التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٨٩
-المائدة

بحر العلوم

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم سمعوا من النبي - عليه السلام - وصف القيامة يوماً، وخوف النار والحساب فاجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، فتواثقوا بأن يخصوا أنفسهم ويترهبوا، فنهاهم الله عن ذلك، فنزلت هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ }. قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر، قال: حدثنا أبو القاسم أحمد بن محمد قال: حدثنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن مدرك بن قزعة عن سعيد بن المسيب قال: " جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، غلبني حديث النفس، ولا أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك قال - صلى الله عليه وسلم -: وما تحدثك نفسك يا عثمان؟ قال: تحدثني أن أخصي نفسي، قال: قال مهلاً يا عثمان، فإن إخصاء أمتي الصيام، قال: يا رسول الله، إن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال، فقال: مهلاً يا عثمان، فإن ترهيب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلوات، قال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض؟. قال: مهلاً يا عثمان: فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله، والحج والعمرة، قال: فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله؟ قال مهلاً يا عثمان، فإن صدقتك يوماً بيوم، وتكف نفسك وعيالك، وترحم المساكين واليتيم أفضل من ذلك، فقال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أطلق خَوْلة. فقال مهلاً يا عثمان، فإن الهجرة في أمتي مَنْ هجر ما حرم الله، أو هاجر إليّ في حياتي، أو زار قبري بعد وفاتي، أو مات وله امرأة، أو امرأتان أو ثلاث أو أربع، قال، يا رسول الله: فإن نهيتني أن أطلقها، فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشاها قال، مهلاً يا عثمان، فإن الرجل المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه فلم يكن من وقعته تلك ولد، كان له وصيفاً في الجنة، وإن كان من وقعته تلك ولد فمات قبله كان فرطاً وشفيعاً يوم القيامة، فإن مات بعده كان له نوراً يوم القيامة، فقال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم، قال: مهلا يا عثمان، فإني أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت ربي أن يطعمنيه في كل يوم لأطعمنيه، قال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا أمس الطيب، قال: مهلا يا عثمان فإن جبريل أمرني بالطيب غباغباً، وقال: لا تتركه يا عثمان، لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي، ثم مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة" ، ونزلت هذه الآية { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ }، { وَلاَ تَعْتَدُواْ } يقول: يعني لا تحرموا حلاله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } ويقال: إن مُحَرِّم ما أحل الله، كمُحِلِّ ما حرم الله. ثم قال: { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيّباً } من الطعام والشراب { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ولا تحرموا ما أحلّ الله لكم { ٱلَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } يعني إن كنتم مصدقين به، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه. ثم أمرهم الله تعالى بأن يكفروا أَيْمَانهم، لأنه لما حرموا الحلال على أنفسهم كان ذلك يميناً منهم، ولهذا قال أصحابنا: إذا قال الرجل لشيء حلال، هذا الشيء علي حرام يكون ذلك يميناً، فأمرهم الله تعالى بأن يأكلوا ويحنثوا في أيمانهم وفي الآية دليل: أن الرجل إذا حلف على شيء، والحنث خير له، ينبغي أن يحنث ويكفر بيمينه. وفيها دليل: أن الكفارة بعد الحنث، لأنه أمرهم بالحنث بقوله: (فكلوا) ثم أمرهم بالكفارة. وهو قوله تعالى:

{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِي أَيْمَـٰنِكُمْ } قال ابن عباس: اللغو أن يحلف الرجل على شيء بالله، وهو يرى أنه صادق، وهو فيه كاذب، وهكذا روي عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين: أن يحلف الرجل على شيء يظن أنه الذي حلف عليه - هو صادق - فإذا هو غير ذلك. وقال الحسن: هو الرجل يحلف على الشيء، يرى أنه كذلك وليس هو كذلك. وقال سعيد بن جبير: الرجل يحلف باليمين الذي لا ينبغي أن يحلف بها، يحرم شيئاً هو حلال، فلا يؤاخذه الله بتركه لكن يؤاخذه الله إن فعل. وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل، أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وأخرجني الله من مالي وولدي، وقالت عائشة: اللغو: هو قول الرجل، لا والله، وبلى والله، على شيء لم يعقده قلبه. ثم قال: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَـٰنَ }. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص (عقَّدتم) بالتشديد، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: (عَقَدتم) بالتخفيف وقرأ ابن عامر: (بما عقدتم) فمن قرأ: (عاقدتم) فهو من المعاقدة والمعاقدة تجري بين الاثنين، وهو أن يحلف الرجل لصاحبه بشيء، ومن قرأ بالتشديد، فهو للتأكيد، ومن قرأ بالتخفيف، لأن اليمين تكون مرة واحدة، والتشديد تجري في التكرار والإعادة. وروى عبد الرزاق، عن بكار بن عبد الله قال: سئل وهب بن منبه عن قوله: { عَلِيمٌ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِي أَيْمَـٰنِكُمْ } قال: الأَيْمَانُ ثلاثة لغو، وعقد، وصبر فأما اللغو: فلا والله، وبلى والله، لا يعقد عليه القلب، وأما العقد: أن يحلف الرجل، لا يفعله فيفعله فعليه الكفارة، وأما الصبر: بأن يحلف على مال ليقتطعه بيمينه، فلا كفارة له. وروى حسين بن عبد الرحمن، عن أبي مالك الغفاري قال: الأيمان ثلاثة، يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ الله بها، وذكر إلى آخره. ثم بين كفارة اليمين فقال تعالى: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ }. روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: الغداء والعشاء، وسئل شريح عن الكفارة فقال: الخبز والزيت، والخل والطيب، فقال السائل: أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم؟ قال ذلك أرفع طعام أهلك، وطعام الناس. وروي عن ابن الخطاب، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - أنهما قالا، لكل مسكين، نصف صاع من حنطة، يعني، إذا أراد أن يدفع إليهم، وإن أراد أن يطعمهم فالغذاء والعشاء. ثم قال: { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال مجاهد: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت. وقال إبراهيم النخعي: لكل مسكين ثوب. وقال الحسن: ثوبان أبيضان ثم قال: { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني يعتق رقبة، ولم يشترط ها هنا المؤمنة فيجوز الكفارة بالكافرة والمؤمنة، فالرجل بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة، { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الطعام ولا الكسوة ولا الرقبة فعليه { فَصِيَامُ } يعني صيام { ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ } وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال: سئل طاووس عن صيام الكفارة قال: يفرق: قال له مجاهد كان عبد الله يقرأ: متتابعات. قال: طاوس فهو أيضاً متتابعات. وروى مالك عن حميد، عن مجاهد، قال: كان أبي يقرأ، فصيام ثلاثة أيام متتابعات في الكفارة اليمين. ثم قال: { ذٰلِكَ } يعني الذي ذكر { كَفَّارَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ } عن الطعام والكسوة والعتق والصوم ثم قال { إِذَا حَلَفْتُمْ، وَٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ } يعني ليعلم الرجل ما حلف عليه، فليكفر يمينه، إذا حنث { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ } يعني أمره ونهيه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لكي تشكروا رب هذه النعمة، إذ جعل لكم مخرجاً من أيمانكم بالكفارة، والكفارة في اللغة: هو التغطية، يعني يغطي إثمه.