التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
-الحجرات

بحر العلوم

قوله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ } يعني: لا تحققوا الظن: { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ } يعني: معصية، أي إِنَّ ظن السوء بالمسلم معصية، وقال سفيان الثوري: الظن ظنان، ظن فيه إثم، وظن لا إثم فيه، فالظن الذي فيه إثم، أن يظن ويتكلم به، وأما الظن الذي لا إثم فيه، فهو أن يظن ولا يتكلم به، لأنه قال { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ } ولم يقل جميع الظن إثم ثم قال: { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } يعني: لا تطلبوا ولا تبحثوا عن عيب أخيكم { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } روى أسباط عن السدي قال: كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر، فنزلوا منزلاً فضربوا خيامهم، وصنعوا طعامهم، ونام سلمان، فقال بعض القوم لبعض: ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خياماً مضروبة، وطعاماً مصنوعاً، فلما استيقظ سلمان قالوا له: انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتمس لنا إداماً نأتدم به، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عليه السلام: "أخبرهم أنهم قد ائتدموا، فأخبرهم، فقالوا ما طعمنا بعد، وما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوه فقال: ائتدمتم من صاحبكم حين قلتم ما قلتم وهو نائم" ، ثم قرأ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } يعني: فكما تكرهون أكل لحمه ميتاً، فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب، ويقال: كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكان يطبخ لهما فنزلوا منزلاً، فلم يجد ما يصلح لهم أمر الطعام، فبعثاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لينظر عنده شيئاً من الطعام، فقال أسامة: لم يبق عند النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من الطعام، فرجع إليهما فقالا إنه لو ذهب إلى بئر كذا ليبس ماؤها، فنزلت هذه الآية، ويقال نزلت في شأن زيد بن ثابت، وذلك أن نفراً ذكروا فيه شيئاً فنزل { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } قرأ نافع: (مَيِّتاً) بتشديد الياء والخفض، والباقون بالجزم، وقال أهل اللغة: الميت والميت واحد مثل ضيق وضيق، وهين وهين، ولين ولين ثم قال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في الغيبة وتوبوا إليه { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ } يعني: قابل التوبة { رَحِيمٌ } بهم بعد التوبة قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } قال مقاتل: وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة أمر بلالاً ليؤذن، فقال الحارث بن هشام أما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الغراب، يعني بلال فنزل يَا أَيُّهَا النَّاسُ { إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } يعني: آدم وحواء { وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ } يعني: رؤوس القبائل مثل مضر وربيعة، وقبائل يعني: الأفخاذ مثل بني سعد وبني عامر { لِتَعَـٰرَفُواْ } في النسب { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ } يعني: وإن كان عبداً حبشياً أسود مثل بلال، وقال في رواية الكلبي نزلت في ثابت بن قيس، كان في أذنيه ثقل، وكان يدنو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامه، فأبطأ يوماً واحداً وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء فتخطى رقابهم حتى جلس قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل من القوم هذا يتخطى رقابنا فلم لا يجلس حيث وجد المكان، فقال ثابت: من هذا؟ فقالوا فلان، فقال ثابت: يا ابن فلانة وكان يعير بأمه فخجل، فنزلت هذه الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عير فلاناً بأمه؟ فقال ثابت بن قيس: أنا قد ذكرت شيئاً، فقرأ هذه الآية عليه فاستغفر ثابت" ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: القبائل والأفخاذ الصغار، والشعوب: الجمهور مثل مضر، وقال الضحاك: الشعوب: الأفخاذ الصغار، والقبائل مثل بني تميم وبني أسد، وقال القتبي: الشعوب: أكثر من القبيلة وقال الزجاج: الشعب أعظم من القبيلة، ومعناه: إني لم أخلقكم شعوباً وقبائل لتتفاخروا وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يقول عز وجل: إنكم جعلتم لأنفسكم نسبا وجعلت لنفسي نسباً فرفَعْتُم نَسَبَكُم وَوَضَعْتُمْ نَسَبي، فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُم، يعني: قلت إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَـاكُمْ وَقلتم أنتم فلان وفلان" ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ } بأتقيائكم { خَبِيرٌ } بافتخاركم { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ ءامَنَّا } قال ابن عباس: نزلت في بني أسد، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قحط أصابهم، فجاؤوا بأهاليهم، وذراريهم يطلبون الصدقة، وأظهروا الإسلام، وقالوا يا رسول الله نحن أسلمنا طوعاً، وقدمنا بأهالينا فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا، ويقال كانت قبيلتان جهينة، ومزينة قدموا بأهاليهم فنزلت الآية { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ ءامَنَّا } يعني: صدقنا { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } يعني: لم تصدقوا في السر، كما صدقتم في العلانية { وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } يعني: دخلنا في الانقياد والخضوع، ويقال: استسلمنا مخافة القتل والسبي { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ } يعني: التصديق، ويقال: لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في السر كما تطيعونه في العلانية { لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَـٰلِكُمْ شَيْئاً } يعني: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً، قرأ أبو عمرو (لاَ يَأْلِتْكُم) بالألف والهمز، والباقون (لاَ يَلِتْكُمْ) بغير ألف ولا همز، ومعناهما واحد، يقال: لاته يلته، وألته يألته إذا نقص حقه. { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لو صدقوا بقلوبهم، ثم بين الله عز وجل لهم من المصدق.