التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً
٢٨
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٢٩
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ
٣٠
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى
٣١
ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ
٣٢
-النجم

بحر العلوم

قال عز وجل: { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يعني: ليس لهم حجة على مقالتهم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } يعني: ما يتبعون إلا الظن يعني: على غير يقين { وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئاً } يعني: لا يمنعهم من عذاب الله شيئاً { فَأَعْرَضَ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا } يعني: اترك من أعرض عن القرآن ولا يؤمن به { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } يعني: لم يرد بعلمه الدار الآخرة إنما يريد به منفعة الدنيا { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ } يعني: غاية علمهم الحياة الدنيا، ويقال: ذلك منتهى علمهم لا يعلمون من أمر الآخرة شيئاً وهذا كقوله { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7].

ثم قال عز وجل: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } يعني: هو أعلم بمن ترك طريق الهدى { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } يعني: من تمسك بدين الإسلام، ومعناه فأعرض عنهم ولا تعاقبهم فإن الله عليم بعقوبة المشركين وبثواب المؤمنين، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم فقال { وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } من الخلق { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } يعني: ليعاقب في الآخرة الذين أشركوا وعملوا المعاصي { وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } يعني: ويثيب الذين آمنوا وأدوا الفرائض الخمسة بإحسانهم ثم نعت المحسنين فقال: { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإثْمِ وَٱلْفَوٰحِشَ } قرأ حمزة والكسائي كبير الإثم والفحش بلفظ الوحدان والمراد به الجنس والباقون كبائر الإثم بلفظ الجماعة، قال بعضهم كبائر الإثم يعني: الشرك بالله، والفواحش يعني: المعاصي وقال بعضهم: كبائر الإثم والفواحش بمعنى واحد، لأن كل فاحشة كبيرة، وكل كبيرة فاحشة وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "الكبائر أربعة الشرك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله" ، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكبائر سبعة فبلغ ذلك إلى عبد الله بن عباس فقال هي إلى السبعين أقرب، ويقال كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل كل ما أصر العبد عليه فهو كبيرة، كما روي عن بعضهم أنه قال لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. قال { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } وقال بعضهم: اللمم هو الصغائر من الذنوب يعني: إذا اجتنبت الكبائر يغفر الله صغار الذنوب من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة وهو كقوله تعالى: { { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ } [النساء: 31] قال مقاتل نزلت في شأن نبهان التمار وذلك أن امرأة أتت لتشتري التمر فقال لها ادخلي الحانوت فعانقها وقبلها فقالت المرأة خنت أخاك ولم تصب حاجتك فندم وذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى مسروق عن ابن مسعود قال زنا العينين النظر وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك الفرج، أو يكذبه فإن تقدم كان زنا وإن تأخر كان لمماً. وقال عكرمة اللمم النظر وحديث النفس ونحو ذلك، وروى طاووس عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فزنا العينين نظر الناظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وقال عبد الله بن الزبير - اللمم القبلة واللمس باليد وقال بعضهم اللمم كل ذنب يتوب عنه ولا يصر عليه وروى منصور عن مجاهد قال في قوله "إِلا اللمم" هو الرجل يذنب الذنب ثم ينزع عنه، وروي عن أبي هريرة قال اللمم النكاح وذكر ذلك لزيد بن أسلم فقال صدق إنما اللمم لمم أهل الجاهلية يقول الله تعالى في كتابه { { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف } [النساء: 23] وروي عن الحسن أنه قال: اللمم هو أن يصيب النظرة من المرأة والشربة من الخمر ثم ينزع عنه وروي عن مجاهد أنه قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه، وقد قال الشاعر:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد للَّه لا ألما

وقال بعضهم { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } ومعناه: ولا اللمم ومعناه: أن تجتنبوا صغائر الذنوب وكبائرها كما قال القائل وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير والعيش يعني: ولا اليعافير ولا العيس - وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إياكم والمحقرات من الذنوب" ، وسئل زيد بن ثابت عن قوله إلا اللمم قال حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ثم قال: { إِنَّ رَبَّكَ وٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ } يعني: واسع الفضل غافر الذنوب للذين يتوبون ويقال معناه رحمته واسعة على الذين يجتنبون الكبائر ثم قال: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } يعني: هو أعلم بحالكم منكم { إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } يعني: إذ هو خلقكم من الأرض يعني: خلق آدم من تراب وأنتم من ذريته { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } يعني: كنتم صغاراً { فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ } كان هو أعلم بحالكم منكم في ذلك كله { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ } يعني: لا تبرؤوا أنفسكم من الذنوب ولا تمدحوها، ويقال: ولا تزكوا أنفسكم يعني: لا يمدح بعضكم بعضاً، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" والمدح على ثلاثة أوجه أوله - أن يمدحه في وجهه فهو الذي نهي عنه، والثاني أن يمدحه بغير حضرته ويعلم أنه يبلغه فهو أيضاً منهي عنه، والثالث أن يمدحه في حال غيبته وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ويمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا، ويقال فلا تزكوا أنفسكم يعني: لا تطهروا أنفسكم من العيوب وهذا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "الناس كإبِل مائة لم يكن فيها راحلة" { بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } يعني: من يستحق المدح ومن لا يستحق المدح.