التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
٤
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
٦
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ
٧
فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٨
-الحجرات

بحر العلوم

قوله عز وجل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ } فالحجرات: جمع الحجرة، يقال حجرة وحجرات مثل ظلمة وظلمات، وقرىء في الشاذ الحجَرات بنصب الجيم، وقرأه العامة بالضم، ومعناهما واحد، نزلت الآية في شأن نفر من بني تميم، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أسامة بن زيد، فانتهى إلى قبيلة وكانت تسمى بني العنبر، فأغار عليهم وسبى زراريهم، فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراهم، أو يفدوهم فنادوه وكان وقت الظهيرة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة فنادوه من وراء الحجرة، وكان لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجرات، فلما خرج النبي كلموه في أمر الزراري فقال لواحد منهم احكم، فقال: حكمت أن تخلي نصف الأسارى وتبيع النصف منا، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُراتِ { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لأنهم لو لم ينادوه لكان يعتقهم كلهم وروى معمر عن قتادة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداه من وراء الحجرات فقال يا محمد: إِنَّ مَدْحِي زَيْن، وإِن شَتْمِي شَيْن فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وَيْلَكَ ذَلَّكَ اللَّهُ عز وجل" فَنَزل إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ الآية ثم قال عز وجل: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } لمن تاب { رَّحِيمٌ } بهم بعد التوبة قوله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } الآية نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات، فخرجوا إليه ليبجلوه ويعظموه، فخشى منهم لأنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: خرجوا إِليَّ بأسلحتهم، ومنعوا مني الصدقات، وأطرحوني وأرادوا قتلي، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث لقتالهم، فجاؤوا إلى المدينة وقالوا يا رسول الله: لما بلغنا قدوم رسولك خرجنا نبجله ونعظمه فانصرف عنا، فاغتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فعل الوليد بن عقبة فنزل { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } يعني: بحديث كذب، وبخبر كذب { فَتَبَيَّنُواْ } يعني: وتعرفوا ولا تعجلوا { أَنْ تُصِيببُواْ } يعني: كيلا تصيبوا { قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } وأنتم لا تعلمون بأمرهم { فَتُصْبِحُواْ } يعني: فتصيروا { عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَـٰدِمِينَ } قرأ حمزة والكسائي "فَتَثَبَّتُوا" بالثاء، وقرأ الباقون "فَتَبَيَّنُواْ" مثل ما في سورة النساء، ثم قال للمؤمنين رضي الله عنهم { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ٱلأَمْرِ } يعني: ما أمرتم به، لأن الناس كانوا قد حرضوه على إرسالهم لقتال بني المصطلق، { لَعَنِتُّمْ } يعني: لأثمتم، وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } يعني: هذا نبيكم وخياركم لو يطيعكم في كثير من الأمْر لعنتم فكيف بكم اليوم، ويقال: لعنتم أي لهلكتم، وأصله من عنت البعير إذا انكسرت رجله، ثم ذكر لهم النعم فقال { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَـٰنَ } يعني؛ جعل حب الإيمان في قلوبكم { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ } يعني: حسنه للثواب الذي وعدكم، ويقال: دلكم عليه بالحجج القاطعة، ويقال: زينه في قلوبكم بتوفيقه إياكم لقبوله { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } يعني: بغض إليكم المعاصي والكفر. لما بينه من العقوبة. ثم قال: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرٰشِدُونَ } يعني: المهتدون، فذكر أول الآية على وجه المخاطبة، وآخر الآية بالمغايبة، ثم قال أُوْلَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا، فقد دخل في هذا المدح، وفي الآية دليل أن من كان مؤمناً فإنه لا يحب الفسوق والمعصية، لأن الله تعالى قال { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } والمؤمن إذا ابتلي بالمعصية فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك، لا لحبه للمعصية ثم قال، أي ذلك التحبيب والتبغيض { فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً } يعني: كان الإيمان الذي حببه إليكم، والكفر الذي بغضه إليكم كان فضلاً من الله ونعمة يعني رحمة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بخلقه { حَكِيمٌ } في أمره وقضائه.