التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
-المائدة

بحر العلوم

ثم قال عز وجل: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } يعني خزائن السموات والأرض. يعني: خزائن السموات: المطر وخزائن الأرض: النبات. ويقال: له ملك السموات والأَرض يحكم فيها ما يشاء { يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } إذا أصر على ذنوبه { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } إذا تاب ورجع، ومعناه أن السارق إذا تاب ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه وإن لم يتب قطعت يده. ألا ترى أن الله تعالى قال: { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ، يُعَذّبُ } إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب، فافعلوا أنتم مثل ذلك لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده وهو قوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } من المغفرة والعذاب. قوله تعالى: { يا أَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } نزلت في شأن «أبي لبابة بن عبد المنذر»، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حاصر بني قريظة فأشار إليهم أبو لبابة وكان حليفاً لهم، إنكم إن نزلتم من حصونكم قتلكم فلا تنزلوا، فنزلت هذه الآية: { يا أَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } أي يبادرون ويقعون في الكفر { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ: ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ } يعني ذلك بألسنتهم { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } في السر. وقال الضحاك نزلت الآية في شأن المنافقين كانت علانيتهم تصديقاً، وسرائرهم تكذيباً. قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } يعني: قوالون للكذب وقال القتبي: تفسير { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: قابلون للكذب لأن الرجل يسمع الحق والباطل، ولكن يقال: لا تسمعْ من فلان قولاً أي لا تقبله، ومعنى آخر: إنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك لأنهم إنما جالسوه لكي يقولوا: سمعنا منه كذا وكذا، وإنما صار { سَمَّـٰعُونَ } رفعاً لأن معناه هم { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } من { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } يعني أهل خيبر لم يأتوك وذلك أن رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا فكرهوا رجمهما فكتبوا إلى يهود بني قريظة: أن يذهبوا بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن حكم بالجلد رضوا عنه بحكمه، وإن حكم بالرجم لم يقبلوا، "وروى نافع عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكروا له: أن رجلاً وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟. فقالوا: يحممان ويجلدان يعني تسود وجوههما فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فأتوا بها فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها وقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق عبد الله بن سلام يا محمد، فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما" . قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحنو على المرأة يقيها الحجارة. وروى الشعبي عن جابر بن عبد الله أنه قال: " زنا رجل من أهل فَدَك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن يسألوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فإن أمركم بالحد فحدوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه، فسألوه فدعا ابن صوريا، وكان عالمهم وكان أعور فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنشُدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم؟. فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني بالله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية والاعتناق زنية، والقبلة زنية فإن شهد أربعة بأنهم رأوه كالميل في المكحلة فقد وجب الرجم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو ذلك" . وروي عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجال من اليهود، وقد تشاوروا في صاحب لهم، زنا بعدما أُحْصن قالوا: فانطَلقوا فلنسأل هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أفتانا بفتوى فيها تخفيف فاحتججنا عند الله تعالى بها، وإن أفتانا بما فرض الله علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك فقد تركنا ذلك في التوراة وهي أحق أن تطاع، فقالوا: يا أبا القاسم: إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن فما ترى عليه من العقوبة؟ فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه، حتى أتى بيت مدراس اليهود فوجدهم يتدارسون التوراة، فقال لهم "يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن؟ فقالوا: إنا نجد أن يجلد ويحمم، وسكت حبرهم وهو في جانب البيت، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - [ينشده فقال له حبرهم إذا ناشدتنا فإنا نجد عليه الرجم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] كان أول ما ترخصتم به أمر الله تعالى؟ قال: إنه قد زنى رجل قد أحصن وهو ذو قرابة لملك من ملوكنا فسجنه وأخر عنه الحد وزنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فجاء قومه وقالوا: لا ترجمْه حتى ترجم فلاناً فاصطلحوا بينهم على عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإني أقضي بينكم بما في التوراة" فنزل قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ، سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ } { لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ }. قال الزجاج: يعني: من بعد أن وضعه الله تعالى مواضعه، وأحل حلالة وحرم حرامه { يَقُولُونَ: إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ }. يعني: إن أمركم بالجلد فاقبلوه واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } يقولون: إن لم يوافقكم على ما تطلبون ويأمركم بالرجم فلا تقبلوا منه، قال الله تعالى: { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ } يعني كفره وشركه -. ويقال: فضيحته ويقال: اختباره { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } يقول لن تقدر أن تمنعه من عذاب الله شيئاً. ثم قال: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ } من الكفر ولم يرد أن يدخل حلاوة الإيمان في قلوبهم وخذلهم مجازاة لكفرهم. { لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } يعني القتل والسبي والجزية، وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }. أعظم مما كان في الدنيا.