التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ
١٨
فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
١٩
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢٠
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ
٢١
-سبأ

بحر العلوم

قال عز وجل: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } قال في رواية الكلبي إنهم قالوا للرسل إنا قد عرفنا نعمة الله علينا فوالله لئن يرد الله فيئتنا وجماعتنا والذي كنا عليه لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه قوم قط فدعت لهم الرسل ربهم فرد الله لهم ما كانوا عليه وأتاهم نعمة وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض فذلك قوله وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها { قُرًى ظَـٰهِرَةً } ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة الله فكذبوهم فمزقهم الله كل ممزق وقال غيره { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم قرى ظاهرة يعني متصلة على الطريق من حيث يرى بعضها من بعض { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } للمبيت والمعيل من قرية إلى قرية { سِيرُواْ فِيهَا } يعني ليسيروا فيها، اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الشرط والجزاء فلم يشكروا ربهم فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وقد كانوا في قراهم آمنين منعّمين فذلك قوله: { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } يعني أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار آمنين من الجوع والعطش واللصوص والسباع، قرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد بغير ألف وتشديد العين وقرأ الباقون باعد بالألف، وهما لغتان بَعّدَ باعد، وقرأ يعقوب الخضرمي وكان من أهل البصرة ربُنا بضم الباء باعَد بنصب العين وهو على معنى الخبر، وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه ربنا باعد بين أسفارنا فلذلك لا ينصب ثم قال { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالشرك وتكذيب الأنبياء { فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ } يعني أهلكهم الله تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى { وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ }أي فرقناهم في كل وجه فألقى الله الأزد بعمان الأوس والخزرج بالمدينة وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى الأوس فسموا بإسم أبيهم وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة منهم لخم وجذام بالشام، ويقال: كلب وغسان { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي: في هلاكهم وتفريقهم لعبرات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعني للمؤمنين الذين صبروا على طاعة الله تعالى وشكروا نعمته قوله عز وجل: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } يعني على أهل سبأ، ويقال: هذا ابتداء يعني جميع الكفار وذلك أن إبليس قد قال: { { لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 82-83] فكان ذلك ظناً منه فصدق ظنه { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً } يعني طائفة { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وهم الذين قال الله تعالى { { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } [الحجر: 42] وقال سعيد بن جبير: كان ظنه أنه قال أنا ناري وآدم طيني، والنار تأكل الطين وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ولقد صدق بالتخفيف يعني صدق في ظنه وقرأ الباقون صدق بالتشديد يعني صار ظنه صدقاً قوله عز وجل { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَـٰنٍ } يعني لم يكن له عليهم ملك فيقهرهم ويقال يعني ما سلطناه عليهم إلا لنختبرهم من الذي يطيعنا، وقال الحسن البصريرحمه الله والله ما ضربهم بعصاً ولا أكرههم على شيء وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه، وقال قتادة والله ما كان ظنه إلا ظناً فنزل الناس عند ظنه وقال معمر قال لي مقاتل: إن إبليس لما أنزل آدم - عليه السلام - ظن أن في ذريته من سيكون أضعف منه فصدق عليهم ظنه، فإن قيل في آية أخرى { { إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [النحل: 100] وهاهنا يقول { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَـٰنٍ } قيل له أراد بالسلطان هناك الحجة يعني إنما حجته على الذين يتولونه وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به، ويقال: معنى الآيتين واحد لأن هناك قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا، وهاهنا قال: وما كان له عليهم من سلطان يعني حجة على فريق من المؤمنين إلا بالتزين والوسوسة منه { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ } يعني نميز من يصدق بالبعث ممن هو في شك يعني من قيام الساعة وقال القتبي: علم الله نوعان: أحدهما: علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين من قبل أن يكون، وهذا علم لا يجب به حجة ولا عقوبة والآخر علم الأمور الظاهرة فيحق به القول ويقع بوقوعها الجزاء يعني: ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهراً موجوداً وكفر الكافرين ظاهراً موجوداً وكذلك قوله: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ } [آل عمران: 142] الآية ثم قال عز وجل: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ } يعني عالماً بالشك واليقين، ويقال: عالم بقولهم، ويقال: عالم بما يكون منهم قبل كونه، ويقال: حفيظ يحفظ أعمالهم ليجازيهم.