التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
٤
-الفتح

بحر العلوم

قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجهز في سنة ست في ذي القعدة فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل، ويقال: ألف وأربعمائة وساق سبعين بدنة فبلغ قريشاً خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت، فلما نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان قال: "إن قريشاً جعلت لي عيوناً فمن يدلني على طريق الثنية، فقال رجل من المسلمين أنا يا رسول الله، فخرج بهم وانتهوا إلى الثنية، وصعدوا فيها، فلما هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الثنية بركت ناقته القصواء، فلم تنبعث فزجرها، وزجرها الناس وضربوها فلم تنبعث، فقال الناس خلأت القصواء أي صارت حرونا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خلأت القصواء وما كان ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: لا يسألونني فيما بيني وبينهم شيئاً يعظمون به حرماتهم إلا قبلته منهم ثَم زجرها فانبعثت، فلما نزلوا على القليب بالحديبية لم يكن في البئر إلا ماء وشيك يعني قليل متغير فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء، فقال مَن رجل يهيج لنا الماء، فقال رجل أنا يا رسول الله، فقال: ما اسمك؟ قال: مرة فقال تأخر، فقال رجل آخر أنا يا رسول الله، فقال ما اسمك؟ قال: ناجيه فقال: انزل فنزل فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشقصاً فبحت به البئر فنبع الماء، وقال في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان ماء الحديبية قد قل، فأتى بدلو من ماء فتوضأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وجعل منه في فيه ثم مجه في الدلو، ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر ففعلوا فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس ففزع المشركون لنزول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الحديبية، فجاؤوه واستعدوا ليصدوه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر يا عمر: اذهب فاستأذن لنا عليهم حتى نعتمر، ويخلوا بيني وبين البيت، لا أريد منهم غيره، فقال عمر يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني، فأرسل عثمان فإن هناك ناساً من بني عمه يمنعونه، فذهب عثمان فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص، فقال له أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فأجاره وحمله على فرسه وراءه ودخل به مكة، فاستأذن عثمان قريشاً فأبوا أن يأذنوا له، فقال أبان لعثمان طف أنت إن شئت، فقال لما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وبقي هناك ثلاثة أيام، فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قد قتل، فقال لأصحابه بايعوني على الموت، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة فبايعه أصحابه على الموت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إني أخاف ألا يدرك عثمان هذه البيعة فأنا أبايع له يميني بشمالي، ثم رجع عثمان فأخبر أنهم قد أبوا ذلك، وبلغت قريشاً البيعة، فكبرت تلك البيعة عندهم، وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني أردده عنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ابعثوا الهدي في وجهه يراها فإنهم قوم يعظمون الهدي، فبعثوا الهدي في وجهه، فلما رأى يزيد بن الحارث الهدي قال: ما أرى أحداً يفلح برد هذا الهدي، ورجع إلى قريش فقال لهم: لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء، فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، فجلس إليه فقال يا محمد: ارجع عن قومك هذه المرة، فجعل يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويومىء بيديه إلى لحيته، وكان المغيرة قائماً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربه بالسوط على يده، وقال اكفف يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصل إليك ما تكره، فقال عروة: من هذا يا محمد؟ فقال: ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال يا غدر ما غسلت سلحتك عني بعد، أفتضرب يدي؟ قال: اكففها قبل أن لا تصل إليك، فرجع عروة إلى قريش، فقالوا له ما ورائك يا أبا يعقوب، فقال خلوا سبيل الرجل يعتمر، فإني حضرت كسرى وقيصر والنجاشي فما رأيت ملكاً قط أصحابه أطوع من هذا الملك، والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته، والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه، وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه، فقالوا جبنت وانتفح سحرك، ثم قالوا لسهيل بن عمرو اذهب واردده عنا وصالحه، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قد سهل أمرهم، فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال: يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل فتعتمر أنت وأصحابك، ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكباً، فتصالحنا على أن لا تقاتلنا ولا نقاتلك سنتين، فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال اكتب بيننا وبينك كتاباً، فأمر علياً رضي الله عنه أن يكتب، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، قال فكيف أكتب؟ قال: اكتب باسمك اللهم، فكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل لو أعلم أنك رسول الله لاتبعتك، أفترغب عن اسم أبيك؟ فقال علي رضي الله عنه: فوالله إنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رغم أنفك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أنا محمد رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، اكتب محمد بن عبد الله، لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئاً يعظمون به حرماتهم إلا قبله، فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، ألا تقاتلنا ولا نقاتلك سنتين، وندخل في حلفنا من نشاء، وتدخلوا في حلفكم من شئتم، وعلى أنكم تأتون من العام المقبل وتقيمون ثلاثة أيام ثم ترجعون، وعلى أن ما جاء منا إليكم لا تقبلوه وتردوه إلينا، ومن جاء منكم إلينا فهو منا فلا نرده إليكم، فشق ذلك الشرط على المسلمين فقالوا يا رسول الله: من لحق بنا منهم لم نقبله، ومن لحق بهم منا فهو لهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما من لحق بهم منا فأبعده الله وأولى بمن كفر وأما من أراد أن يلحق بنا منهم فسيجعل الله له مخرجاً، فجاء أبو جندل بن سهيل يوسف في الحديد، يعني يمشي مشي الأعرج قد أسلم فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، فلما وقع في ظهراني المسلمين، قال إني مسلم فجاء أبوه، فقال: إنما كتبنا الكتاب الساعة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله أليس الله حق وأنت نبيه؟ قال: بلى، قال: ونحن قوم مؤمنون؟ وهم كفار؟ قال بلى، قال فلم نُعْطِي الدنية في ديننا، قال إنما كتبنا الكتاب الساعة، فتحول عمر إلى أبي جندل فقال: يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب، وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه ويضرب به أباه، فقال أبو جندل ما لك لا تقتله أنت؟ فقال عمر: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، لا أقتل أبي، فأخذ سهيل بن عمرو غصن من أغصان تلك الشجرة فضرب به وجه أبي جندل، والمسلمون يبكون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - خلوا بينه وبين ابنه، فإن يعلم الله من أبي جندل الصدق ينجيه منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسهيل هبه لي فقال سهيل لا، فقال مكرز بن حفص قد أجرته يعني أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فخرج إلى شط البحر واجتمع إليه قريباً من سبعين رجلاً كرهوا أن يقيموا مع المشركين، وعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يقبلهم حتى تنقضي المدة، فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام أو مدبرة فأخذوها، وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين، فأرسل المشركون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشدونه إلا قبضهم إليه، وقالوا له أنت في حل منهم، فالتحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم، فعلم الذين كرهوا الصلح أن الخير فيما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن ينحروا البدن، ويحلقوا الرؤوس فلم يفعل ذلك منهم أحد، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة فقال: ألا تعجبين، أمرت الناس أن ينحروا البدن ويحلقوا فلم يفعل أحد منهم، فقالت أم سلمة قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك، واحلق رأسك فإنهم سيقتدون بك، فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدن وحلق رأسه ففعل القوم كلهم، فحلق بعضهم وقصر بعضهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم، يرحم الله المحلقين، فقالوا والمقصرين يا رسول الله، فقال يرحم الله المحلقين والمقصرين" ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فنزل { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } إلى قوله: { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يعني السكون والطمأنينة في البيعة في قلوب المؤمنين { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } يعني تصديقاً مع تصديقهم الذي هم عليه، ويقال تصديقاً بما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة، ويقال يعني إقراراً بالفرائض مع إقرارهم بالله تعالى، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } قال يعني الرحمة { فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً } قال إن الله تعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله، كما قال { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَد ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الاخلاص:1، 4] فلما صدقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصوم، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، يعني إن في كل ذلك يزيد تصديقاً مع تصديقهم، { وَلِلَّهِ جُنُود ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فجنود السموات الملائكة، وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } بخلقه { حَكِيماً } في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر.