التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً
٦١
وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
٦٢
وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً
٦٣
وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
٦٤
وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً
٦٥
إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
٦٦
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
٦٧
-الفرقان

بحر العلوم

قوله عز وجل: { تَبَـٰرَكَ } وقد ذكرناه { ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً } يعني: خلق في السماء بروجاً يعني: نجوماً وكواكب ويقال: قصوراً وذكر أنه جعل في القصور حراساً كما قال في آية أخرى { { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ حَرَساً } [الجن: 8] الآية ويقال: البروج الكواكب العظام وكل ظاهر مرتفع فهو برج وإنما قيل لها بروج لظهورها وارتفاعها ثم قال تعالى: { وَجَعَلَ } يعني: خلق فيها { سِرَاجاً } يعني: شمساً { وَقَمَراً مُّنِيراً } يعني: منوراً مضيئاً قرأ حمزة والكسائي (سُرُجاً) بلفظ الجمع يعني الكواكب وقرأ الباقون (سِرَاجاً) وبه قال أبو عبيدة: بهذا نقرأ كقوله: { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } ولأنه قد ذكر الكواكب بقوله: { بُرُوجاً } ثم قال عز وجل: { وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي: خلق الليل والنهار { خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي خلفة يخلف كل واحد منهما صاحبه يذهب الليل ويجيء النهار ويذهب النهار ويجيء الليل ويقال: خلفة يعني: مخالفاً بعضه لبعض أحدهما أبيض والآخر أسود فهما مختلفان كقوله عز وجل: { إِنَّ فِى ٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } الآية وعن الحسن أنه قال: النهار خلف من الليل لمن أراد أن يعمل بالليل فيفوته فيقضي فإذا فاته بالنهار يقضي بالليل لمن أراد أن يذكر قرأ حمزة (يَذْكُر) بتسكين الذال وضم الكاف يعني: يذكر ما نسي إذا رأى اختلاف الليل والنهار وقرأ الباقون بالتشديد (يَذَّكَّر) وأصله يتذكر يعني: يتعظ في اختلافهما ويستدل بهما { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } يعني: العمل الصالح ويترك ما هو عليه من المعصية ويقال أو أراد شكوراً أو أراد توحيداً وإقراراً فيمكنه ذلك قوله عز وجل: { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ } يعني: وإن من عباد الرحمن عباداً يمشون { عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } يعني: يمضون متواضعين وهذا جواب لقولهم وما الرحمن أنسجد فقال الرحمن الذي جعل في السماء بروجاً وهو الذي له عباد مثل هؤلاء يعني أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان مثل حالهم وهذا كقوله { جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ } [مريم: 61] وكقوله: { فَبَشِّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ } [الزمر: 17] الآية وقال مجاهد: يمشون على الأرض هوناً قال في طاعة الله متواضعين ويقال: هوناً أي هيناً لا جور فيه على أحد ولا أذى ويقال: هوناً يعني: سكينة ووقاراً وحلماً { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ } يعني: كلمهم الجاهلون بالجهل { قَالُواْ سَلاَماً } يعني: سداداً من القول ويقال: ردوا إليهم بالجميل وقال الحسن: أي حلماً لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا وقال الكلبي: نسخت بآية القتال وقال بعضهم: هذا خطأ لأن هذا ليس بأمر ولكنه خير من حالهم والنسخ يجري في الأمر والنهي ثم وصف حال لياليهم فقال عز وجل: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً } يعني: يقومون بالليل في الصلاة سجداً { وَقِيَـٰماً } يعني: يكونون في ليلتهم مرة ساجدين ومرة قائمين وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: من صلى ركعتين أو أربعاً بعد العشاء فقد بات لله ساجداً وقائماً ثم وصف خوفهم فقال إنهم مع جهدهم خائفون من عذاب الله عز وجل ويتعوذون منه فقال عز وجل: { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } يعني: عباد الرحمن { رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } يعني: لازماً لا يفارق صاحبه وقال بعض أهل اللغة: الغرام في اللغة أشد العذاب وقال محمد بن كعب القرظي: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً) قال سألهم عن النعم فلم يأتوا بثمنها فأغرمهم ثمن النعم وأدخلهم النار ثم قال: { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } يعني: بئس المستقر وبئس الخلود والمقام الخلود كقوله: { دَارَ ٱلْمُقَامَةِ } [فاطر: 35] يعني: دار الخلود ويقال نصب المستقر للتمييز ومعناه لأنها ساءت في المستقر ثم قال عز وجل: { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } وقرأ نافع وابن عامر يُقْتِرُوا بضم الياء وكسر التاء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لم يَقْتِروا بنصب الياء وكسر التاء وقرأ أهل الكوفة بنصب الياء وضم التاء ومعنى ذلك كله واحد يعني: لم يسرفوا فينفقوا في معصية الله ولم يقتروا فيمسكوا عن الطاعة { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } يعني: بين ذلك عدلاً ووسطاً وقال الحسن: ما أنفق الرجل على أهله في غير إسراف ولا فساد ولا إقتار فهو في سبيل الله تعالى وقال مجاهد: لو كان لرجل مثل أبي قبيس ذهباً فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله تعالى كان مسرفاً.