التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
-محمد

بحر العلوم

{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } يعني: اضربوا الرقاب، صار نصباً بالأمر، ومعناه اضربوا الأعناق ضرباً، وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: "إِنّي لَمْ أُبْعَثُ لأُعَذِّبَ بِعَذَابِ الله، وَإِنَّمَا بُعثْتُ بِضَرْبِ الرِّقَابِ وَشَدِّ الوَثَاقِ" { حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } يعني: حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم فشدوا الوثاق يعني: فاستوثقوا أيديهم من خلفهم، ويقال الإثخان: أن يعطوا أيديهم، ويستسلموا، وقال الزجاج { حَتَّىٰ أَثْخَنتُمُوهُمْ } يعني: أكثرتم فيهم القتل والأسر بعد المبالغة في القتل، وقال مقاتل: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوُهم بالسيف فظفرتم عليهم { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } يعني: الأسر { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ } يعني: عتقاً بعد الأسر بغير فداء { وَإِمَّا فِدَاء } يعني: يفادي نفسه بماله، وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإمام بالخيار في الأسرى إن شاء فادى وإن شاء قتل، وإن شاء استرق، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لا أفادي وإن طلبوا بمدين من ذهب، وذكر عن أبي بكر أنه كتب إليه في أسير التمسوا منه الفداء فقال اقتلوه، لأَنْ أقتل رجلاً من المشركين أحب إليَّ من كذا وكذا، قال أبو الليث: وقد كره بعض الناس قتل الأسير، واحتج بظاهر هذه الآية { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً }، وقال أَصْحَابُنَا: لا بأس بقتله بالخبر الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنهم وروي عن ابن جريج، وغيره من أهل التفسير أن هذه الآية منسوخة بقوله { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم } [التوبة: 5]، وقد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن خطل يوم فتح مكة بعدما وقع في منعة المسلمين فهو كالأسير، وأما الفداء: فإن فادوا بأسير من المسلمين فلا بأس به، كما قال إبراهيم النخعي إن شاء فادى بالأسير، وإن أراد أن يفتدي بمال لا يجوز إلا عند الضرورة، لأن في رد الأسير إلى دار الحرب قوة لهم في الحرب فكره ذلك، كما يكره أن يحمل إليهم السلاح للبيع ثم قال: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } روي عن ابن عباس أنه قال حتى تترك الكفار إشراكها، ويوحدوا الرب تبارك وتعالى، حتى لا يبقى إلا مسلم، أو مسالم يعني: في ذمة المسلمين، الذين يعطون الجزية، وعن سعيد ابن جبير قال: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال: خروج عيسى عليه السلام يكسر الصليب، فيلقى الذئب الغنم فلا يأخذها ولا تكون عداوة بين اثنين، وهكذا قال مجاهد، وقال مقاتل { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } يعني: في مكان يقاتل سَمَّاهُم حرباً، وقال القتبي: حتى تضع الحرب، يعني: حتى يضع أهل الحرب السلاح. ثم قال عز وجل: { ذٰلِكَ } يعني: افعلوا ذلك، ثم استأنف فقال: { وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } بغير قتال يعني: يهلكهم { وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } يعني: لم يهلكهم لكي يختبرهم بالقتال، حتى يتبين فضلهم ويستوجبوا الثواب ثم قال: { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } يعني: جاهدوا عدوهم في طاعة الله تعالى { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } يعني: لن يبطل ثواب أعمالهم، قرأ أبو عمرو (قُتِلُوا) بضم القاف بغير ألف، وهكذا روي عن عاصم في إحدى الروايتين، يعني: الذين قتلوا يوم أحد، ويوم بدر، وفي سائر الحروب، وقرأ الباقون { وَٱلَّذِينَ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } بالنصب يعني: جاهدوا الكفار وحاربوهم ثم قال { سَيَهْدِيهِمْ } يعني: يجنبهم من أهوال الآخرة، ويقال: سيهديهم: يعني: يثبتهم على الهدى { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } وقد ذكرناه { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ } في الآخرة { عَرَّفَهَا لَهُمْ } يعني هداهم الله تعالى إلى منازلهم، وروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "إِذَا أُذِنَ لأهْلِ الجَنَّةِ فِي دُخُولِهَا (لأَحَدهم أَهْدَى أي أعرف بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّةِ، من منزله الَّذِي كَانَ فِي الدُّنَّيَا)" وعن ابن مسعود أنه قال ما أشبههم إلاَّ أهل الجمعة حين انصرفوا من جمعتهم، يعني إن كل واحد منهم، يهتدي إلى منزله، وقال الزجاج في قوله { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي يصلح لهم أمر معايشهم في الدنيا، مع ما يجازيهم في الآخرة، وهذا كما قال تعالى { { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً } [نوح: 10، 11] الآية ويقال { عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي طيبها لهم، يقال طعام معرف أي مطيب، ثم حث المؤمنين على الجهاد.