعوا الله تعالى أربعين ليلة حتى تاب الله عليهم. وروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم: أن يونس بعثه الله تعالى إلى قومه فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وترك ما هم فيه من الكفر، فأبوا فدعا ربه فقال يا رب قد دعوتهم فأبوا فأوحى لله تعالى إليه أن ادعهم فإِن أجابوك وإلا فأعلمهم أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام، فدعاهم فلم يجيبوه فأخبرهم بالعذاب. فقالوا ما جربنا عليه كذباً مذ كان معنا فإِن لم يلبث معكم وخرج من عندكم فاحتالوا لأنفسكم، فلما كان بعض الليل خرج يونس من بينهم. فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسواداً في السماء كهيئة النار والدخان فظنوا أن العذاب نازل بهم فجعلوا يطلبون يونس عليه السلام فلم يجدوه. فلما كان آخر النهار أيسوا من يونس وجعل يهبط السواد والحمرة. فقال قائل منهم إن لم تجدوا يونس عليه السلام فإِنكم تجدون رب يونس. فادعوه وتضرعوا إليه، فخرجوا من القرية إلى الصحراء وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم وفرقوا بين كل إنسان وولده وبين كل بهيمة وولدها ثم (عجوا) إلى الله تعالى مؤمنين مصدقين وارتفعت أصوات الرجال والنساء والصبيان (وخوار) البهائم وأولادها واختلطت الأصوات وقربت منهم الحمرة والدخان حتى غشي السواد سطوحهم وبلغهم حر النار، فلما عرف الله تعالى منهم صدق التوبة رفع عنهم العذاب بعدما كان غشيهم. فذلك قوله تعالى { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يعني لم يكن أهل قرية { آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } عند نزول العذاب { إلا قوم يونس لما آمنوا } يعني صدقوا بالألسن والقلوب عرف الله تعالى منهم الصدق { كَشَفْنَا عَنْهُمُ } يعني رفعنا وصرفنا { عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } يعني عذاب الهون { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } يعني إلى منتهى آجالهم. وفي هذه الآية تخويف وتهديد لكفار مكة ولجميع الكفار إلى يوم القيامة أنهم (إن) لم يؤمنوا ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب.